spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

دراسة نقديّة سيميولوجيا العنوان، التّجريب، دلالة المكان، الرّمز والجماليّة في رواية: “مرايا عمياء” للكاتبة التّونسية: عفيفة سعودي سميطي

عبد الحميد الطبّابي

مدخل

“مرايا عمياء” رواية للكاتبة التّونسيّة عفيفة سعودي سميطي..

تحوي صفحة الغلاف الأولى، على العنوان واسم الكاتبة، ويتوسّطها رسم بحجم 11,5×11,5 سم، بشكل تجريدي يتضمّن انكسارات حادّة للخطوط والأبعاد والتفافات الدّوائر وتعرّجاتها توحي بفوضويّة عبثيّة وسرياليّة تتخطّى المعاني. كما أنّ ألوان اللّوحة متنافرة تتدرّج من اللّون القاتم يحاصر خطوطا بادية في عمق اللّوحة، عموديّة وأفقيّة باللّون الحارّ، مرورا بما هو بارد يعكس شحنة الأمل.

تحوي الصّفحة الخلفيّة للغلاف، صورة للكاتبة بملامح الانشراح، ذات خلفيّة حمراء، وكذلك قائمة بإصداراتها والجوائز التي تحصّلت عليها. تتدرّج ألوان الصّفحة من الرّمادي إلى الزّهري، أو هو العكس. بأبعاد متكافئة.

صدرت الرّواية عن دار الأمينة للنّشر والتّوزيع بالقيروان. حجم الكتاب 14,5×21 سم، ويحوي 299 صفحة. صدّرته الكاتبة بمقولة لكارل غوستاف يونغ:<<من ينظر إلى الخارج يحلم.. ومن ينظر إلى الدّاخل يستيقظ..>>.

تقديم

 منذ البداية، تلج الرّواية بالقارئ داخل إطار مكاني استثنائي (مشفى الأمراض العقليّة)، لتنطلق به في حوار متسارع، بعبارات مختصرة محيّرة تثير دهشته..

بعد ردهة الاستقبال المثير، يتكشّف للقارئ الفضاء الذي زجّته الكاتبة به، من دون تمهيد، ليشعر بالارتباك.. غير أنّه يستعيد تماسكه، حينما يدرك أنّه تورّط في دائرة من الواقع غير المعتاد، ولابدّ له من التقدّم، إن رغب بالعثور على منفذ يسعفه بالخلاص من ورطته..

في تواتر متسارع أيضا، يستبطن الحوار إخبارا عن الانقلاب الذي سيحدث، ليتحوّل المشهد من حالة الهستيريا والتّخدير، إلى حالة استرجاع الذّاكرة واستعادة الرّوح لسكينتها ومعاودة التّركيز، ومن حالة الإحساس بتلاشي الكيان المادّي حتى العودة للحالة الطّبيعية. ليتغيّر إطار السّرد من المنغلق (المشفى) إلى البيت المفتوح وجوّ البهجة والفرح وتذكّر السّاردة في الحكاية الأولى، لحدث ليلة حنّائها كعروس..

تشرع في استحضار مشاهد العرس وتشخيص حالتها النّفسيّة والضّغط القهري المسلّط عليها، وهي في ذلك الوضع المزدحم..

ثمّ تنطلق السّاردة في استحضار وقائع من حياتها، بما يتخلّلها من قهر ومعاناة وألم وقصّة عشق..

لا تنحصر الرّواية في سرد حكاية واحدة، بل تشمل عدّة حكايات، ولكلّ منها شخصيتها السّاردة (الطّبيب الشّرعي، الطّبيبة، المحامية إلخ..)، تشترك جميعها في حالة الجنون ويجمعها مستشفى الأمراض العقليّة، لتجعلها الكاتبة تدوّن كلّ منها قصّتها، كشرط علاجي لاستعادة الذّاكرة المتشظّية وإضاءة خباياها المحجّبة.. وحتى تتحقّق الاستفاقة من الصّدمة التي قذفت بهذه الشّخصيات إلى محيط العتمة!

الأسباب والدّوافع لإحداث الصّدمة متنوّعة ومختلفة من حالة إلى أخرى، فهي نتيجة القهر والتسلّط وفجيعة الموت، اقتراف الجريمة البشعة، تسليط الضّغط القهري النّفسي والإكراه الجسدي، إلخ..

سيميولوجيا العنوان “مرايا عمياء”

 المرآة رمز كوني وهي أداة للاستعمال اليومي، يمتلك مساحة مصقولة بدقّة، تمكّنه من تشكيل الصّورة، بطريقة سهلة، من خلال الانعكاس.

ظهرت المرايا الأولى في شكل آنية بها ماء، معدّة أساسا لالتقاط الأجرام السّماوية، وهو ما يمكن أن نطلق عليها “المرايا الطّبيعية”. وكانت مخصّصة بالأساس لأغراض طقوسيّة.

أمّا المرايا المصنوعة، فقد ظهرت حوالي ستّ آلاف سنة قبل الميلاد، في بلاد الرّافدين ومصر الفرعونيّة. وهي مصقولة من حجارة بلّورية بركانيّة. أمّا اليوم، فقد صارت المرآة جهاز ضروري في كلّ بيت، وجودها مقرون بما هو تجميلي، تعكس بالأساس صورة الذّات التي تبدو أمامها، وحتّى التّشكيل الفنّي للفضاء الذي يواجهها.

  يعود أصل تسمية المرآة في الحضارة اللاتينيّة، إلى عبارة “Spécule” التي اشتقّ منها فعل “Spéculer” في اللّغة الفرنسية، ويعني الفعل في الأصل <<النّظر إلى الأجرام السّماوية من خلال مرآة>>، لينزاح معناها لاحقا، إلى <<تخمين ذهني مستقبلي بفضل مرآة العقل والتّفكير>>. وهكذا اختزلت المرآة في البداية معنيين، هما التّفكير والانعكاس. لينحصر معناها تاليا، في التّدقيق المقتصر على معنى الانعكاس فقط.

 يمكن أن تتمثّل المرآة على عدّة صور، فهي مرآة التّجميل، مرآة الشّاشة، مرآة المنظار، مرآة آلة التّصوير.. كما يمكن أن تكون ذات انعكاس متعدّد، من خلال الحالة التي هي عليها، كالمرآة العمياء، المنكسرة، المحدودبة، المقعّرة.. من خصائصها أيضا، تضعيف الحجم أو تصغيره وتضفي ألوانا على الشّكل.

 توفّر لنا المرآة أو انعكاسها صورة مطابقة للواقع أو شبهه تماما. ومن خلال وظيفتها الحاوية للانعكاس، هي رمز لصورة الواقع وكلّ ما يحتويه من رموز. بالتّالي، فهي رمز الرّموز.

هي مثال للرّمز، كما أنّها تمثّل النّسخ والازدواجيّة، الحقيقة والوهم، انعكاس الكمال والمشوّه.. وهي جميعها مفاهيم مرتبطة برمز المرآة. وهذا ما يدفعنا إلى طرح عديد الأسئلة، ابتداء بماهية المرآة، هل هي حقيقة أم وهم؟.. ماذا تعكس المرآة؟.. هل تحوي حقيقة في ذاتها، أم هي مجرّد فراغ؟.. هل تحفظ المرآة أثرا لما تعكسه أم لا؟.. هل يمكن لصورة الحقيقة أن تخترق جسم المرآة، أم لا؟.. إذ هنالك بعض المعتقدات الشّعبية التي تحذّر من التّحديق في المرآة، لأنّها تخطف الرّوح وتحتجزها!!..

السّؤال أيضا، هل المرآة تعرّفنا بذاتنا أم هي مجرّد عاكس لصورنا؟.. وهل صورنا التي تعكسها هذه المرآة، مطابقة للحقيقة، أم مجرّد انعكاس لما هو في ذاتنا ولحالتنا النفسيّة في لحظة زمنيّة معيّنة؟..

المرايا العمياء أو المعتّمة، هي بالأساس إيحاء بامتصاص قوّة انعكاس الصّورة والحدّ من وقعها، لأنّنا لا نستطيع مشاهدتها مباشرة لشدّة تأثيرها. وهذا ما يعطي مفهوما للمرآة، بأنّها رمز يعكس الحقيقة ويخفيها في نفس الوقت.

 هناك البعض ممّن يقول بأنّ حقيقة الكتابة لا يمكن فهمها، إلاّ عبر مرآة الرّمز. أي التّعبير عن الفكرة بشكل تصويري يتضمّن معنى رمزي، بغاية إدراك المعنى الحقيقي الذي يقصده النّص. مع وجوب تماسك المعنيين بشكل مترابط من خلال هذا الرّمز، واعتماد الغموض الذي لا يسمح بالفهم المباشر للنّص. وهكذا يؤدّي النّص وظيفة المرآة التي تعكس صورة أخرى لمضمون التّعابير والكلمات.

واعتمادا على المفهوم الفلسفي الميتافزيقي، فالمرآة هي موجودة لتعكس حقيقة ما، أو ماهية ذات درجة متعالية. إذ أنّ العالم الذي نعيش فيه هو انعكاس للمبدأ الأوّل السّرمدي اللّازمني المنعكس في العالم السّفلي الذي هو صورة مشوّهة أو زائفة من العالم الأوّل. (تناول هذا المفهوم كلّ من أفلاطون، أرسطو، ابن سينا، ابن رشد. حيث حدّد له أفلاطون انعكاس واحد، أرسطو وتماثلا معه ابن رشد حدّداه بثلاث درجات من الانحدار من العالم العلوي حتى السّفلي، ليصبح لهذا الانعكاس تجسيد مادّي روحي. أمّا ابن سينا فجعل لهذا الانعكاس عشر درجات..).. وهو ما يوحي حسب هذه النّظرية الفلسفية، أنّ اعتقادنا بعيش الحقيقة هو زائف، إذ نحن نعيش في عالم من الوهم. حيث أنّ الوجود مكوّن من مرايا بمستويات تراتبيّة على شكل هرم، تنحدر من الأعلى إلى الأسفل، عاكسة الصّورة العلويّة التي تفقد من حقيقتها في كلّ منزلة تنحدر إليها، حتى تبلغ مظلمة إلى هذا العالم السّفلي، العالم المظلم المنزوع من النّور المصدر الأوّل للوجود، ليكون عالم الشّرور والدّمويّة والظّلمة. وهو ما تتناوله رواية “المرايا العمياء”، لتبرز واقعا دراميّا مشحونا بالقسوة والتسلّط من جانب، ومعاناة القهر والإذلال والألم، من جهة أخرى.

 وإن كان لابدّ من تلميع المرآة حتى تظهر الحقيقة، فإنّ الكاتبة جعلت من مرآتها معتّمة لكي تعكس الحقيقة مشوّهة. لأنّها في الأصل كذلك. أو لعلّها قصدت أن تجعلها على تلك الحال، لأنّ حكايتها ليست في حاجة لمرآة أصلا، حتى تعكس جوهرها. فهي على درجة عالية في بشاعتها وتشوّهها..

 من خلال البسيكولوجيا، مرآة الرّوح هي التي تسمح بمعرفة الذّات، سواء في نقاوتها أم قبحها. إذ أنّ مرآة الرّوح هي عيون “الذّات”. ومثلما يقول “يونج” في مؤلّفه (La réalité de l’âme)[1]:<<من ينظر في مرآة الماء، يشاهد في البداية صورة نفسه، ومن يتوجّه نحو ذاته لا يصادف سوى نفسه. فالمرآة لا تتملّق وتظهر بصدق، ما هو موجود أمامها. يعني الوجه الذي نخفيه عن العالم، بواسطة القناع. فالمرآة توجد خلف القناع وتكشف الوجه الحقيقي. وهذه هي الخطوة الشّجاعة على درب اكتشاف ما بداخلنا..>>.

 من خلال التّقليد الشّعبي، وعند كافّة الشّعوب تقريبا، تعدّ المرآة المهشّمة علامة للمكروه، فهي دليل على الانفصال. أمّا المرآة الصّقيلة الشفّافة والسّليمة فهي رمز للانسجام والحماية. كما أنّه عند بعض الشّعوب، تعتبر الرّوح ومثالها المنعكس في المرآة، يجمع بينهما ترابط سحري. وهذا يعني أنّ المرآة يمكنها أحيانا، أن تحبس الرّوح بداخلها أو طاقة الشّخص الذي يحدّق فيها. بالتّالي، فإنّه من الخطير النّظر في المرآة، خوفا من حجزها للرّوح. وبناء على هذا التصوّر، ترفض بعض الشّعوب أن تُلتقط لها صور، فذلك “محرّم Tabou”، لأنّ آلة التّصوير ستسرق الطّاقة الحيويّة للشّخص الذي تُلتقط له الصّورة.

وفي مفهوم شعوب أخرى، تكون المرآة وسيلة للحماية من أذى النّفوس الشرّيرة، حيث تثبّت مرآة عند مدخل البيت؛ لتصدّ بانعكاسها كلّ ما يوجّه من الخارج نحو البيت، من مقاصد الأذى ونوايا السّوء.

هناك أيضا، المرآة المعتّمة أو العمياء، والتي تظهر فقط في الحلم، كدليل على الاضطراب النّفسي أو الهواجس المكتومة التي تسيطر على أحاسيس صاحبها. وهذه هي عقدة الرّواية التي ضمّنتها الكاتبة في عنوانها وأخفتها بعناية كشفرة سريّة لابدّ من فكّ رموزها ودلالاتها للولوج إلى جوهر الحقيقة المقصودة. ففي ميدان البسيكولوجيا، تعتبر الأحلام عادة، نوافذ على اللاوعي، تعكس رغباتنا المكبوتة، مخاوفنا العميقة ومشاغلنا اليوميّة!..

كما يمكن أن تكون المرآة عاكسة، ننظر فيها من دون أن نكون مرئيين بداخلها، وهي رمز للنّظر في الماضي. وقد استخدمتها الكاتبة كتقنية الاسترجاع (Flash-back)، لاستحضار هذا الماضي بشحنة آلامه، قسوته، انكسارات طموحاته وخيبات آماله.

 الكلمات والتّعابير هي أيضا، شكل للمرآة، وكلّ ما يذكر حول المرآة يمكن إقرانه بالتّعبير. فالكلمات هي وسيط لإيصال الخطاب في جميع أغراضه. وهدم الخطاب هو أيضا، تهشيم للمرآة، وهذا من أجل إعادة البناء أو التحرّر من مكبّل معيّن للإنسان. هذا الإنسان الذي يختزل بداخله مرآة فيزيولوجيّة بيولوجيّة. ولعلّ الكاتبة سعت من خلال خطابها الأدبي تفجير شحنة الألم الذي عانى منه أبطالها وكبّل ماضيهم، لتجلو مرآة هذا الماضي وتخترق من خلاله واقعا لبيئة اجتماعيّة قاسية منغلقة على ذاتها، متحصّنة بموروثها وقناعاتها، أو فساده وتشوّه وجوده..

 العنوان هو الوسيط الأوّل بين النّص والمتلقّي وهو مفتاح الولوج للعمل الأدبي.. قد يكون هذا العنوان مصدر جذب للقارئ، إذ هو أوّل رسالة يتلقّاها من الكاتب.. كما تكون العلاقة بين العنوان والنّص احتمالية أو هي متحرّكة غير مستقرّة. إذ أنّه إشارة تتضمّن استحضارا للمتن، رغم أنّ ذلك، يظلّ احتمالا..

العناوين ليست بالضّرورة تعبيرا عن المضمون بصورة مباشرة. فقد تكون مغلقة، مبهمة، رمزيّة، وتوجد صعوبة لإدراك الرّابط بينها وبين النّص. ويتوقّف على القارئ فكّ شفرتها، فينطلق منها إلى متن النّص، ثمّ يعود من المتن إلى العنوان.

وتتطلّب القراءة السّيميولوجية للعنوان، ثلاث مستويات:

– المستوى الصّوتي

– المستوى التّركيبي

– المستوى الدّلالي

1) المستوى الصّوتي:

يتكوّن العنوان <<مرايا عمياء>> من حروف جميعها جهريّة، ماعدا “الميم”. في نطقها جهد لساني وحلقي، ثقيلة الإيقاع كالمعنى الذي تحيلنا عليه، يعكس صورة من القتامة وعتمة الرّؤية.

2) المستوى التّركيبي:

يتركّب العنوان من عبارتين “واصف وموصوف”، يتضمّن تقابلا بين معنيين. من ناحية، عبارة “مرايا” تعكس الشّفافيّة والوضوح، ومن ناحية ثانية، عبارة “عمياء” تعكس الظّلمة والحجب وانعدام الإبصار..

3) المستوى الدّلالي:

يختزل العنوان ما هو رمزي ومجازي في نفس الوقت. فيه بيان للحضور “مرايا” وغياب “عمياء”، يشير إلى تحقّق الحدث وثباته. كما هو مضلّل ومخادع، عسير الإدراك، ولو بعد الاطّلاع على المتن. إذا لم يتمكّن القارئ من النّفاذ إلى المقصد الرّوائي من خلال البعدين السّيميولوجي والبسيكولوجي الكامنين في النّص.. يحيلنا العنوان على غياب النّور والاستغراق في القتامة، بالتّالي على تناول واقع (مأزوم، قهري، مؤلم، مربك، محبط، مدمّر للذّات..)..

التّجريب في رواية “مرايا عمياء”

 مفهوم التّجريب مصطلح يطلق على الرّواية الحداثية التي تمرّدت على الرّواية الكلاسيكيّة، لتبتكر طرائق جديدة وتقنيات مستحدثة في الكتابة. ومسّت هذه الطّرائق الشّكل والمضمون. كما تجاوزت بنية الرّواية الكلاسيكيّة وقواعدها التي ترتكز على بداية وعقدة ونهاية، شخصيات رئيسيّة وأخرى ثانويّة.. هي رواية ثائرة على القديم واختلقت لنفسها أنماطا جديدة من الكتابة. هي تمرّد وخلق للقالب الذّاتي في الكتابة، يبتكره الكاتب ولا يحصر نفسه في القديم، بل يتّبع خطّ التّجديد والتّغيير المستمرّ. فهي نبذ جمود المحافظة على طريقة وحيدة في الكتابة وتطوير لنمطها، مسايرة للواقع المتجدّد وتطوّر الحياة. إذ يقول المنظّر “ميخائيل باختين” :<<الرّواية لا تخضع للتّقنين>>. كما يقول النّاقد “ألان روب قرييه” في كتابه”نحو رواية جديدة”:<<..والحقيقة أنّ قوّة الرّوائي تكمن في أنّه يخترع بحرّية، دون أن يتقيّد بنموذج أو مثال، وذلك ما يميّز الرّواية الجديدة>>. حيث أنّ ذات الكاتب هي التي تملي عليه نمط إنتاجه لأدبه وليس الخضوع للقوالب الجاهزة. فجوهر الإبداع هو تجاوز المألوف.

مظاهر التّجريب في رواية “مرايا عمياء”.  

  • كسر خطّية الزّمن:

 الزّمن في رواية “مرايا عمياء” ليس منتظما “بداية-نهاية”، بل إيقاعه مضطرب ومتداخل، يمتزج فيه الحاضر بالماضي: الحدث الآني يواكبه الاسترجاع، الزّمن المادّي يخترقه الزّمن النّفسي، الزّمن الواقعي يطغى عليه أحيانا الزّمن الواهم والمتخيّل.. وهو ما يجعل الرّواية متشظّيه في تتابعها الزّمني، مهشّمة، متقطّعة ومتداخلة في سرديتها . لكنّها مركّبة بعناية ومتلاحمة الأجزاء، لتبدو كلوحة واحدة بأبعاد مختلفة، تعكس بنيتها حقيقة واحدة. يمكن أن نطلق عليها الرّواية “الشّعاعية”، تنطلق من بؤرة ضوء واحدة ليتوزّع هذا الضّوء إلى عدّة أبعاد، تتمدّد خيوطه أحيانا وتنكسر أحيانا أخرى، عائدة إلى مصدر انطلاقها، تنطفئ أحيانا وتتلاشى، ثمّ تعود فتشرق مرّة أخرى. وهي كلّها أحداث تُسرد في تواتر زمني غير مسترسل وغير منتظم..

الزّمن الحقيقي مرتبط بالمكان الواقعي الذي ينطلق منه السّرد والحدث، وهو مستشفى الأمراض العقليّة. هذا الفضاء المغلق تلتقي فيه الشّخصيات السّاردة، لتروي كلّ منها حكايتها بما تشمله من ظروف حياتيّة مختلفة عن الأخرى، حدّ التّناقض في أغلب الأحيان.. هو أسلوب للعلاج، باعتماد طريقة التذكّر لتنشيط الذّاكرة، بغرض إعادة تشكيل الذّات الغائبة بفعل الجنون.. هو ترميم لمكوّنات الذّاكرة المتلاشية عن طريق الحكي والتّدوين والرّسم إلخ.. من خلال هذا التذكّر، تتفرّع حكايات الرّواية ويختلف الرّواة. ننطلق من مكان واقعي واحد مغلق، إلى فضاءات متباعدة، مفتوحة ومتنوّعة لتروي كلّ شخصيّة وقائع حياتها الخاصّة بها. بأسلوب المراوحة بينها، لتكون أحيانا منطقيّة وفي أخرى شاذّة إلى حدّ الهذيان!.. ممّا يجعل زمن الحكي منكسرا وغير مترابط.. فيبدو نمط الاستخدام الزّمني عند الكاتبة متمرّدا على المعهود. وهي تقنية مبتدعة، متفرّدة، تكسر البناء المتعارف عليه للرّواية الكلاسيكية في تدرّجها الكرونولوجي وللأحداث بما تشتمل عليه من خطّية:(نشوب الصّراع، بلوغ ذروة التّأزّم، الانفتاح على أفق جديد). بل هي مغايرة تعتمد أسلوب تركيب الحكاية والمزج بين الأحداث وتداخلها. فتنطلق من المكان الواحد نحو أبعاد مختلفة في زمانها وإطار حدوثها وظروفها البيئية المتنوّعة، بأبطال متعدّدين يعانون الاختلال العقلي والأزمات النّفسية، مضطربين منكسرين أحيانا، وعاقلين، عاطفيين إلى حدّ بعيد، في فترات أخرى. تحاول الطّبيبة المعالجة تحفيز ذاكرتهم كشرط علاجي.

  • التخلّي عن مفهوم الشّخصية البطلة

في رواية التّجريب لم تعد هناك شخصيات رئيسيّة وأخرى ثانويّة. صارت جميعها رموزا لما يهدف إليه الكاتب أو الكاتبة من تجسيد للفكرة، أو مجموعة الأفكار التي يرغب أو ترغب بتسريبها إلى المتلقّي. لتتخلّى الشّخصية عن مكوّنها المادّي المحسوس لفائدة الفكرة الذّهنية الموحية.. في روايتنا الحالية، تتناول الكاتبة تيمة “الجنون”، من خلال شخصيات مركّبة في شكل ترابط حكائي قصصي، من خلال عديد المواقف الحياتيّة والأماكن والمواضع وتصرّفاتها وانفعالاتها بانعكاساتها الإيجابية والسّلبية. لتوحي إلينا، بأنّ الجنون ليس مبعثه الاختلال في التّوازن النّفسي الدّاخلي للفرد، بل هو نتيجة لحالة قهريّة تُسلّط عليه من الخارج، من بيئته ومحيطه المباشر خاصّة. من دون أن تسقط الكاتبة في الخطاب التّحليلي المباشر، متجنّبة سطحيّة الكتابة. إذ تذكر على لسان شخصيتها المحوريّة في الحكاية الأولى:<<.. في المطبخ، وبعد أن بطحتني على بطني فوق فخذيها (إشارة إلى الجدّة) وحشت رأسي تحت إبطها محكمة القبض عليّ بعضدها، رفعت ثوبي وبجذبة قويّة أنزلت تبّاني، وبذلك السّيخ المحميّ كوت مؤخّرتي، سمعت صوت جلدي المشويّ وشممت رائحته. كان صراخي يتحوّل إلى خوار تحت إبطها الذي سدّ فمي فاحّا برائحة تيس هائج، اطلقتني وظلّت رافعة السّيخ المتوهّج أمام وجهي:

– لو فتحت فمك أكويك مرّة أخرى[2]>>..

وتضيف في موضع آخر:<<..كانت قاسية كالصّخرة وفي الحال رفعت عصا زيتون يابسة وهوت بها على عجزي وساقيّ النّحيلتين، انتفضت ورفعت ذراعيّ صارخة.. لم تكتف بذلك، بل جرّتني إلى المطبخ وهناك غمست يدها في جرّة “الهروس” وسحبت لقمة منها.. قبضت عليّ وشلّت حركتي، ثمّ حشت تلك اللّقمة في فمي وظلّت تفركها على شفتي وأنفي.. وسحبت لقمة أخرى، وهذه المرّة مضت إلى منطقتي الحميميّة، بعد أن أنزلت سروالي بحركة عنيفة وفركتها بكلّ ما أوتيت من قوّة.. سكنت بعد أن مضى الفلفل إلى حلقي وأنفي وعينيّ، فقدت التّنفّس وشعرت بالموت، ثمّ شرعت انتفض وأقفز وأشهق، بعد أن تفحّمت ولم أعد قادرة على الصّراخ، ركلتني وغادرت المكان[3]..

لتضيف في سرد لاحق:<<.. لم تمّح من ذهني آلام أمّي ومعاناتها، أخذ الأمر آنذاك منحى آخر وخبرت معه آلاما أشدّ قسوة من عنف جدّتي، بدأت أعراض الانهيارات تظهر عليها.. فمرّات عديدة تنسلّ نحو المطبخ وتفتح في جسدها جراحا عميقة[4]..>>..

ومن قهر البيئة الأسريّة إلى قهر المحيط المسلّط على شخصياتها، تورد “زينة” التي استبدّ بها الجنون، قائلة:<<.. ظللت أجدّف نحو بيت آت من أزمنة سحيقة، أجلس قبل شروق الشّمس وأتوقّف عن النّسج بعد غروبها.. قبل أن أدخل لغرفتي، أشخص للأفق المتوهّج ويأسرني منظر الجبال المشتعلة، في وقفتي تلك، يكون قطار العالم وبسرعته الوحشيّة قد دهس فرص صعودنا إليه، ومثل عقارب السّاعة المهشّمة تتناثر تحت عجلاته الحديدية تذاكرنا الفائتة آجالها، ترتجّ الأرض تحتي كلّما فجّر الدّيناميت المقاطع ويدفن الغبار وجه الشّمس الغارب[5]..>>.

ضمن الحكاية الثّانية، تورد شخصيّة الدّكتور الذي هو بدوره نزيل مستشفى الأمراض العقليّة، الظّروف القهريّة التي حاصرته لتدفعه إلى حالة الجنون، حينما وجد نفسه في ضائقة مالية، ليرضخ لابتزاز أحد المتنفّذين الذي أغراه بالمال، ليقترف جرما يتنافى ورسالته الإنسانيّة وقسمه الذي أدّاه ليمارس مهنته كطيب، فيتذكّر واصفا تفاصيل بشاعة فعله مع عشيقته، بإلزام من صاحب الأمر الذي كلّفه بالمهمّة:<<..كان ولداي يتخبّطان في أعماقها ويصرخان، اطلقتها فسقطت من جديد فوق الصّفيحة، التقطت بسرعة مشرطي، ثمّ وعند أعلى الرّغامي وفي مستوى نصف رقبتها، غرزته. أحدثت شقّا عموديّا عميقا مضى حتّى بلغ عانتها، انحرفت به قليلا إلى اليسار، انبعث بخار لحمها واخترق أنفي، شحب وجهي القديم وغدا مثل ورقة خريف.. شرعت في قصّ شريحة صدرها، تفرّق ثدياها الغضّان.. أوغل مشرطي في جسد “جالاتيا”. تدفّقت سوائل جسدها، ارتخى جلدها، فتحت بطنها وأخرجت أمعاءها.. مضى مشرطي إلى رحمها، شققته، ظللت أحدّق في تلك المضغة الصّغيرة مرتعدا[6]..>>..  

وتظلّ الرّواية تعجّ بشواهد الرّمز الذي يعكس الفكرة التي تتقصّدها الكاتبة في سرديتها، بأنّ سبب الجنون فعل قهري خارجي يسلّط على النّفس، ليتجاوز قدرة تحمّلها ومقاومتها، فتتفجّر الذّات وتتشظّى إلى مكوّنات تشتغل كلّ منها باستقلال عن الأخرى، في شكل فوضوي، فما عاد يمكن السّيطرة عليها. وكنتيجة لذلك، يرتبك الإدراك ويختلّ الفعل ويتصادم مع ضوابط البيئة المحيطة ونواميس المتعارف عليه من الممارسة السويّة.

تورد الكاتبة دلالات روايتها في شكل تضمين من خلال رموز موحية، دون أن تتكشّف الكتابة عن القصديّة الصّريحة التي تحدّ من عمق مدلولها. وهو أسلوب اعتمدته منذ العنوان الغامض للرّواية وحتى نهايتها.

3 – توظيف التّراث وخرق المحظورات

في الرّواية توظيف مكثّف للتّراث ببعديه المادّي واللامادّي خاصّة.. فمن خلاله استطاعت الكاتبة أن تكشف عن خفايا كامنة وراء مختلف التّعبيرات التقليديّة (شفويّة، طقوس، معتقدات روحيّة، احتفالات، موسيقى، رقص، ألعاب، صناعة يدويّة، إلخ..).. بنفاذها إلى هذه الممارسات الاجتماعيّة، توفّقت الكاتبة إلى تعرية المسكوت عنه في بعض جوانب التّراث، خاصّة الرّوحيّ منه، إلى حدّ إدهاش المتلقّي وإثارة حيرته واستغرابه. وبما أنّ محور الرّواية يدور حول الجنون والقهر والتسلّط وما ينتج عنهما من ألم ومعاناة، حتى بلوغ مرحلة الاضطراب، حينما تنفد طاقة التحمّل الجسدي والنّفسي. فقد سعت الكاتبة إلى استغلال مكوّنات التّراث لنقد الواقع الحالي بكلّ ما فيه من بشاعة وقسوة، باعتماد أسلوب التّضمين دوما.

تسرد الشّخصيّة المحوريّة “زينة” ضمن الحكاية الأولى، ما تعرّضت له أمّها من حالات القهر والإهانة عن طريق جدّتها وأبيها، فتقول:<<..عندما أحسب السّاعات التي تقضيها أمّي في شقائها اليومي أجدها تفوق ساعات عمله ( الأب)، لا تتكلّم إلاّ نادرا، يطالها العقاب مهما تفانت في الطّاعة. أجهضت مرّات عديدة، لأنّ جدّتي تحمّلها ما لا طاقة لها به، وعند كلّ إجهاض تعيّرها بنعوت موجعة.. ثمّ تهدّدها بالطّلاق إن لم يصلب عودها[7]..>>.. إلى أن تورد لاحقا:<<..ظلّت امّي تدفع ثمن ذلك عمرا خلف التّنانير والمناسج، داخل الزّرائب والأقنان، وتحت قدمي جدّتي[8]..>>… وفي موضع آخر:<<..عندما تنتابها حالات الانهيار المريعة تشرع في خبط رأسها على الجدار، أحاول منعها، لكنّها تدفعني بضراوة وتسقطني أرضا. تندفع نحوها جدّتي بعصا غليظة وتشرع في ضربها حتّى تخمد وتسقط في غيبوبة طويلة[9]..>>..

يمهّد هذا الحكي، لاستحضار التّراث فيما يمثّله من معتقدات روحيّة شعبية وممارسات طقوسيّة متأصّلة في ذهنية المجموعة، ومميّزات البيئة التي تمثّل إطار الحكاية. لتروي زينة:<<.. فُرشت الحصر والبسط، أنيرت المصابيح، صفّفت الكوانين.. اخذ رجال الحضرة أماكنهم وشرعوا في تسخين البنادير والدّربوكات.. ارتفع صوت الإنشاد وزغردت النّساء.. لم تمض دقائق حتى قفز للحلبة عدد من الحاضرين وبدأت الأجساد تشطح وتحرّك رؤوسها بسرعة مذهلة.. كان المعالج (شيخ المزار) يتنقّل بين الأجساد الهائجة.. بدا مثل رسول ينزل من ذلك الجبل ليخلّص البشر من آلامهم.. كنت أفكّر في تلك العروس النّائمة في غرفته.. كانت تغطّ في نوم عميق، مضيئة جميلة.. تبدو مثل دمية نائمة.. فجأة انفتح الباب.. ما لبث أن هوى على فمها وشرع يقبّلها.. مسح عضوه وألقى بتلك المنشفة في اتّجاه الصّندوق، وضع ملابسه، ثمّ ألبسها وغادر الغرفة[10]>>..

<<.. ودخل رجال الحضرة حاملين جسد أمّي ومدّدوها على الزّربية ثمّ غادروا، ظللت أحدّق فيها مشلولة.. انفتح الباب.. يغلقه بالمفتاح ويتقدّم نحوها ثمّ يشرع في نزع ثيابها..>>..

هنا يفضح السّرد خفايا المعتقد التّراثي، فينزع عنه ستار العفّة والمقدّس الرّوحي، ليبرزه في حقيقته المدنّسة المخادعة.. فيتحوّل هذا التّراث الرّوحي من معتقد للعلاج والتخلّص من خاصيّة مرض هو الأقدر على علاجه في التصوّر الجمعي، ليتحوّل إلى استخدام للممارسة الرّذيلة وامتهان الجسد واشباع النّزوات الجنسيّة المرضيّة..

هو الكشف عن القبح والخداع الذي يكتنف المعتقد الرّوحي وما يكمن فيه من بشاعة الاستغلال للسّذاجة الذّهنية للمجموعة.

لا ينحصر توظيف الكاتبة للتّراث في جانبه الرّوحي فقط، بل يتجاوزه إلى تصوير واستحضار بعض خاصّياته الأخرى، حرفيّة، احتفالية، غنائيّة، لتكشف لنا أنّ ما يتجلّى لنا من تشكيله الجمالي، يخفي أحيانا شقاء بدنيا ومعاناة نفسيّة غائبة، عكس الصّورة الزّاهية التي يمكن أن يبدو عليها وما تعكسه من قيمة وجودة في الذّهن..

تتذكّر زينة معاناتها:<<..أجلت بصري في منسوجاتي الصّوفيّة التي كست جدران الفناء.. تأمّلتها وهي تتوهّج تحت الأضواء الملوّنة، كانت تطلق حالة من الجمال الآسر تشدّ الأنظار، حوّلت المكان بهندسة أشكالها وألوانها إلى بانوراما.. في أعماقي العاتمة كنت أمتّن للنّسج الذي ترجم عذاباتي بهذه الطّريقة البديعة، حزنت كثيرا وشعرت بالقهر عندما بادرتني جدّتي بلؤم:

– لن تغادر هذه المنسوجات البيت.

– ومشاركتي في المعرض؟

– لم نعد في حاجة إليها، سيفرش لك زوجك الحرير.

– لا يعنيني الحرير.

– رفعت سبّابتها في وجهي مهدّدة[11]..>>..

يتمادى السّرد بمزيد تذكّر زينة لمعاناتها من النّسج، فتقول:<<.. افتح عيني مرتعبة لأجد إبهامي وسبّابة يدي اليمنى منتفخين، حلقتا المقصّ غائصتان في لحمي و”الخلالة” رابضة في حجري، أسنانها الحادّة ماضية إلى أسفل صرّتي، وأنفي مغروز بين خيوط المنسج المشدودة، تطلّ أرنبته على الجانب الآخر منه وصفّ من الثّقوب الصّغيرة يدفق قطرات دم[12]..>>..

وتضيف زينة في وصف لمشهد من قساوة الحرمان:<<.. لم يكن ينغّص عليّ بهجتي سوى مقصّ جدّتي الذي يلوّح مهدّدا، ما أن دققت آخر خيط فيها حتى تقدّمت وهوت به على الخيوط فقصّتها، سقطت منسوجتي غضّة، حيّة.. طرحتها أرضا وشرعت تزحف فوقها.. تتوقّد في عينيها نظرات الجشع.. هتفت حاسمة:

– سأبيعها..>>[13]..

هنا تلمّح الكاتبة إلى أنّ جمال القطع التّراثيّة يكمن وراءه حمل من الشّقاء والإنهاك الجسدي، خاصّة عند المرأة، فلا ينالها منه، سوى الحرمان.. هو استحضار للتّراث يكتنفه إدانة لقهر المرأة في مجتمع تقليدي لا عرفان له بجهدها ولا بمعاناتها، يعاملها ككائن دونيّ يسلّط عليه القهر والإذلال، ولا يعترف لها بذاتيتها وأحاسيس كينونتها.

4 – توظيف التّاريخ الاجتماعي الأنتروبولوجي

 حتى توحي بالبيئة الاجتماعيّة التي تدور فيها أحداث روايتها وتبرز خصوصيّة الذّهنيّة التي تتحكّم بتصرّفات شخصياتها، وظّفت الكاتبة بإحكام إيحائي دقيق، فيه توجيه لذهن المتلقّي لتلقّف اللحظة التّاريخية لأحداث الرّواية وطبيعة المكوّن الاجتماعي بطبائعه ومعتقداته وسلوكياته المتفرّدة. وهو ما جعل الرّواية تمثّل تفرّدا يقتحم مجال الخصوصيّة كموضوع للكتابة، وهي ميزة نادرة ولكنّها تمثّل أفق الكتابة الإبداعيّة، إلى جانب تناول إنسان ومجتمع المستقبل وما يشتمل عليه ذلك من تعقيدات حياتيّة!..

وظّفت الكاتبة في سرديتها الحكاية الشّعبيّة، الخرافة، التّقليد الاحتفالي، المعتقد الرّوحي والتّعويذة، الرّموز، إلخ.. وهي تقنية تصويريّة ترسم لوحات تشكيليّة للأطر التي تتحرّك فيها شخوص الرّواية وتفاعلاتها الإيجابيّة والسّلبية معها. كما تكشف عن المخزون التّراثي الأنتروبولوجي المتوارث والمتحكّم بذهنيّة الفرد والجماعة والموجّه لسلوكياتهم..

من مظاهر التميّز للبيئة الاجتماعيّة التي تدور فيها أحداث الرّواية، ما تسرده الشخصيّة المحوريّة للحكاية الأولى، حول حليّ العروس وزينتها:<<..كانت الحنّاء برائحتها الغامضة القويّة تتضوّع حولي وتهزم رائحة الكبريت الخانقة، بخور جدّتي كان عطنا مستفزّا.. أمّا قلادة صديقتي فكانت واحة من العنبر والمحلب، وضعتها حول عنقي، وللحال مضت أناملي تتلمّس المثلّثات الصّغيرة التي شكّلتها ببراعة، رفعتها لأنفي وشرعت أتنشّقها بعمق[14]..>>..

هو وصف تؤكّد فيه الكاتبة عن تميّز موروث تزيين العروس في هذه البيئة ورسوبيّة تقاليدها وعدم تأثّرها بالتّجديد..

ولمزيد إبراز الخصوصيّة، تذكر هذه الشخصّية المحوريّة:<<.. كنت آنذاك في بحث مضن عن أقدم نماذج النّسج، ليقيني أنّها تحمل من عنفوان الرّوح والغريزة ما يجعلها الأقدر على الثّبات[15]..>>.. وهو ما تعزّز به تصوّرها لجمال وروعة المنسوجات التقليديّة، الذي ذكرته آنفا:<<..ففي قريتنا المنسيّة تسيطر هذه الغريزة على أذهان النّساء حدّ اعتناق المناسج و”الخلالات”، تأمّلتها وهي تتوهّج تحت الأضواء الملوّنة، كانت تطلق حالة من الجمال الآسر تشدّ الأنظار، حوّلت المكان بهندسة أشكالها وجمال ألوانها إلى بانوراما[16]..>>..

أوحت الكاتبة بالرّمز من خلال بعض العلامات الجسديّة الخارجيّة أو سمات الإطار المكاني لتعكس بيئة موسومة بموروث العتيق، فتذكر:<<..حملتني أوشامها المتناثرة فوق جسدها الذّاوي إلى نول قديم لم تطله معاول الحفر والتّنقيب..[17]>>.. <<..يواجهنا جدار من الآجر مليء بالشّقوق والفجوات، دقّت جدّتي في جسده مسامير صدئة كبيرة وأوتادا، تأرجحت منها ملابس مهترئة: برانس، جبّات، سراويل، قشّابيات، “مليات”، وأدوات متعدّدة الوظائف: قفاف، عدائل، غرابيل، حبال، شباك، قرب ونطوع[18]..>>..  

كما تستخدم الكاتبة الرّمز وأسراره لتحفيز ذاكرة شخصيتها المريضة المحتجزة بمشفى الأمراض العقليّة:<<..شرعت أتلمّس أجسادها، للحال أفصحت الرّموز عن أسرارها ولم تلبث موسيقى نابعة من اشكالها البديعة أن سافرت بي إلى عصور تلك الأنثى حيث ترقد بكامل زينتها.. أوشامها تنبعث قويّة نفّاذة، مرّرت يدي تحت جسدها المعطّر وسحبت ذلك الرّسم المنشود[19]>>.

وإمعانا من الكاتبة في تصوير خصوصيّة التميّز للبيئة الاجتماعيّة التي تدور فيها أحداث الرّواية، بالأساس ضمن حكايتها الأولى، فتعدّد أوصاف المرأة التي يتخيّلها الرّجل العاشق في تلك القرية المنجميّة النّائية:<<..إيقاعها يجعلني كلّ مساء أحلم بليلة حبّ حارّة، أصغي فيها لرنين أساورك وخلاخيلك الصّادحة فوق مفاصلك، أنزلق فيها بين “حراماتك” الحريريّة و”تقريطاتك” الملوّنة، ألتفّ معك ببخانيق “الحايك”، أحدّق في خصرك المشدود بأحزمة الصّوف الملوّنة، وهو يهتزّ ويدور على وقع المزامير والطّبول، أتنفّس ملء رئتي شذا العنبر والحرقوس المتضوّع من جسدك[20]>>.

ضمن السّرد تورد شخصيّة زينة ما يحيل على الواقع الاجتماعي الذي تدور فيه أحداث حكايتها التي ترويها بنفسها:<<..نصيبنا من وقته بعد أن ينهي عمله، كان يقضيه في ذلك المقرّ مع “خدّامة المينة” يسبّ الدّولة التي تستغلّ مناجم المنطقة ويحرّض العمّال على الغضب والإضرابات.. تكوّنت أفكار في ذهني الصّغير عن أوضاعهم وعن تلك الدّواميس التي تنهكهم، التقطت أسماء ومفردات ظلّت عالقة بذاكرتي:”الكوبّانية، الشّمال، الجنوب، المناولة، السرّاق، الرّديف، أم العرائس، الماشينة، المتلوي[21]..”>>..

ولتصوير المعتقد الذّهني والمميّزات الأنتروبولوجيّة بما تحتفظ به من خصائص طقوسيّة ضمن ممارساتها الاحتفاليّة، باستخدام التّمائم، التّعاويذ، الأبخرة إلخ.. بغاية طرد الأرواح الشرّيرة وحجب العين المؤذية، حماية الأنفس وتحصين المحلّ.. أوردت السّاردة مشهدا طقوسيّا يواكب احتفال الزّفاف[22]:<<.. انكفأ رأس الغزال المعلّق فوق الباب واتّجه نحو الأرض، رغم صرّات الكمّون والملح الخشن، أشواك سمك المنّاني الطّويلة والخرزات الزّجاجيّة الزّرقاء الكبيرة التي تحمل عيونا وسطها، فإنّ ارتخاء القرنين إلى الأسفل روّعها… تحت هجير الشّمس الحارقة، تدقّ المسامير لتعلّق فيها تلك الأيادي والأسماك الفخّارية، كما أخرجت من “الغرارة” رؤوس الغزلان والحربوات المجفّفة وظلّت تبحث عن طريقة توزيعها على كلّ الجدران وأبواب الغرف.. عزّزت دفاعاتها برؤوس أخرى محشوّة بالقشّ، علّقت الغرابيل أيضا، وقوارير صغيرة بلاستيكيّة معبّأة بماء زمزم.. هذه مياه ربّنا وستطفئ نيران عيونهنّ..>>..

وفي مشهد يعكس المعتقد الرّوحاني لبيئة الحكاية، وفيه فضح أيضا، لخداع أدعياء تملّك الخوارق الشفائيّة وأصحاب السّتر وكشف ممارساتهم الشّاذة،:<<..غمس الشّيخ المبارك أصابعه في زيوت معطّرة وشرع يمسّدها، ظللت أتابع راحتيه وهما تنزلقان فوق ساقيها وتصعدان نحو فخذيها، ثمّ تتوقّفان عند ردفيها لتتعالى همهماته الحارّة في شكل أدعية محمومة.

– يا الله يا رحمان يا رحيم، ضع يديك الرّحيمتين على جسدها المضروب واشفها يا كاشف الضرّ عن المكروب!

ثمّ يعرّي بطنها ويضغط على صرّتها ويرتفع صوته من جديد منغّما:

– فارق جسدها أيّها الجان واكفنا شرّ قتالك! .. اخرج من جسدها أيّها الكافر الملعون..

يوقد أعواد العنبر وتتضوّع رائحته القويّة، يغرس ركبتيه حول ردفيها ويرتفع صوته وتتغيّر سحنته..

ينتفض جسد أمّي، تغيم الغرفة، يحتدّ صوته، يهتزّ فوقها، تمضي يداه فوق نهديها وتظلاّن هناك ثمّ تطوّقان عنقها:

– لك النّار يا ملعون، اخرج من جسدها يا منبوذ![23]..>>..  

ضمن الحكاية الثّانية التي يتغيّر فيها السّارد، الذي يمثّل شخصيّة طبيب شرعي هو بدوره نزيل مستشفى الأمراض العقليّة لما تعرّض له من قهر وتسلّط وتوظيف؛ حتى يخون عهده الإنساني وينحرف نحو اقتراف المحظور، فيمثّل بالجثّث التي يشرّحها، لإخفاء أدلّة الجريمة.. لم يتحمّل ذلك الكمّ الهائل من الضّغط النّفسي وتأنيب الضّمير الذي عاني منه، لينتهي إلى مرحلة الجنون.

عند استبدال الرّاوي، تغيّر إطار الحكي، لتلج بنا الكاتبة إلى مشهديّة جديدة، تصوّر نمطا عصريا من الحياة الاجتماعيّة، بمختلف مكوّناتها البشريّة، المكانيّة العمرانيّة، السّلوكيّة والعلائقيّة، إلخ..

يورد السّارد ضمن إطار أوّل للمكان:<<..صوت المطر ينقر مطريتي، يحثّني على السّير في شوارع المدينة المغتسلة باعثا فيّ حالة الحياة.. تنعش وجداني أنوار الأعمدة الكهربائيّة الممتدّة على كامل شارع الحبيب بورقيبة. سرت جيئة وذهابا حتى شعرت بالجوع، ولجت مطعما رخيصا بأحد شوارع العاصمة. كنت أجيل بصري في الوجوه حتى لمحتها.. كان هناك شيء روحاني في نظراتها النقيّة وحركاتها الهادئة حتى لكأنّها طيف نزل من السّماء[24]..>>..

وضمن إطار ثان، يورد الطّبيب:<<..اتّصلت بي من الغد، أخذتني إلى مرسمها، هناك وقفت منبهرا، لا أدري كيف وبكلّ بساطة خلقت ذلك الكون الفخم.. منزل صغير في أعلى منحدر صخريّ بضاحية “سيدي بوسعيد”، يشرف على المتوسّط، بدا لي وأنا أطلّ على الزّرقة أنّي واقف وسط شرفة معلّقة في السّماء… خيّل إليّ لفرط طاقتها أنّها ربّة إغريقيّة تنزل من السّماء.. وتعيد تشكيل المدينة في ذهني من جديد، أخرجتني يومها من المشرحة وألقت بي وسط تلك اللّوحة المضمّخة بعبق الزّمن، واكتشفت وروائح الدّماء والجثث المتعفّنة والمحاليل تتبخّر من رئتي الكئيبتين، أنّني لم أكن سوى روح ذاوية تجول بين المشارط في رحلة بحث دامية عن حقيقة حزينة لا تعيد للمقتول ضحكته السّعيدة.. انتشلتني من بؤسي وأيقظت حواسّي المحنّطة[25]..>>..<<..كانت تشير بسبّابتها إلى ذلك القصر الغائص في الخضرة، قصر النّجمة الزّهراء، كثيرا ما مررت به، تطوّق ذراعي في كلّ مرّة خصر فتاة أغويها مدّعيا الرّومانسيّة[26]..>>..

بتغيّر المشهد الاجتماعي من قروي ريفي، إلى آخر مديني يطغى فيه الحضور العصري والمرفّه، سعت الكاتبة إلى التّأكيد أنّ ظاهرة الجنون، ولئن كانت دوافعها مختلفة، فإنّها لا تختصّ ببيئة اجتماعيّة من دون أخرى. فهي تسري بين جميع شرائح المجتمع بانعكاسات متعدّدة ومتغايرة، لكنّها تتآلف جميعها في فضاء واحد، ألا وهو مركز العلاج النّفسي، حيث تتفجّر الحكاية وتكشف عن مضامينها بإرهاصاتها وانفعالاتها النّفسيّة والسّلوكيّة المختلفة!..

5- كسر أفق المتلقّي وانتظاراته  

من أهمّ دلائل التّجريب في الرّواية الجديدة، هو كسر أفق المتلقّي وانتظاراته، انطلاقا من العنوان. “مرايا عمياء”، يبدو وكأنّه ليس موجّها لكافّة المتلقّين، لأنّه من العسر فكّ رمزه وشفرته، وتعمّدت الكاتبة غموضه لأنّ عقدة الرّواية بأشملها، تكمن في العنوان.

ذكرنا منذ البداية ، أنّ المرآة رمز كوني. ومن خلال وظيفتها الحاوية للانعكاس، هي رمز لصورة الواقع وكلّ ما يحتويه من أبعاد رمزيّة. العناوين ليست بالضّرورة تعبيرا عن المضمون بصورة مباشرة. فقد تكون مغلقة، مبهمة، رمزيّة، وتوجد صعوبة لإدراك الرّابط بينها وبين النّص، وعلى القارئ إجلاء مدلولها، لتكون مفتاحا للولوج إلى عمق المضمون وقصديّة النّص.

ومثلما سبق ذكره، فالعنوان يحيلنا على غياب النّور والاستغراق في القتامة، بالتّالي فيه إشارة إلى تناول واقع (مأزوم، قهري، مؤلم، مربك، محبط، مدمّر للذّات..).. وبما أنّ إطار الرّواية هو مستشفى الأمراض العقليّة، فسرديتها تتمحور بالضّرورة حول المعاناة النّفسية لشخصياتها. إذن لابدّ أنّ العنوان يختزل عمق هذا المفهوم وأبعاده. بالتّالي لإجلاء مدلوله، علينا أن نستنجد بطبّ النّفس (البسيكولوجيا) لنحصل على تفسير لذلك.. ففي شرحه لهذه الخصوصيّة، يؤكّد هذا المرجع أنّ “المرآة العمياء أو العاتمة” ليس لها وجود في حقيقة الواقع، وهي لا تظهر سوى في الحلم، نتيجة لمعاناة نفسيّة أو لإرهاصات اضطراب عقلي..

ومن هنا يتجلّى مقصد العنوان بما يختزله من سيميائيّة الرّمز والمدلول.. وهكذا جعلت الكاتبة لروايتها بعدا آخر، وهو “الحلم”، كظاهرة بيولوجيّة تحدث في المكوّنات العصبيّة العليا وتتفاعل مع مخزون الذّاكرة بشحناتها الذّهنية الموجبة والسّالبة.، بالنّسبة للحلم “لا شيء متناهي الصّغر، ولا شيء متناهي الكبر”. إذ تتركّب الأحلام من المظاهر الأكثر تفاهة للحياة اليوميّة، كما تندرج في التّساؤلات الأكثر تعقيدا عبر مسارات التّاريخ البشري!.. وهو ما يحيلنا إلى المفهوم الذي يدل على أنّ الحلم هو حياة موازية لليقظة، وهما لا ينفصمان!.. مع ذلك، فالذين يعانون نفسيّا، ليسوا بالضّرورة مرضى، لكنّهم كائنات بحساسيّة متفرّدة. بالتّالي، فإنّ الشّخص المصاب بالعصاب، هو في تصادم مع الحياة العادية، من دون أن يكون فردا غير سويّ، بل هو أكثر حساسيّة من غيره، تجاه صعوبات الحياة!..

 في حوارها مع مجلّة “Libération”، وإجابة على سؤال:<<بماذا تساعدنا الرّواية على فهم الاضطرابات العقليّة؟>>، تجيب النّاقدة “[27]Anaëlle Touboul “:<<الأدب يتأمّل الجنون، بمعنى أنّه يعكسه ويسمح بالتّفكير فيه، لأنّ كلّ السّرديات التي قمت بتحليلها، لها تبئير داخلي (بمفهوم الشّرح في هذه الحالة)، فالقارئ يتّبع تطوّر الحبكة من منظور المجنون. فيحدث نوع من التخيّل يلج بالقارئ إلى ضمير الشّخصية، من خلال استنساخ أفكاره ومشاعره. وبالتّدقيق، نتحدّث عن واقعيّة ذاتيّة توفّر لنا التعرّف على كيفيّة اشتغال هذه الاضطرابات داخل الذّهن. في نفس الوقت، تكشف لنا العالم من خلال مصفاة التّرشيح التي تمثّلها هذه الاضطرابات. فبعض الدّراسات تؤكّد أنّ المخّ له مرشّح تركيبي>>.

وفي مقالة له بعنوان:<<Pourquoi la fiction?>>، يوضّح الفيلسوف “Jean-Marie Schaeffer[28]“، في تحليله قائلا:<<..الأدب الرّوائي هو محرّك معرفي يوظّف لوضع نماذج للحالات (الجنونيّة) التي لا يعاقب عليها الواقع، فالأدب يوفّر التّجربة لنوع من المحاكاة العقليّة يعيشها القارئ، فتقرّبه من الإدراك المتعاطف مع المريض العقلي..>>.

من أساليب كسر انتظارات القارئ، استخدمت الكاتبة في روايتها عديد انقلابات المشهد ليتحوّل السّرد من مسار إلى مسار ثان، من حالة معيّنة بما تحويه من مكان، ديكور، شخوص، حركيّة إلخ.. إلى انقلاب وتيرة الحدث ضمن مشهد مغاير تماما، تفاجئ المتلقّي، تحدث الصّدمة، لتزعزع استئناس ذهنه بالمتابعة الرّتيبة للحكي. يباغته الانقلاب العنيف في مسار السّرد وحصول اهتزازات في تطوّرات الحدث ، وبالتّالي خذلان توقّعه للنّهايات..  

من ذلك، التحوّل المباغت، من إطار يروي حالة من فيض المشاعر ولهفة وتوق المحبّين (العروس وعشيقها) للّقاء خلسة ليلة حنّاء العروس، إلى مشهد موحش فظيع ومروّع، يحترق فيه جسد أمّ العروس ويجزّ رأس جدّتها بسكّين من طرف ابنتها.. يروي السّارد وهو عشيق العروس:<<..ربّما هي اللحظة المناسبة للقائها، ابتعدت عن دائرة الضّوء وسرت في العتمة نحو الجانب الخلفي لتلك الغرفة.. سمعت في تلك اللحظة صوتا غليظا حانقا وأنّات مسترسلة صادرة من الكوخ الذي يطبخون فيه الطّعام. اقتربت بحذر حتى لاصقت الجريد، نظرت بين سعفه إلى الدّاخل، كانت الشّمطاء تقبض على شعر رقيّة وتشدّه بقوّة ثمّ دفعتها، عندما سقطت ارتطم رأسها بحجر الموقد البارز من تحت القدر الكبير الذي كان يغلي ولم تتحرّك، التهمت النّار.. لمحت العمّة تقف فجأة وتلتقط سكّينا كبيرا وتجزّ رأس أمّها دفعة واحدة..[29]>>..

وهي اللّحظة الفارقة في الانقلاب من الحالة الطّبيعية للشّخصيّة المحوريّة في الحكاية (زينة العروس) إلى حالة الصّدمة والجنون وفقدان الذّاكرة.

6- تداخل الأجناس الأدبيّة

 من خصائص التّجريب في الرّواية الجديدة، هو تداخل الأجناس الأدبيّة وتعدّد الأصوات ضمن السّرد، وهي “بوليفونيّة”[30] تبحث عن التّجديد من خلال التّنوّع، لاستخلاص نموذج للتّعبير وتجاوز الواقع الرّاهن، بخلاف الرّواية المنوفونيّة ذات الصّوت الواحد ويطغى عليها الرّأي الواحد واللّغة الواحدة.

تستمدّ الرّواية البوليفونيّة مشروعيتها من طابع الحياة المتعدّد والمتنوّع، إذ هي تعكس الواقع من خلال الإبداع المتخيّل. تشكّل فضاء رحبا يضمّ أفكارا ولغات ولهجات مختلفة متنوّعة. ذات طابع حواري على نطاق واسع وتوجد دوما علاقات حواريّة بين جميع عناصر البنية الرّوائيّة (ليس الحوار في شكله المتعارف عليه كتبادل للحديث بين الشّخصيات). بل أنّ هذه العناصر وضع بعضها في مواجهة البعض الآخر. وتعني العلاقة الحواريّة هنا، جعل الحوارات تقابل بعضها بعضا في اختلافها، صراعاتها، تصوّراتها، تصادماتها.. إذ هي تشكّل الظّاهرة العامّة بما تشتمل عليه من الحوارات البشريّة في تقاربها وتنافرها، وما يتخلّلها من فكرة، معنى وتصوّر..

                منذ البداية تسعى الكاتبة في حكايتها الأولى، إلى رسم واقع بظواهر متناقضة، فمن ناحية تشكّل إطارا لحياة قرويّة تقليديّة:<<..كنت من واقعي المهشّم أنشد الفوز والتفرّد، أقطع أشواطا طويلة في النّسج حتى أتمكّن من جمع عدد لا بأس به من الزّرابي والمراقيم أشارك به في معرض من معارض الصّناعات التقليديّة… نسجنا دون كلل مولينا ظهرانينا للعالم الجدب، يواجهنا جدار من الآجر مليء بالشّقوق والفجوات، دقّقت فيه جدّتي في جسده مسامير صدئة كبيرة وأوتادا، تأرجحت منها ملابس مهترئة: برانس، جبّات، سراويل، قشّابيات، “مليات”، وأدوات متعدّدة الوظائف: قفاف، عدائل، غرابيل، حبال، شباك، قرب ونطوع، ممتلكات قديمة باهتة تطلق روائح عطنة ويعمّق بخور جدّتي رائحة القدم فيها[31]>>.. لكن هذا الواقع تتخلّله ظواهر العصر لتكسر عزلته وانغلاقه على خصوصيته، فيرد على لسان الشّخصية المحوريّة في حوار مع حبيبها:<<..أهداني ذات مساء جوّالا، تحسّسته بدهشة ونظرت إليه معاتبة، بادرني بحنان:

– موسيقى العالم بين يديك زينة.

– أشفق عليك من ثمنه.

– بل أشفق عليك حبيبتي من هذه العزلة[32]..>>..

لتأكيد خصوصيّة الاطار المكان والمجتمعي والرّوحي، تستعرض الكاتبة ذلك من خلال ما تصفه شخصيّة زينة، لمزار “الوليّ الصّالح” بحسّ من الرّهبة ورغبة الاستطلاع:<<..تذكّرت جدّتي وهي تقبض على عنقي من الخلف بقبضتها القويّة وتركّعني لأقبّل أطراف القماش المخملي الأخضر الذي يغطّي التّابوت العالي.. أتنشّق تلك الرّائحة المركّبة والتي كانت مزيجا من رطوبة، جبس، بخور، صوف قديم، جاوي، مسك، عنبر، عرق، تراب وخشب.. كان يقف بيني وبينه ستار مخمليّ أخضر، كلّما مرّرت يدي خلسة تحت ثنايا القماش سرت برودة وتنمّل وكأنّ حشرة بشعة سامّة تسير فوق جلدي[33]..>>..

في تناولها لواقع حياة الفئات الاجتماعيّة المهمّشة، تتمادى الكاتبة في تصوير مظاهر عيشة التقشّف إلى حدّ البؤس أحيانا، في مواضع أخرى من الرّواية، إذ تتحدّث الشخصية المحوريّة ضمن الحكاية الثّانية، عن ضيق عيشه مع أمّه وكدّها ومعاناتها، فيورد:<<..لم تعد تشتغل في الشّقق، شرعت تبيع السّندويتشات.. عربة صغيرة تحمل أشياء مالحة ولذيذة… اكترت محلاّ صغيرا ووضعت فيه بضعة طاولات وكراسي، كانت غرفة ضيّقة بلا نافذة.. استعملناها للنّوم، في الصّيف وعندما تتحوّل إلى فرن (ارتفاع الحرارة في الغرفة إلى درجة لا تطاق)، نلقي بحصير بين الكراسي ونحاول النّوم[34]..>>..

ولإظهار التّقابل والتّضاد بين مختلف العوالم التي تدور فيها أحداث الرّواية بحكاياتها المتفرّعة، يرسم السّارد ديكورا مختلفا عمّا سبق ذكره:<<..كنّا نسير على حافّة البحر، حولنا ينضح المكان بجمال خرافي ، عرائش الياسمين تعانق أسوار وشرفات منازل سيدي بوسعيد الزّرقاء، يغازل الهواء الفاتر فستانها الصّيفي الخفيف فتتضوّع رائحتها وسط ذلك السّحر[35]..>>..

ثمّ يرتدّ السّرد في مواضع أخرى إلى الحالة الأولى من التقشّف لتفاصيل المكان:<<..كان المكتب عبارة عن شقّة صغيرة تقع في الطّابق الخامس، منذ عهد الاستعمار، ملصت شرفاتها المشقّقة أجزاء كثيرة من نقوشها الكولونياليّة، مهدّدة بالسّقوط، ويرفض السّاكنون المغادرة.. المصعد المعلّق بأسلاك غليظة غارقة في الصّدأ.. يبدو مثل قطعة خردة معلّقة في زمن تفجّرت فيه التّكنولوجيا[36]..>>..

المكان في رواية “مرايا عمياء” ليس فضاء وديكورا لمسرحة أحداث الرّواية، بل هو في أغلب إيحاءاته يعكس الحالة النّفسية لشخصياتها، من خلال انقباضها، توتّرها، تضايقها، تشنّجاتها، اختناقها، رهبتها، أو انشراحها وتبسّطها واندفاعها بشهوانيّة نحو اغتنام لذّة العيش!..

أمّا تعدّد الأصوات ضمن السّرد، فيتجلّى ذلك خاصّة، فيما تعبّر عنه الشّخصيات، ضمن الإطار الزّماني والمكاني والانفعالات النفسيّة، من خلال التذكّر، الحوار، المونولوج، الوصف وردود الأفعال. وبالأساس فيما يميّزها بالتّواجد ضمن تركيبة اجتماعيّة تختصّ بها، لها انفصام بيئي زمني يباعدها عن غيرها. ففي الحكاية الأولى تواجهنا أصوات بإيقاعات المجال التقليدي، الذّهنيّة المحافظة، التراتبيّة الأسريّة المتسلّطة وتفشّي المعتقد الرّوحي، إلخ.. أمّا ضمن الحكاية الثّانية والثّالثة، فتباغتنا الرّواية بأصوات الأجواء الباذخة، التحرّر، الشّذوذ والانحراف، الابتزاز الجنسي، الفساد والدّفع نحو اقتراف الجريمة، إلخ.. وهو ما تعبّر عنه الشّخصيات بوصفها لواقعها، انطلاقا من ذهنيّة المحيط الذي تعيش فيه وتتفاعل معه، وبدوافع تركيبتها النفسيّة والّشحنة التّعبيرية عن أحاسيسها وانفعالاتها في لحظة زمنيّة معيّنة، والتي تشتمل على تباينات في المواقف وردود الأفعال بين مختلف الشّخصيات الحاضرة ضمن تنوّع مكوّنات الرّواية، ببيئاتها المتنافرة وانفصام ثقافاتها ومرجعياتها الذّهنيّة.

بخصوص تداخل الأجناس الأدبيّة، سعت الكاتبة إلى المزج ضمن روايتها، ما هو لغة أدبيّة متينة من حيث قاموس مفرداتها، ثريّة بانتقاء تعابيرها وجيّدة التراكيب، بمخزون من مفردات وتعبير اللّهجات العامّية والغنائي، وحتّى القانوني منها..

في عرض لتنويع الجنس الأدبي، تورد زينة على لسان حبيبها، بلهجة غنائيّة عاميّة:<<آه يا زينة ما درتي فينا.. قالولي خرجتي في الظّلام وعليّ سوّلتي.. وفي غياب القمر بعيونك ضوّيتي.. قالولي عليك نجمة.. يا نجمة ما بنتي وين كنتي هذا شحال، قوليلي علاش هربتي[37]..>>..

– <<يا تران العشرة وسق الفسفاط من المتلويّ.. خوي خدّام حالو متنوّي..>>..

وتحفل الرّواية في عديد المواضع الأخرى بتنويع تراكيب اللّغة وخصوصيّة اللّهجة، من ذلك:

<<صلّ على النبي تربح، الحاضر محمّد والغايب بليس، الوشق والدّاد في عيون الحسّاد[38]>>..

<<الله يعينك يا غالي، الله ينصرك على كلّ من يعاديك..>>.. <<عودي يا كلبة،خلّيه يندب حظّه، أكلتم عمره كالجراد[39]>>..

<<بائرة، بهيمة، نتنة[40]..>>..

<<مسكونة يا سيدي الشّيخ، مسكونة وما عدنا قادرين على هالجن الذي تلبّسها.. <<لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، هذي ضربة جان، هل عفست على دم؟..[41]>>..

<<حي والدّايم حي، حي والدّايم حي[42]!..>>..

<<.. شر، شر، وهف[43]>>..

<<..ارموا الجاوي وصلّوا على النبي، ياسيدي ناصر أحضر[44]!>>..

<<لا يداوي الفم الأبخر كان السّواك الحار[45]>>..

<<آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتّقين.. الذين يؤمنون بالغيب[46]..>>..

<<آآآه يا الزّينة ما درتي فينا..>>… <<تبّع رياح الحب وعندك حطني.. ودّعني.. وصّاني وقالّي حبيبك ما تنساه.. آآه يا الزّينة[47]!>>..

<<مامي بونجور!… بونجور شيري[48]!..>>..

<<لنا نقص في أقراص الفاليوم واللّيزانسكيا والزّانكس و[49]..>>..

<<أعترض سيّدي القاضي، هذه تهمة خطيرة والقصد منها تحويل وجهة العدالة عن جوهر القضيّة، موكّلتي لا تحمل العداء لأحد والدّليل أنّها تشرف على علاجها الآن[50].>>..

كما ترد عبارات اللّهجة العاميّة المحليّة أو المشتقّة من اللغات الأجنبيّة، وأخرى بربريّة:<<الدّنقري، اللاقمي، الطّابونة، خدّامة المينة، الكبّانيّة، الماشينة، اتقوفّت ، فسوخ، وشق، داد، سينوج، الغرارة، الإمبرازول، ستربتيزيّة، سرجيو روسي، جيوكس، كارّفور، بنجور..>>..

المكان ودلالاته في الرّواية

يأتي المكان والفضاء في الرّواية بأبعاد حسيّة وذهنيّة مختلفة. فمنها المغلق، الواسع، الضيّق، الأليف، المعادي.. مكان داخلي ومكان خارجي.

تمّ توظيف الأمكنة للإيحاء بالطّمأنينة أو الحماية، لبعث الشّعور بالخوف أو التّمهيد لحدوث المفاجأة الصّادمة، كذلك للإحساس بالانطلاق والحرّية، أو للإشارة إلى التّيه وتلاشي الكيان..

 ما تفتتح به الكاتبة روايتها هو المكان المغلق (مستشفى الأمراض العقليّة) حيث هو حبس وتقييد لحريّة المرضى، لكنّه في نفس الوقت يمثّل الحماية من إلحاق الأذى بالنّفس أو بالآخرين، والاحتماء من أذى الآخرين أيضا.. وشروعا في الحكاية الأولى (الرّواية تتكوّن من ثلاث حكايات منفصلة، لكنّ أبطالها يلتقون جميعهم بمستشفى الأمراض العقليّة)، تكشف الشّخصية المحوريّة وهي السّاردة في هذه الحكاية، قائلة:<<..كان الخدر قد بدأ يتلاشى من جسدي وبدا لي أنّ روحي تستقبل شحنة جديدة من السّكينة والتركيز..>>. هذا التّصريح من البطلة يجعل للمكان دلالة مرتبطة بالبعد النّفسي، ما يحيلنا على صفة “التّقاطب” في العمل الأدبي التي أوردها “غاستون باشلار Gaston Bachelard” في كتابه “جماليّة المكان L’esthétique de l’espace “، إذ المكان هنا يتضمّن ثنائية التّضاد بين عنصري الضّيق والحبس من ناحية والسّكينة والتّركيز من ناحية ثانية. وهكذا تنقلب دلالة المكان في حالة نفسيّة معيّنة، من تقييد للحرّية ووضع العزل، إلى الإحساس بالطّمأنينة والأمن والحماية من الأذى.. كما أنّ المكان (مستشفى الأمراض العقليّة) الذي من عادته أن يكون المريض المودع فيه، يعاني من الاضطرابات النفسيّة واختلال الذّاكرة، فإنّه في هذه الحالة، صار محفّزا للذّاكرة وحاثّا على التذكّر. فيتحوّل إطار السّرد فجأة، من المنغلق (المستشفى) إلى (الفناء المفتوح) في جوّ من الأفراح والبهجة، حينما تتذكّر السّاردة، حدث ليلة حنّائها وهي عروس:<<..فناء بيتنا يعجّ بالأطفال، يضعون ملابس العيد الفارط، على الحشايا تراصّت النّساء مبتهجات…>>.. إلى أن تبلغ :<<كنت أقلّب عيني في الوجوه الغارقة في المساحيق وألتقط الهواء بصدر مسحوق[51]..>>..

بناء على ذلك، فإنّ دلالات المكان تحدّدها الحالة النّفسية للشّخصية، في لحظة تواجدها به. فبالرّغم من أنّ المكان الموصوف مفتوح والحدث إيقاع من الفرح، تشعر هذه الشّخصية بالضّيق والضّغط الذي يكتم أنفاسها.. وهكذا راوحت الكاتبة بين بنية مكانية مادّية ظاهرة وسطحيّة (المستشفى والفناء)، وبنية أخرى عميقة تتضمّن دلالة الإحساس، ليصير للمكان بعده النّفسي ويغوص إلى المسكوت عنه، إذ يخفي في هذا المشهد الاحتفالي، الحالة النفسيّة الكئيبة للعروس، رغم أنّها ليلة حنّائها.. وفي مشهد آخر يوحي بالقسوة وممارسة العنف على كائن مازال طريّ العود، من دون اقتراف جرم يستحقّ عليه العقاب.. تتذكّر السّاردة ما سلّطته عليها جدّتها من قهر حاقد فتورد:<< ..كانت تعي جيّدا أنّي سأصاب بالخرس مثل عمّتي وأفقد للأبد أجراس اللّغة.. بعد عقاب سلّطته عليّ جدّتي، لا أذكر جرما ارتكبته، فالأمر يتخطّى التّأديب، كانت تتصيّد هفواتي الصّغيرة لتنتقم منّي. دفعتني ذلك الصّباح داخل الغرفة ثمّ أدارت المفتاح الحديدي في القفل وغادرت.. كنت أتنفّس بعسر، لم يكن بسبب قبضتيْها اللّتين أطبقتا على عنقي حتّى كادتا تقطعان أنفاسي، فقد اعتدت ذلك. ولكن لسبب آخر برز فجأة وأنا أسمع طقّة المفتاح، كان الأمر مروّعا، شعرت بالاختناق، ولم أجرؤ على خبط الباب، لم أكن أعرف أنّي أحمل رهاب الأماكن المغلقة[52]>>.

هنا يتحوّل المكان المغلق من دلالة ماديّة عقابيّة سجنيّة، رغم أنّ له حماية معنويّة، فهو داخل بيت العائلة وبحضور أفرادها، بمن فيهم الأمّ المتعاطفة مع ابنتها، فقد ظهرت له دلالة أخرى متناقضة تماما مع الأولى، وفي هذه الحالة هي ذات عمق نفسي وإحساس قهري، حينما اكتشفت البطلة أنّها مصابة بفوبيا الأماكن المغلقة..

في مشهد آخر وصفي لجمال المكان، تذكر السّاردة:<<..أجلت بصري في منسوجاتي الصّوفية التي كست جدران الفناء.. تأمّلتها وهي تتوهّج تحت الأضواء الملوّنة، كانت تطلق حالة من الجمال الآسر.. حوّلت المكان بهندسة أشكالها وجمال ألوانها إلى بانوراما.. في أعماقي العاتمة كنت أمتنّ للنّسج الذي ترجم عذاباتي بهذه الطّريقة البديعة[53]..>>.. هي ثنائيّة دلالات المكان، فهو المكان الواسع الذي له معنى الانطلاق والتّعبير عن الفرح الذي يواكب عادة احتفال الزّفاف، لكنّه في نفس الوقت، توقظ محتويات زينته العذابات الباطنيّة النّفسيّة للبطلة العروس، حينما تُسلب منها منسوجاتها، بعد أن تبذل فيها جهدا جهيدا، فلا يعود عليها هذا الجهد، ولو بعبارة ثناء. وهنا تبرز هذه البنية العميقة لإيحاء المكان التي وظّفتها الكاتبة ببراعة للتّعبير عن الكوامن النّفسية لشخصيتها.

 تنتقل الكاتبة من استخدام المكان بإيحاءاته المتعدّدة، إلى تناول الفضاء الواسع الفارغ (وهو صفة من صفات المكان)، حينما تتذكّر شخصيّة “زينة” ساعة انطلاقها مع حبيبها إلى البريّة، بعيدا عن حصار التجمّع السكّاني وعيون النّاس.. تقول:<<..كانت الجبال تواجهنا، تكبر كلّما توغّلنا في اتّجاهها، خلفنا يغيّب الغبار ملامح القرية، يتلاشى وجه جدّتي من ذهني مع ظهور الواحة[54]..>>.. رغم ثنائيّة الدّلالة للفضاء، الذي يختزل عادة (التّيه، الضّياع، تلاشي الكيان من ناحية/ الانطلاق، الحرّية من ناحية أخرى)، فإنّ الكاتبة وظّفته لبعدين: التحرّر من الرّقابة والحصار والقهر التي يمثّلها حضور الجدّة (قاهرة حفيتها زينة)، كبعد أوّل، لتحوّله إلى إحساس بالألفة، الاحتواء، الانجذاب وتداعي مشاعر الحبّ، كبعد ثان مغاير..

 لا يتوقّف توظيف المكان عند هذا الحدّ، بل هو سمة متواترة عند الكاتبة لاستحضار المشهد وركيزة سرديّة لبناء الحكاية بتفرّعاتها الدّلالية (ذهنيّة، حسيّة، سلوكيّة..)، وكإطار لحصر تحرّكات الشّخصيات (تصرّفاتهم، سلوكياتهم، تعابيرهم، تفاعلاتهم..). كما تستخدم الكاتبة المكان للإيحاء برمزيته الاجتماعية، الزّمانية، الرّوحية..

في الصّفحة 17، تستعرض زينة، من خلال حوارها مع حبيبها، أنّها تنتمي إلى قرية بالجنوب وبالتّحديد إلى منجم أم العرائس.. يرد في الحوار:

– تعرفين قصّة قريتنا؟

– نعم حظّها السيّء أنّها منجم

– صوت المغاسل العملاقة وهي تمارس الاغتسال الوحشي يطرق رأسي باستمرار[55]

هذا الايحاء بالمكان، يحيل القارئ على واقع منجمي ينفرد بخصوصيته: قساوة العمل، شقاء، صعوبة العيش، رعب متواصل من حوادث الشّغل نظرا لخطورة العمل بالدّاموس.. صدامات اجتماعيّة نقابيّة، سياسية.. ووظّفت الكاتبة عديد الإشارات المكانيّة الأخرى؛ لإحالة ذهن المتلقّي على بيئة منجمية يُسحق فيها الإنسان، إذ لا قيمة له، سوى ما يتوفّر عليه من جهد لإنجاز كميّة العمل المحدّدة (الياطاش). هذا من جانب. أمّا عن الوجه الآخر، فالمكان يعكس علاقات تقليديّة محافظة يقوم على تراتبية السّيطرة والخضوع، يجلّ الذّكورة ويعلي من شأنها مهما كانت سلوكيتها وتصرّفاتها وانحرافاتها، ويسحق الأنوثة مهما تحمّلت من عناء وأوزار وقدرة على العطاء ونكران للذّات..

تسترسل الكاتبة في استعراض تقاطب المكان من خلال ثنائيّة التضادّ، لتحوّل “المزار والزّاوية” من مكان للخشوع والمهابة والطّمأنينة والعفّة، إلى بؤرة للخديعة وممارسة الرّذيلة والاغتصاب.. فتروي البطلة مشهد اغتصاب شيخ المزار لإحدى النّساء “المجذوبات” جلبها أهلها ليخلّصها الشّيخ من تلبّس الجان، فتقول:<<..مضى ينزع ملابسها حتى غدت عارية.. ارتعبت وأنا أشهد (من المخبأ) ذلك العضو المخيف.. ولم يلبث أن جثا غارسا ركبتيه حول ردفيها، ارتفع لهث أنفاسه المحمومة..>>..

هذا المشهد حاول الفاعل أن يكرّره مع والدة السّاردة أيضا.. ليتحوّل المكان هنا من المقدّس إلى المدنّس..

استخدمت الكاتبة هذا التقابل بين وظيفتين، لخلق حالة ذهنيّة لدى المتلقّي ببعدين، الأوّل من خلال استعراض مشهديّة قاتمة للخداع الرّوحي، والثّاني لتعكس البيئة الاجتماعية المأزومة التي تدور فيها الأحداث والكشف عن ذهنيّة التصوّرات الغيبيّة التي تتحكّم بها. وهذا بغاية التّصعيد الدّرامي للحدث الرّوائي والإيحاء بمجتمع الانغلاق والاستغراق في الرّوحانيات الواهمة والمخادعة..

حضور المكان في الرّواية هو طاغ ومتنوّع، يتبدّى في عديد المواضع: المشرحة، المحكمة، بيوت ممارسة الرّذيلة، المدينة، إلخ.. ولا ينكفئ على وظيفة سرديّة واحدة، بل هو بعدّة إيحاءات قصديّة ودلالات متنوّعة لتشكيل صور موحيّة في ذهن المتلقّي، وهي تقنية مستخدمة ببراعة عالية لدى الكاتبة!..

الرّمز في الرّواية

 الرّمز هو طريقة في التعبير يستعين بها الكاتب لاستعارة خاصيّة من خصائص المرموز به، أو إحدى ملامحه الظّاهرة أو صفة باطنيّة ليضفيها على المرموز له. كما هو إحالة من الكاتب للمتلقّي على ذلك الرّمز، للإيحاء له بفكرة، عبرة، لرسم صورة أو مشهد من خلال مميّزات ذلك الرّمز. وقد عوّض الرّمز في الأدب الحديث، في حيّز كبير منه، التّعبير المجازي في الأدب القديم.

والرّمز قائم على التّعبير الباطني الذي ينقل المنظور إلى اللاّمنظور أو اللاّمنظور إلى اللاّمنظور آخر. وهو ليس استخدام شيء بَدَلَ آخر.

يحمل الرّمز في جانب منه دلالة المعقول، المحسوس، الظّاهر. لكن في جانبه الآخر، هو الطّلسم الذي لا يمكن فكّ شفرته، هو المستعصي على الفهم والتّأويل (Mystère). فكلا عنصريه، يتحوّل أحدهما إلى رمز يحمل ملمحا واضحا، والآخر إلى ملمح خفيّ.. كما أنّ الرّمز له أبعاد أخرى، إذ يمثّل جسرا بين عديد مستويات الوجود. فيمكن دراسته من وجهة نظر المحسوس وكذلك من خلال وجهة نظر النّفسي والرّوحي (L’intelligible). لذلك، فالرّمز متعدّد الأبعاد وكوني (Universel). وبخصوص هذا التّعريف، يقول Jean Chevalier[56]:<<Le symbole peut être comparé à un cristal, restituant différemment la lumière selon la facette qui la reçoit>>..

 كما أنّ الرّمز ليس ساكنا أبدا، لذا وجب الحذر من الأحكام القطعيّة لتفسير الرّمز.. في روايتها، وظّفت الكاتبة الرّمز بأشكال متعدّدة، سواء على مستوى الشّخصيات التي تحوّل البعض منها إلى رموز وانزاحت عن مدلول معناها الأصلي، رمزيّة الفعل القهري الذي يؤدّي إلى التأزّم النّفسي والاضطراب العقلي، رمزيّة الرّوحاني المقدّس الذي يضمر المدنّس، تحوّل الجماد إلى عنصر للحياة، التّوهم كرمز لإرهاصات الجنون، الدّيكور كرمز لحالة البؤس، إلخ..

في الحكاية الأولى، تقلب الكاتبة مفهوم حضور الجدّة، وما هو متعارف عليه، بأنّها تجسيد لمشاعر دفء العواطف، الحنان، الأنس والحماية، إلى شخصيّة عدوانيّة جشعة.. حوّلتها إلى رمز للحقد والقهر والتسلّط والعنف. وهي لا تقصد إلصاق هذه الصّورة البشعة بمرتبة الجدّة كأصل في العائلة، بل هي توظّفها كرمز للتسلّط في هرميّة السّيطرة والخضوع في هيكلة العائلة التّقليديّة أساسا. يظهر هذا التسلّط في عديد مواقف الجّدّة وتصرّفاتها العدوانية القاسية تجاه حفيدتها وابنتها وزوجة ابنها، وحتى في معاملاتها لبعض الأهل والجيران والمعارف. بخصوص ذلك، تكشف شخصيّة زينة ضمن الحكاية الأولى، عن مشهد من معاملة جدّتها لها، لتجعل منها رمزا للقهر والإذلال، فتسرد:<<..ظلّت تجلد جسدي باستمرار وتسخّرني للأعمال الشّاقة، أتابع حنانها على بهائمها ويطحنني القهر، أكبته. فقد كانت تترصّد ملامحي لحظة تطفو فيها مشاعري، لتنكّل بي.. أنجز الأعمال المفروضة عليّ قبل أن يدهمني وقت الذّهاب إلى المدرسة.. وأتّجه نحو أمّي لأنال تلك القطعة السّاخنة من الخبز، لكن الأمر يتوقّف عندما تمتدّ يد جدّتي وتفتكّها منّي ثمّ ترميها على الأرض زاعقة مهدّدة بفصلي من المدرسة ورميي على حافة الطّريق مثل عمّتي الخرساء. في تلك اللّحظة أشهد المنظر الذي يحطّم قلبي، تزحف أمّي في اتّجاهها، تدفن وجهها عند قدميها ضارعة، تقبّلها، تتعفّر بالتّراب.. كان ذلك ما تصبو إليه، أن تركّعها وتمرّغها في الأرض وتبثّ الهلع في قلبي.. أتراجع وأتركها ممرّغة هي وقطعة الخبز، أركض تجاه المدرسة[57]..>>..

هو مشهد ينطوي على تصعيد درامي لتشكيل رمز القهر من خلال تصوير بشاعة المرموز به (شخصيّة الجدّة). التي تمعن الكاتبة في بيان قسوتها، حيث تتألّم زينة وتشكو من أنّها تدرّ حنانها على بهائمها وتحرمها منه كحفيدتها، وهو إيحاء بدونيّة المرأة في المجتمع التّقليدي، لتتراجع إلى مستوى أدنى من البهائم.

تضيف زينة، ولكن هذه المرّة متحدّثة عن أمّها<<..ألتقط نظراتها الخاطفة، تشيّعها نحوي مثل أشرعة مكسورة وتحفظها بسرعة، كلّما ارتدّت نحوها نظرات جدّتي الكاسرة[58]..>>..

فإنّ عبارتي “أشرعة مكسورة- نظرات كاسرة”، تشير إلى رمزيّة “التّقاطب” في ثنائيته المتناقضة، كرمز للإيحاء بأنّ جوهر الأحاسيس بتنوّع تعبيراتها هو واحد، ينبع من باطن الذّات، لكن بتمظهرات ودلائل مختلفة، لنقْل الإحساس من منظور إلى آخر لا منظور. يحمل أحدهما ملمحا ظاهرا والآخر ملمحا خفيّا.

في مقطع آخر من الرّواية، تورد الكاتبة منولوغ لشخصيّة الشّاب المحتقر لذاته وأصوله، لتتحوّل المرآة إلى رمز فاضح لبشاعة الصّورة، وتكشف تفاصيل الجسد كتعبير عن إحساس بالقبح ، حيث تصير من خلال الصّورتين اللتين تعكسهما في آن واحد، كشاهد إتنولوجي وما يميّز السّلالات العرقيّة من فروق فيزيولوجيّة. إذ يخاطب الشّاب نفسه كارها لذاته:<<..غير بعيد عنّي وفوق نفس الأريكة كان هناك رجل أنيق، وسيم، يمازح البائعة ويمرّر الأحذية بيسر، دون جورب حريري.. ثمّ يسير بأناقة أمام المرآة، تابعته ببغض وعكست لي المرآة صورتينا، اشتدّ حنقي، ايّ قرد صادفته أمّي في تلك الدّشرة حتى أكون هذا “الكوزيمودو” البائس؟.. ولعنتُ الجدّ الأوّل.. وقذف بحيواناته المنويّة في رحمها.. لا يدرك هذا الشّمالي مدى الحظوظ الوافرة في جيناته وكمّ الجمال المتوارث من السّلالات النقيّة[59]..>>..

الرّمز هنا له أبعاد أخرى، إذ يمثّل جسرا بين عديد مستويات الوجود. فمن خلال الظّاهر المحسوس ينتقل بنا إلى وجهة نظر النّفسي والإحساس القهري الباطني، ومن هذا الأخير إلى علم السّلالات والموروث البيولوجي.. فهو يغوص إلى باطن اللاوعي والإحساس، ليكشف لنا عن بعض عقد نفسيّة كامنة في الذّوات البشريّة، التي لوحدها ككائنات حيّة يصيبها القهر من تركيبتها الفيزيولوجيّة، من دون باقي الأنواع.

في عديد المواضع الأخرى، تصوّر الكاتبة بشاعة الممارسة المنافية للقيم الأخلاقيّة المشروطة في تعاطي مهنة بعينها، بحكم خضوع صاحبها لإغراءات الفساد، كترميز لتفسّخ قيم المجتمع. فخلال كتابة مذكّراته بمستشفى الأمراض العقليّة (الطّبيب الشّرعي)، تذكر هذه الشّخصيّة المحوريّة في الحكاية الثّانية للرّواية، هذا الطّبيب الذي اقترف جريمته المتمثّلة في تشويه جثّة عشيقته الميّتة، بطلب من زوجها، وبدافع الحصول على المال، فيقول:<<..مزّقتها، صهل الشّوق، تحرّكت أهدابها، فتحت عينيها، نظرت إليّ، كان شمع السّيلكون يذوب تحت حرارة دمائها المتحرّكة ويمضي منصهرا إلى ميزاب الصّفيحة.. كنت أهمّ بضمّها والفرار بها.. عندما لمحت عبدالحقّ يقف على حافّة هاوية، متسربلا بسواده.. التقطت مشرطي، ثمّ وعند أعلى الرّغامي وفي مستوى نصف رقبتها غرزته.. ارتخى جلدها، فتحت بطنها وأخرجت أمعاءها.. مضى مشرطي إلى رحمها[60]..>>..

 تلجأ الكاتبة أحيانا، إلى النّزعة الرّمزية المثالية، لتجعل شخصياتها ينتابها إحساس جارف للانطلاق من حدود المكان والزمان إلى عالم ما وراء الموانع القهريّة. وهي تعيش صراعا لا تخمد ناره، بين ما تتشهّاه نفسها من تحرّر ولذّات محرقة يكسرها الإحباط، وبين ما تهفو إليه روحها للتّخلّص من عالم المحسوسات. فهي روحانية في توق نفسها، متألمة في رغباتها الحياتيّة..

 تستخدم الكاتبة تقنية الرّمز عن إدراك ووعي بأبعاده الدّلالية والإيحاءات والإحالات التي يوفّرها هذا الشّكل من أسلوب الكتابة، ولما فيه من تضمين لمفاهيم ذات أعماق معرفية، تريد أن تبرزها الكاتبة.. وهي توظّف رمزها من أبعاد الماضي والحاضر والحكاية وسيرة الأفراد. حتى أنّ العديد من مقاطع الرّواية أتت مبنيّة على تقنيّة استخدام الرّمز وأهمّها العنوان، وتحيل حكاياتها على شخصيات وتعريفات لها دلالاتها الرّمزيّة الاجتماعيّة، الرّوحانيّة، إلخ..

الجماليّة في رواية <<مرايا عمياء>>

 في تعريفه للرّواية يقول “جون أريلد أولسون Jon Arild Olson”[61]:<<الرّواية عمل أدبي، بالتّالي هي خطاب تتمثّل وظيفته الرّئيسيّة إكساب القرّاء تجربة جماليّة.. وهي خيال، أي خطاب تتمّ فيه دعوة القارئ إلى تخيّل المحتوى وما فيه من غايات التّواصل. وبالنّهاية، الرّواية هي حكاية، يعني توضيح مقصود للفعل الإنساني>>.

إذن، تجسّد الرّواية الخياليّة تجربة الحكاية الجماليّة مع كيفيّة تبليغها. والتّجربة الجماليّة محدّدة بتأثير الخطاب على القارئ، أي بمدى إدراك هذا الأخير للمؤثّرات المرسلة من الكاتب. وهكذا تسمو الجماليّة بالرّواية، لأنّها تسمح للقارئ بتوسيع حدوده العاطفيّة والثّقافية. كما تحدّد الجماليّة الأبعاد العميقة للصّور والمشاهد المضمّنة في الخطاب الأدبي، حيث يتولّد من خلالها المعنى ومقصد الرّواية.

تؤثّر الجماليّة بانفعالاتها العاطفيّة على القارئ، في حين أنّ الحكاية المضمّنة في الرّواية هي الطّريقة التي من خلالها، ينتج السّرد تأثيراته على القارئ، وبذلك تكون وسيلة لتحقيق الجماليّة والتّعبير على إرادة السّارد المتجسّدة في اختيار الأدوات الأدبيّة المناسبة لوصول الخطاب إلى درجة التّأثير المرغوب على القارئ. فهذا الاختيار إذن، وهذه الأدوات لها وظيفة توجيه الإدراك الذّهني نحو غاية معيّنة. أمّا الحكاية فتُنقل إلى القارئ عبر التّجربة الجماليّة وما يرد في مسار تدرّج القصّ.

هكذا تكون الجماليّة محدّدة بتحقّق هذين العنصرين مشتركين: المؤثّرات الأدبيّة والحكاية، لأنّهما يسهمان سويّا، في الإدراك الخيالي. فالحكاية تؤثّر بمفعولها على وعي القارئ، باعتماد المتخيّل، وخاصّة عبر صور وأحاسيس تستحثّها التّجربة الجماليّة المشحونة بالمعاني، بواسطة السّرد.

ولتحديد ملامح الحكاية الجيّدة وما يعتبر تأسيسا لها، علينا أن ندرس بانفصال:

  • التّجربة الجماليّة
  • مقاصد السّرد

بغاية جمعهما لاحقا، فيما يسمّى:

3) السّرد الجمالي في الحكاية.

تهتمّ التّجربة الجماليّة أوّلا، بالمؤثّرات المستخدمة على القارئ. ثانيا، بأغراض الحكاية وغاياتها. فالرّواية ذات الغرض المقصود تستخدم: أ) أدوات بهدف تواصلي – ب) الخيارات المستندة إلى إرادة السّارد. وحتى يتمّ نقلها إلى القارئ، تستخدم الحكاية القصديّة السّردية للجماليّة، لتحقيق بعدها الجمالي.

التجربة الجماليّة

أ)تأثيرات التّجربة

  لا تتوقّف المغامرة الرّوائية عند حدود تتابع الصّراعات أو استطلاعات مكثّفة للدّيكور والفضاءات. فلابدّ من توفّر الإيقاع وابتكار الصّور المنبعثة من الخيال، لها ترابط مع المفاهيم والانفعالات لدمج المشاعر ضمن مثيرات السّرد. إذ هذه المشاعر هي التي تحدّد تأثيرات التّجربة الجماليّة. إذ تعبر المشاعر من الرّواية إلى القارئ بفضل الصّور والمشاهد وتحديد هويّة الشّخصيات. فتجربة الرّواية لها تأثيران مباشران:- تأثير ذهني – تأثير عاطفي..

التّأثير الذّهني يحصل عبر إدخال المفاهيم، الآراء، المُثل، الأحاسيس والأشكال المتخيّلة في ذهن المتلقّي. أمّا بالنّسبة للتّأثير العاطفي فهو الذي يعطي معنى للتّجربة وعمقا للصّور الذّهنية التي تشكّلها الحكاية في ذهن القارئ. إذ العواطف المرسلة تلامس كينونة المتلقّي، لتحدث المعنى، لأنّها تربط التمثّلات الخياليّة للرّواية بالتمثّلات الواقعيّة الناتجة عن تجارب القارئ نفسه.

 في روايتها استطاعت الكاتبة أن تعبر إلى عمق مفاهيم بعينها، لتصوّرها في مضمون من التّصعيد الدّرامي الصّادم لضمير القارئ، من خلال الجمع بين ثنائيات متناقضة: القهر والتسلّط وما يقابله من وجع وألم ورضوخ ومعاناة، الشقّاء من جهة والجشع من جهة أخرى، المقدّس وما يشوّهه من مدنّس، السّذاجة والنيّة الحسنة وما يترصّدها من طويّة الخبث، الحبّ ودوافع الشّهوة والغدر والانتقام، الإخلاص وما يقابله من إكراه وابتزاز، الجمال وما يلطّخه من قبح، إلخ..

في هذا المقطع من الرّواية، تصوّر الكاتبة مشهد العنف والألم ممّا يتحمّله جسد الإنسان في حالة من تلاشي الإحساس، لتبرز مفهوما ذا بعد بسيكولوجي، بأنّ الألم والوجع في حالة معيّنة من انفصال الإحساس عن الوعي به، يمكن أن يتحمّل الجسد قدرا هائلا من التأثيرات المادّية الخارجيّة، من دون أن يستجيب لها. وهو ما يثري تجربة القارئ، إلى جانب إرضاخه حسّيا إلى عنف المشهد، لإثارة انفعالاته وعواطفه وتعاطفه مع الشّخصيّة[62]:<<.. في تلك الحضرات، أشهد ما لا يمكن لجأش طفلة أن يتحمّله، تُحمى مخايط حديديّة طويلة على الجمر وتغرز في أشداق الشّاطحين المتخمّرين وفي أماكن أخرى من أجسادهم، يرمون بأنفسهم فوق أظلاف التّين الشّوكي ويشرعون في التمرّغ فوقها، يسيرون فوق الزّجاج المهشّم والمسامير المدقوقة في خشبات عريضة..>>.. ثمّ تسترسل مع مشهد آخر، لا يقلّ ضراوة عن الأوّل:<<.. تقفز أمّي التي تظلّ لأيّام متتالية غائبة عن الوعي، وسط هذا الحشد المجنون.. تركض نحو الجمر وتعفس عليه دون أن تطلق آهة واحدة. كانت هناك في ذلك العالم المنفصل عن حسّها، تدوس على الجمر ملتحمة بلا وعيها.. تشطح جنبا إلى جنب مع الرّجال.. يسقط عن نهديها الحظر، يشطحان متمرّدين.. أمنع جسدي من النطّ والرّكض نحو أمّي الملقاة على الجمر..>>..

 وهكذا، فإنّ معنى التّجربة الجماليّة، ليس فقط نشوة تأمّلية، إذ هي أيضا، ارتباط بين تجربة القارئ الحياتيّة وتلك المتخيّلة التي يقرأها. فالتّجربة الإدراكيّة للجماليّة تنتج المعنى وتعطي شكلا للمقصد الذي تكون أبعاده تخيّلية وواقعيّة. فتأثير التّجربة الجماليّة محدّد بالإدراك الذي يحصل للقارئ، بعد قراءته للرّواية. بناء على ذلك، تحصل إدراكات متعدّدة، وبالتّالي تجارب مختلفة تكون ممكنة للرّواية الواحدة، تتحقّق بالقدر الذي يتوفّر به القرّاء..

التّجربة الجماليّة هي أيضا فضاء اتّصال، تواصل بين مكوّنين، ذهن القارئ وفكرة الكاتب. وهي تقدّر بدرجة الإغواء الذي أثّرت به على القارئ، حتى يجعل مداركه في حالة تقبّل.

في مشهد يصوّر عنف الاغتصاب والإكراه الجنسي، فيه دافع للرّفض والقبول، اللّذة والألم والإحساس بالمهانة، فيه إحالة للذّاكرة على تاريخ القهر والعبوديّة وتحقير لأحد الأجناس البشريّة، وهو بعد معرفي تختصّ به الرّواية، حينما تتحوّل إلى خزّان لحفظ ذاكرة التّاريخ، للفت ذهن القارئ إلى قضايا إنسانيّة تاريخيّة مؤلمة، يكون الإنسان ضحيّتها، ومازالت تتكرّر بعنفها، ببشاعتها وما تسبّبه من قهر للإنسان.. من ذلك العنصريّة، السّادية الجنسيّة، وغيرهما.. وهو ما يؤكّد بأنّ الرّواية تعلّم، تنبّه من خلال استلهامها من الواقع الذي تحوّله إلى عمل فنّي سلس الاستيعاب، حينما يتوفّق المبدع في تصوير المشاهد وسرد الحدث بشحنة المزج الكثيفة بين ما هو حكائي تخيّلي وما هو واقعي مشحون بإرهاصات التّاريخ ومعاناة الإنسان، ليكشف لنا عن قدرته العالية أثناء الكاتبة، على الاستلهام وتحويل ما هو واقع قاس وجافّ طاعن للإحساس، إلى لوحة مشهديّة تثير خليطا من المشاعر المتمازجة والمتصادمة في ضمير المتلقّي، وتجذبه إلى متابعة السّرد بلهفة الشّوق إلى بلوغ نهاية المشهد[63]:<<.. رقصتُ عارية مثل أمّي.. وذات ليلة وأنا راكعة أمرني أن ألعق، ومثل جارية رخيصة، لعقت قدميه، ساقيه وفخذيه حتى وصلت إلى عضوه، حيث زمجر بوحشيّة وقبض على شعري بقسوة وشرع يحرّك رأسي بعنف حتى كاد يخلع عنقي.. – العقيي يا.. العقي يا..!.. وتدفّقت كلمات فاجرة من فمه تلقّيتها بشبق مجنون.. تقذفني شهوتي بين قبائل العبيد، يرتفع صليل السّلاسل ويجرّني مقيّدة إلى قراي المغتصبة، حيث يرميني في أسواق النّخاسة، هناك تقف جدّاتي عاريات تحت سطوة الشّمس الإفريقيّة، تجسّ أصابع البيض نهودهنّ وأعجازهنّ، تفتح أفواههنّ وتحشوها بين أشداقهنّ وأضراسهنّ تماما كما تفعل مع الأغنام.. تبلغ وحشيّة الشّهوة ذروتها، يصرخ، يجلد ظهري بحزام جلديّ، يتحوّل رأسي إلى كرة مطّاط يصفق بها حيوانه المهتاج.. تنبثق دماء من فمي، من أنفي، من فروة رأسي، يركلني، يجثم فوقي، يمزّق عذريتي، فأغرق في نزيف مريع، يزمجر كالوحش:- مسعود، أخرج هذه الوصيفة القذرة واغسل البلاط جيّدا>>.

في روايتها، تمزج الكاتبة بين شرطين لا يتحقّق أحدهما من دون الآخر، تحقّق العلاج بشرط تنشيط الذّاكرة. فهي تربط ما هو طبّي بسيكولوجي، بما هو روائي تخيّلي يرد في قالب تحثيثي للتذكّر. وهي إحالة معرفيّة للمتلقّي ليستحضر ذهنيّا مدى ترابط المتخيّل الرّوائي بحقيقة الواقع، وجعله ينقل الشّخصيّة الرّوائيّة من تصوّر خيالي مجرّد، إلى تجسيد تكرّرت أمثلته أمامه في الواقع. وهو تمهيد متعمّد من الكاتبة للتّطوّرات التي ستحصل في مسار الرّواية، القصد منها الأساسي، خلق ترابط عاطفي بين القارئ وشخصياتها. وهذا لأسر هذا الأخير، ضمن تواتر أحداث الحكاية وشدّه إلى إيقاع تقلّباتها.

 منذ الوهلة الأولى، من دون تمهيد، على خلاف الرّواية الكلاسيكيّة، تلج بنا الكاتبة مباشرة عبر الحوار، داخل إطار مكاني غير منتظر، لتستعرض وضعا وحالة غير طبيعيين للإنسان. لتربك ذهن المتلقّي، حتى يستقرّ بعدها، على أنّه تورّط في دائرة من غير المعتاد. هو مستشفى الأمراض العقليّة. وبتقنية التّضمين، تخبرنا الكاتبة، من خلال إيحاءات الحوار، أنّ انقلابا سيحدث، فمن غياب الذّاكرة وتلاشيها، إلى استرجاعها، من حالة الهستيريا إلى استعادة الرّوح للسّكينة والتّركيز.. وهو ما يتجلّى ضمن هذا الحوار بين الشّخصيّة الرّئيسة المريضة وطبيبتها[64]:

<<- زينة!

انتشلني صوتها المحفّز من وهد الخدر وأيقظ حواسّي، فتحت عينيّ ببطء، لأجدها تحدّق فيّ بحنان محيّر:

– كيف تشعرين؟

– لساني.. ثقيل..

– لا عليك، ضاعفت جرعتك البارحة حتى تهدئي وتنامي.

تحرّكت أناملي في اتّجاه صدري وبطني باحثة عن ذلك الحزام اللّعين، وللحال بادرتني:

– تركتك طليقة، لن نربطك بعد الآن.

طالما ردّدت ذلك، ثمّ أجد نفسي موثقة، عندما أشعر بألم الجروح والكدمات، أدرك أنّي آذيت نفسي وأنّهم أوثقوني.

– بدأت تتعافين زينة وستستعيدين جزءا من ذاكرتك.

– وحالات الهستيريا؟

– ستتلاشى..>>..

هذا المقطع الحواري يكشف عن درجة عالية من الجماليّة، حينما لجأت الكاتبة إلى استخدام لغة خطاب سلسة وهادئة تصدر عن مريضة نفسيّة، مع تصوير مشهدها وهي في حالة وهن، تتلطّف طبيبتها النّفسانية بعبارات في شبه استعطاف لاستفسارها عن حالتها.. وقد خيّرت الكاتبة أن تبرز شخصيتها في حالة سكينة واستسلام وليس في حالة تشنّج واضطراب، وذلك بقصد استدراج القارئ إلى تواصل عاطفي بينه وبين هذه الشّخصيّة التي تصوّرها وديعة، تمهيدا لتطورات حكايتها وتواتر أحداثها من خلال الاسترجاع التّدريجي لذاكراتها.

ضمن هذا الحوار، جمعت الكاتبة بين جزأي الجماليّة الرّوائيّة: من جانب، خطاب قصده الإثارة العاطفيّة لأحاسيس المتلقّي، ومن جانب آخر، الوصف الإيحائي والمحفّز لذهنه، لاستقبال مضمون روائي يتناول ظاهرة من غير المعتاد، مع الكشف عن خصوصيّة حالة نادرة تجمع بين الذّاكرة المفقودة وتحقّق المتخيّل الرّوائي المحفّز الذي ستشرع في سرده شخصيات فقدت ملكاتها الطّبيعيّة. لتحقّق غاية السّرد الجمالي في الحكاية..

ب) مقصد الجماليّة

أبعد من التّأثير في المشاعر، الجماليّة لها غاية تحقيق الوعي. فمن خلال تصرّف الشّخصيات، سلوكياتهم، حواراتهم إلخ.. تتمّ مراكمة المفاهيم وإحداث الانفعالات. وعادة ما تتجاوز تجربة الرّواية تجربة القارئ. وهذا من شأنه أن يوفّر له معارف وتقبّل أفكار لم يبلغها من قبل.. فالجماليّة تسهّل نقل الرّسائل التي يحتويها العمل الأدبي، وهي تسعى دوما إلى تحقيق الأمثل في إيصال الشّكل والمضمون.. فالتّجربة الجماليّة اتّحاد بين الطّرق الضّرورية المجدية للتّواصل الخطابي والرّسالة المنقولة ضمن العمل الأدبي، في علاقة بالوعي الجماعي، بالمتخيّل والمشاركة الفكريّة والعاطفيّة. والحكاية الجيّدة شبيهة بقطعة من الحياة، تُستحضر فيها كافّة الحواس، تنشّطها وتحرّكها، وتركّز الانتباه حول مدلولات بعينها، حتى ترسخ الرّسالة عميقا في الذّاكرة. وهذا ما توفّقت فيه رواية “مرايا عمياء” إلى حدّ الإلمام والاكتمال. فأوردت حكايتها بأسلوب تجريبي مبتكر، يتخطّى حدود الرّواية التّقليديّة وحتى ابتداع طريقة جديدة لبنائها، وهو ما أطلقنا عليه في البداية:<<الرّواية الشّعاعيّة>>، كبؤرة الضّوء التي تنطلق من كوّة واحدة، نقطة واحدة، مركز واحد، ليتوزّع شعاعها إلى نواحي متعدّدة، وكلّ خيط شعاع يروي حكاية، لكنّ يظلّ المصدر واحدا وهو الأصل في الحكاية المجمّعة. كما الرّواية مشبعة من حيث مضامين الرّسائل التي أرادت الكاتبة تبليغها إلى المتلقّي. من ذلك، صراع الإنسان مع الإنسان في مجتمع تسيطر عليه قيم مختلّة، صراع الإنسان مع ذاته وانكساره أمام القوّة والتسلّط، بفعل ما هو سائد من ظروف الفساد الأخلاقي السّلوكي، قهر المرأة، كسر إرادتها وإحباط أمانيها في المجتمع التّقليدي، إحالات تاريخيّة موحيّة بإذلال الإنسان، ومع ذلك فأنّ الرّواية لم تهمل في رسائلها، تعاطف الإنسان مع الإنسان، الحبّ في شكله الوفيّ النّقي كمخلّص للإنسان ومساعد على مغالبة محنه وحالات قهره.  

خاتمة

 يقول الشاعر الأنجليزي “شيلي” في ملحمته “برومثيوس طليقا “:<<إنّ الفنّ يعود إلى النّاس، ويجب أن تخترق جذوره ما هو محبّب في أعماق النّاس. يجب أن يتذوّقه النّاس ويولعون به. يجب أن يوحّد عواطف وأفكار وإرادة هؤلاء النّاس ويحفّزها>>..

تنبني الرّواية على ثنائيّة التّناقض بين الموجود المرفوض وبين المنشود بعيد المنال. فيتحوّل انكسار أفق الشّخصيات إلى إحباط بسبب القهر المسلّط عليها بأشكال مختلفة، حسب الظّروف الحياتيّة لكلّ منها، ثمّ إلى تفجّر في حالة جنون.

في جانب آخر، تكشف عن الوضع الدّوني للمرأة والقهر الذي سبّبه لها التّاريخ وما مارسه عليها المجتمع. تبيّن أوجاع الأنوثة التي تعانيها المرأة وتعرّي واقعها الذي يجعلها تحتقر ذاتها كإنسان، ويجرّدها من أحاسيسها ومشاعرها وقيمها. ولعلّ الكاتبة، من خلال بعض النّماذج النّسويّة التي قدّمتها، في عديد المواقع ومن الشّرائح الاجتماعيّة المختلفة، تريد أن توحي إلينا من أمثلتها، بأنّ تجارب جميع النّساء مع الرّجل هي واحدة، في المجتمع التّقليدي. فهي دوما تحتلّ الوضع الدّوني، حتى وإن تعالت قدراتها العقليّة ودرجاتها العلميّة، تظلّ خاضعة لسيطرة الرّجل والهرميّة الأسريّة. هذا الرّجل الأنانيّ المتعالي الذي لا يرى فيها سوى جسد الغواية، ويعتبرها وعاء لتلبية شهواته وإشباع نزواته. أو هو يزدريها، فلا يهتمّ بأحاسيسها وشخصيتها، يحتقرها كمتاع ويتعامل معها بإهمال وكبرياء. وهي أحيانا، السّبية منزوعة الإرادة وفاقدة الحرّية، تكمن قيمتها الوحيدة في فتنة جسدها، حينما يتلهّى به الرجل ويستكمل فيه لذّته. أو حينما تكون ماهنة تقوم على خدمة الرّجل ومحيطه العائلي..

هكذا، استطاعت الكاتبة، بأسلوب بارع ومؤثر، الكشف عن إلمامها بالمعاناة الدّاخلية للمرأة، لتعرض لنا مواقف دراميّة في شكل مشاهد وحوادث مأسويّة صادمة، أو مونولوج يتكرّر في عديد المواضع من الرّواية، يبرز صراع الذّات مع الذّات، ويخرج صدى الصّراخ المكبوت الذي يتردّد في عمق الإحساس، معبّرا عن انكسارات الروح وتوتّر الشّخصية.. وفي تمازج بين تجارب الشّخصيات المحوريّة في الرّواية، تظهر ذلك التمزّق الذي تعيشه هذه الشّخصيات بين الحاضر والذّكرى، ممّا يجعل ذاتها تعاني من الحضور والغياب، وهي بذلك ترسم أبعادا تراجيديّة لواقع شخصياتها المأسوي والمثقل بالهموم، لتتفجّر في حالة جنون.

تتوفّر الرّواية على تكثيف لعنصر الإثارة، كما هي ثريّة بأبعادها المعرفيّة الفنيّة، اللّغوية، السّيميائيّة، السوسيولوجيّة، البسيكولوجيّة، إلخ.. أمّا على المستوى الإبداعي، فهي تعدّ ارتقاء أدبيّا يتوق إلى مضاهاة الكونيّة، لنعدّها إضافة إلى الخبرة الإنسانيّة في مجال النّص والتجديد، بفكرها وإضافتها الفنيّة الأدبيّة العالية. كما أنّ قصديتها متميّزة لاشتمالها على موضوع الخصوصيّة الذي يعدّ أبرز سمة للتميّز في الكتابة الأدبيّة ما بعد الحداثيّة، وخاصّة فيما يتعلّق بالرّواية. هو نصّ ريادي تجديدي، لما فيه من ثراء وله صفة الإبهار، بسبب ما يوفّره من دهشة للمتلقّي.

عبدالحميد الطبّابي

مارس 2025.

 

[1]– كارل غوستاف يونغ طبيب نفساني سويسري (1875-1961)، وهو واضع نظريّة “أنماط الإدراك”، وأطلق عليها اسم “الوظائف النّفسيّة”، حدّد هذه الوظائف كالتّالي: “الإحساس، الحدس، التّفكير والشّعور”، تستخدم لإدراك العالم وتفسيره. كما أنّه مؤسّس “علم النّفس التّحليلي”. وله عدّة مؤلّفات في الغرض.

[2]– صفحة 37، الفقرة الثّالثة

[3]– صفحة 26، الفقرة الثّانية

[4] – صفحة 48، الصّفحة الأخيرة

[5] – صفحة 29- 30، الفقرة الأخيرة والفقرة الأولى

[6]– صفحة 121، الفقرة الأولى

[7] – صفحة 37، الفقرة الأولى

[8]– صفحة 33، الفقرة الثّالثة

[9]– صفحة 44، الفقرة الأولى

[10]– صفحة 56، الفقرة الأخيرة

[11]– صفحة 8، الفقرة الثّانية

[12]– صفحة 18، الفقرة الأولى

[13]– صفحة 25، الفقرة الثّالثة

[14]– صفحة 8، الفقرة الأولى

[15]– صفحة 9، الفقرة الثّانية

[16]– الصّفحة 8، الفقرة الثّانية

[17]– صفحة 9، الفقرة الثّالثة

[18]– صفحة 10، الفقرة الرّابعة

[19]– صفحة 9 و10، الفقرة الأخيرة والأولى

[20]– صفحة 14، الفقرة الأولى

[21]– صفحة 35، الفقرة الأولى والثّانية

[22] – صفحة 42، الفقرة الأولى

[23]– صفحة 46، الفقرة الثّانية

[24]– صفحة 106، الفقرة الثّالثة

[25]– صفحة صفحة 107، الفقرة الثّانية

[26]– صفحة 108، الفقرة الأخيرة

[27]– Entretien avec Anaëlle Touboul. Titré:<<La littérature réflichit la folie: elle le reflète et permet de le penser>>, 9 Août 2019

[28]– Jean-Marie Schaeffer est un philosophe français des arts du langage. Il est chercheur au CNRS, et directeur d’études à l’EHESS

[29]– صفحة 236، الفقرة الثّانيّة

[30]– “البوليفونيّة”، تعدّ الرّواية البوليفونيّة متعدّدة الأصوات والرّؤى. ويعتبر “ديستويفسكي” المنظّر الأوّل للرّواية البوليفونيّة حسب ما يقدّره النّاقد “باختين”، فأشار إلى أنّ رواياته فضاء رحب يضمّ أفكارا ولغات مختلفة وأيديولوجيات متنوّعة. وهي متعدّدة الأصوات وذات طابع حواري.

[31]– صفحة 10، الفقرة الثانية والثّالثة

[32]– صفحة 11، الفقرة الأولى

[33]– صفحة 93، الفقرة الأخيرة

[34]– صفحة 75 و76، الفقرة الأخيرة والأولى

[35]– صفحة 82، الفقرة الثّانية

[36]– صفحة 143، الفقرة الأخيرة

[37]– صفحة 10، الفقرة الثّانية

[38]– صفحة 40، الفقرة الثّالثة

[39]– صفحة 34، الفقرة الأولى والفقرة الثّانية

[40]– صفحة 43، الفقرة الأولى

[41]– صفحة 45، الفرة الثانية والثالثة

[42]– صفحة 52، الفقرة الثّالثة

[43]– صفحة 95، الفقرة الثّانية

[44]– صفحة 97، الفقرة الرّابعة

[45]– صفحة 124، السّطر الأخير

[46]– صفحة 157، الفقرة الأولى

[47]– صفحة 235، الثّانية والثّالثة

[48]– صفحة 261، الفقرة الأولى

[49]– صفحة 267، الفقرة الثّانية

[50]– صفحة 288، الفقرة الأخيرة

[51]– صفحة 6، الفقرة الأخيرة

[52]– صفحة 185، الفقرة الثّانية

[53] – صفحة 8، الفقرة الثّانية

[54]– صفحة 11، الفقرة الثّانية

[55]– صفحة 17، الفقرة الأولى

[56]– <<Jean Chevalier (1906-1993), écrivain et philosophe>>, a écrit avec <<Alain Gheerbrant (1920-2013), poète et explorateur>>, le dictionnaire encyclopédique contenant plus de 1600 articles d’anthropologie culturelle consacré au symbolisme des mythes, rêves, coutumes, gestes, formes, figures, couleurs et nombres trouvés dans la mythologie et le folklore. Publié pour la première fois en 1982.

[57]– صفحة 32و33، الفقرة الأخيرة والأولى

[58]– صفحة 32، الفقرة الأخيرة

[59]– صفحة 165و 166، الفقرة الأخيرة والأولى

[60]– صفحة 120، 121، الفقرة الأخيرة والأولى

[61] – Jon-Arild Olson” ، جون أريلد ألسون” 1965- 2024. من أصل نرويجي، مختصّ في فقه اللّغة الفرنسيّة، مؤلّف كتاب:<<نظريّة الرّواية>>.

[62] – صفحة 98، الفقرة الأخيرة— صفحة 99، الفقرة الثّانية

[63] – صفحة 133، الفقرة الأخيرة— صفحة 134، الفقرة الأولى

[64] – صفحة 1، الفقرة الأولى

spot_imgspot_img