
بقلم نعيمة الحمّامي التوايتي
لفت انتباهي هذا النص الشعري للشاعرة اسمهان الماجري نشرته على صفحتها بالفايس بوك:
“الكتابة ستجعل القراء يبهرون بكل عقدك النفسية التي تسبب بها الأخر، فاحذر أن تتحدث عنها خارج الكتابة كي لا تدخل عيادة نفسيّة، بل تدخل لقب المبدع الذي يصنع من أقصى القبح لوحة لغوية ومعنوية جميلة”
أنا لست حرة
أنا سجينة لهذا القلب
عفوا لهذا الكلب
الذي حرس كتلة من الظواهر
الغريبة على هيئة إنسان
فرماه بحجر، بل بألف
فارتفع عواؤه مستذئبا
ربما يوهم القراء
أنه يستطيع أن يأكل من يرميه بالحجارة
مكشرا عن أسنانه
لا مكشرا فقط عن نباح في هيئة كتابة
ما بين حالة القلب الكلب
وحالة القلب الذئب
زمن يطول فأشعر بقلبي تطول يديه
قريبا أجوب المدينة بيد خارجة يسار صدري
على شكل قبضة
أظافرها أنياب
تحلم أن تصير مزهرية
لعنق تضغط عليه
وتسميه عشبة سامّة تسللت لحديقة وردية”
________________
نصّ شعري مكثّف جاء دون عنوان ما يفتح المجال لسيميائية الفراغ/ الصمت يجعل النصّ يوحي بتوتر نفسي نسوي ويدعو المتلقي إلى ان يملأ هذا البياض جاء في النصّ:
“الكتابة ستجعل القرّاء يبهرون بكل عقدك النفسية… تدخل لقب المبدع الذي يُصنع من أقصى القبح…”
عندما نفكّك هذا الخطاب الشعري نقف على علامات اساسية هي:
الكتابة / قناع وجودي وجمالي، العُقَد / أصل المادة الجمالية، القبح / أصل اللوحة.
تضحى الكتابة قناعا وشكلًا من أشكال التلاعب بالسرد الذاتي: من اعتراف مرضي إلى شرعية جمالية. هذه الفقرة تحيل إلى سيمياء التحوّل. وعندما نقف على الخطاب التّالي تتأكد صيغة التحول هذه:
“أنا لست حرة
أنا سجينة لهذا القلب
عفوا لهذا الكلب”…
ثم
…”فارتفع عواؤه مستذئبًا”…
نقف على العلامات التالية:
: ثنائية القلب/الكلب، الخضوع والانكسار- القلب/الذئب، التهديد العدوانية
تبرز هذه المقاطع انزياحا للمعنى جعل الجسد يتشظى إلى حالات وجودية متقلّبة ومزاجية:
بين الانكسار والخضوع – وبين الهجوم والعدوانية، ثنائيات تحوّل الجسد إلى كيان غريب، كلب/ذئب وكأنّ الألم يجعل الذات تنفصل عن ذاتها، في إحالة على اضطراب نفسي يعكس أزمة هوية وجدانية في سيميائية الجسد الخارج عن هويته الجسدية.
تقول الشاعرة:
” زمن يطول فأشعر بقلبي تطول يديه
قريبا أجوب المدينة بيد خارجة يسار صدري
على شكل قبضة
أظافرها أنياب”
يخرج الجسد هنا من شكله الطبيعي البيولوجي ومن هويته الجسدية البشرية إلى شكل تخييلي عجيب يأخذ منحى احتجاجيّا ضدّ الضغوطات التي يتعرّض لها جسد الانثى في وسطه الجمعي. تمرْد الجسد وانفجر فخرج عن ذاته تعبيرا عن رفضه لهذا الواقع وكانّ بصورة العجائبي الحاضرة في هذا المقطع جاءت لتأكيد هذا الرفض وللتشكيك في قدرة الواقع على التحوّل “يد خارجة يسار صدري…” الذات الشاعرة تقدّم صورة شعرية مشحونة بالعنف والجروح والألم.
من منظور علم النفس التحليلي هذا ” الجسد الخارج عن الجسد, هو تجسيد بصري لمكبوتٍ نفسيّ لم يعد ممكنًا احتجازه داخل الجسد الأول.
فتراكم القهر المستبطن أدى إلى تمثيل جسدي هدفه تفريغ المكبوت فيصبح الجسد لا يُعبّر عن رغبة في الحضور، بل على رغبة جامحة في التحوّل. لذلك، اليد الخارجة من “القلب” هي قبضة، والقبضة لها أنياب، أي أن الجسد يتسلّح ويعلن عن رغبة في التغيير، تغييير العقلية الذكورية السائدة في
المجتمع وفرض توازن جديد يعيد النظر إلى الجسد، جسد الانثى باعتباره كينونة فاعلة قادرة عل فرض حضورها كقيمة انسانية بالفعل وبلغة القوة. تقول الشاعرة في قصيدتها:
“تحلم أن تصير مزهرية لعنق تضغط عليه”
فاليد الخارجة من القلب تتوق إلى أن تصبح “مزهرية”. و(المزهرية لها بعد جمالي فني)، لكنها هنا تنقلب إلى مزهرية مخاتلة، وظيفتها تتجسّد في ” الخنق” وهو مصدر مشحون بالعنف. وبالتالي تستعير الذات الشاعرة هنا الجسد لتصوغ عبره موقفا من الآخر باعتباره شرّا وجحيما لإنه سبب الجرح والجرح يشوه الجسد. هذا التشويه هو الذي يولّد قوّة هجومية، متخيّلة لكنها مرعبة ومخيفة تجعل الجسد يتمرّد ويحتج وعلى استعداد للهجوم
اليد تخرج من القلب / لم تعد ملكًا للذات
اليد التي تريد الخنق / لم تعد تعبّر عن الحب
اليد التي تحلم أن تكون مزهرية / هي علامة مشحونة بقوة الفعل الذاتي
نحن إذا أمام قصيدة نثر تُحوّل الجسد إلى كتابة وتُنتج من الألم لغة مجازية. لأنّ اليد الخارجة من يسار القلب ليست فقط جملة تهديدية، بل علامة على الكتابة ذاتها والقلب المتحول هو استعارة للإرادة الكتابة. اما الانياب فهي علامات لغوية مشحونة.
هذه العلامات جعلت فعل الكتابة يُحوّل القبح إلى جمال. فهو فعل إنقاذ نفسي وتجميل للندوب ففي قمّة الواقعية الفجّة تنبجس الدهشة، وتكون الكتابة “جسد ثان”. صنع من القلب المفجوع لغة مفترسة وجعل من جسد الانثى ساحة صراع بين الهوية المقهورة أو(الخارج المقموع) والداخل المنفعل، المتمرّد.
وقصيد يحرّض القارئ على تأويل القبح من خلال الفن.
تأتي الكتابة خلاصا، ومسرحا للتمويه الجمالي، وقصيدا حداثيّا بامتياز.