spot_img

ذات صلة

جمع

الكتابة بالوجع والخيبة أو هلوسات سقوط بغداد…

بقلم: رياض خليف 1اخترت أن أواصل في هذا المقال الجديد...

من ذكريات 7/11…

شاهين السّافي بعض التواريخ تحتفظ بها الشعوب في ذاكرتها، ليس...

الحروب الثقافية كيف تبدأ وأين تنتهي؟

الكاتب: حسني عبد الرحيم شهدت السنوات الأخيرة صعود وانتشار مصطلح...

حين تكون القصيدة عينا على فلسطين

*قراءة وصفيّة لقصيدة : " حنين على عتبات الغياب...

الموسيقى والسياسة في افق فلسفة فرنسوا شاتليه

ترجمة وتقديم :إبراهيم العميري توطئة:هل يمكن التأسيس لتقاطعات مثرية منشئة...

حين تكون القصيدة عينا على فلسطين

*قراءة وصفيّة لقصيدة : ” حنين على عتبات الغياب ” للشّاعر التّونسي هشام الورتتاني  

 
بقلم : الأديبة كوثر بلعابي
 
 
 
حنين على عتبات الغياب
 
 
بقلم الشاعر  هشام الورتتاني 
 
 
على سطح بيت ملاه الصّدى
 
وولّف فيه الحمام
 
حذاء قديم وذكرى
 
وعُشّ عصافيرَ وَلْهَى 
 
تَحِنُّ إلى العابرين…
 
ونافذة من زمان الوليد
 
تُطلّ على القدس والغائبين،
 
تُطيل التّأمّلَ في الذّكريات
 
وتَرْنو إلى شَجَرِ اللّوز
 
أبْيَضَ أبْيَضَ
 
سَيَّجَهُ السَّرْوُ والسَّنْدِيان،
 
على السّطح طيْفٌ
 
يُردِّدً في الأُغْنيات
 
وأنّاتُ نايٍ حزين يُجيد الأنين،
 
يُجيدُ الحنين… 
 
ونَجْمٌ شريد جفاه الغياب
 
وضاقَتْ عليه الدّروب
 
فمنَّت عليه السّماء بخِلّ
 
تَورّط مِثلَه بالإنتماء
 
وصارا معا في طريق ملاه الضّباب
 
إلى خيْمة في جنوب الجنوب
 
دَمَى جُرْحُها وانْكَوَتْ بالّلهيب وفَقْدِ الحبيب
 
ونادَتْ إلى الله
 
ربّي أَجِرْنا
 
وخَفِّفْ على الصّابرين…
 
وكُنْتُ أنادي (دَمِي وَرَمادي)
 
وأَرْسُمُ وشْما على مَتْن جُرحي،
 
يُدوّن ما خلّفَتْه السّنين…
 
وأَصْرُخُ يا ليلُ قُلْ لي مَتى 
 
وأمْضي وحيدا أَجوبُ المدى
 
كظلٍّ ظليل…
 
أَصُّبُّ وأَقْطُرُ فوق الثّرى
 
وأعْبُرُ نابلسَ حتّى الخليل 
 
ويافا وحيفا وعكّا وغزّة
 
وبيْسان والقدس والنّاصِرة
 
وأدعو السّماء بقلب جريح
 
خُذي مِنْ دَمِي جُرْعَةً واسْكُبيها
 
على الأرض كَيْ تَسْتَكين،
 
وصُبّي وصُبّي على الصّخْر حتّى يلين…
 
خُذي مِنْ دَمِي قَطْرَةً واجْعليها رِداءً
 
لطفل تَجَمّدَ في حضْن أُمِّهِ 
 
مِنْ وَخْزَةِ البرد أو طعْنَةِ الخائنين…
 
خُذي بيدي واجْعليني أُعانِقُ أمّا
 
تزُفّ إلى الأرض وعْدا
 
وتَمْضي وفي القَلْبِ آهٌ وعيد
 
وبين يديها رسائلُ لَوْمٍ
 
إلى أمّة نَكَثَتْ باليمين…
 
خُذيني إلى الدّربِ حُرّا وفادي
 
لِمَنْ في الطّريق ينادي (دَمِي وَبِلادي)
 
ويَدْعوكِ باسم الشّهيد وجُرح الوريد
 
خُذيني إليكِ إلى أن يَحِينَ الرّجوع إليكِ
 
إلى أن يَحِين…
 
على السّطْح دهرٌ مِنَ الإبتلاء
 
وآهاتُ شعب يُداري الوَجَعْ
 
يُداري الفَزَعْ
 
و جُرْحٌ وقُرْحٌ 
 
وصَوْتٌ خفيف
 
صبيّ مُسَجّى على العتبات
 
يئنُّ ويَصْرُخُ أيّوبُ مات
 
أيّوبُ مات…
 
ودمعةُ شيخ كفيف، تألّم من شدّة البُعد والإنتظار
 
وخطَّ الزّمانُ على باب داره قصّةَ عشقٍ،
 
أغار عليها الحصار…
 
فصارت كَمَنْ بُتِرَتْ ساقها في أقاصي الجنوب
 
تَئِنّ وتَمْشي على منْكبَيْها
 
وبين يديْها وصيّة نار:
 
إلى مَنْ سَيولَدُ تَحْتَ الرُّكام
 
تحيّة روح تُحلَّقُ فوق الغمام
 
وبعد،
 
لقد فاجأتْني المنيّةُ هذا المساء
 
نَزَفْتُ، نَزَفْتُ وجَفّت جُروحي وأسْلَمْتُ روحي
 
وأوْدَعْتُ ساقي بِدِيرِ البَلَحْ
 
وها أنّني في الطّريق إلى حضْن من علّمَتْني الفرحْ
 
أُوَدِّعُ دَرْبا طويلا وجِسْما دَمَى وانْجَرَحْ
 
وأوصيكَ بالأرض خيرا وبِي
 
فَلَمْلِمْ رُفاتي ودَوِّنْ وفاتي وخَبِّر أبي
 
وضَمِّدْ جراحَك واطْلقْ جَناحَكَ… باسْم النَّبيّ
 
وصلّ معي لربّ الوجود
 
وغنّ وغنّ (غدا سنعود)
 
وناد إلى مَنْ يُجيب
 
إلاهي الحبيب
 
أذِقْنا من الحقّ يوم اليقين،
 
وهَبْنا على الأرض نصرا مُبين…
 
على السّطح كُنْتُ أنا والحمام
 
نُصلّي لربّ المقام
 
لِمَنْ لا ينام
 
ونُلْقِي على القدس أحلى سلام
 
سلام عليك سلام إليك
 
مِنَ القلْبِ مِنْ شُرُفات الحنين…
 
” الشاعر هشام الورتتاني “
 
 
تصدير : 
أنظُرُ في نفسي طويلا 
إلى أن أرى ثُقبًا في الصّفحة 
أضع على الثّقب كلمة 
أنفُخُ في الكلمة كَي تكبُرَ قليلا
هكذا أحصل أحيانا على قصيدةٍ… 
(آدم فتحي _ نافخ الزّجاج الأعمى _) 
 
* تقديم :
نعيش اليوم في تونس والبلاد العربيّة على وقع سياق تاريخيّ فارق هيمن عليه استهداف وجودنا من قِبل القوى الاستعماريّة الامريكيّة _ الصّهيونيّة وحلفائها بشتّى الوسائل العسكريّة وغير العسكريّة وبتنا نرى البلدان العربيّة تُخرَّب من الدّاخل وتُدَمَّر من الخارج تباعا ( العراق _ ليبيا _ سوريا _ السّودان زيادة على ما يحدث في فلسطين من إبادة مُمنهجة للإنسان ..) و نحن لا يّسمَع لنا ركز تحت وطأة ما نشهده من ضغوط اقتصاديّة وسياسيّة ومن ضرب للمقاومة وللوعي الوطنيّ والقيم النّضاليّة. كلّ ذلك جعل العديد من المثقّفين والأدباء يجنّدون أقلامهم وفعلهم الثّقافي للإنخراط في موجة الدّفاع عن الحقّ الفلسطيني وتبعا لذلك عن الحقّ العربي في الوجود وفي عيش الشّعب على أرضه بحرّية وسلام. فنشأت حركة أدبيّة نشطة خاصّة منذ طوفان 7 أكتوبر 2023  وما ترتّب عنه من تبعات داخل البلاد العربيّة وخارجها أفرزت إنتاجا هامّا كمّا ونوعا أضاف إلى مدوّنتنا الأدبيّة وأكسبها مسارات جديدة على خطّ التّجريب  والإبداع في مختلف أنماط الكتابة الأدبيّة وخاصّة منها الشّعر ربّما باعتباره الأكثر استجابة لمقتضيات التّعبير الحماسي والاحتجاجيّ. والشعراء التّونسيّون على اختلاف طرقهم في انشاء القصائد سجّلوا أكثر من غيرهم انخراطهم في هذا الخطّ المقاوم  المناهض للتّطبيع مع القوى الاستعماريّة والمدافع عن الحقّ الفلسطيني والغاضب لدماء الفلسطينيين المهدورة ظلما.
والشّاعر هشام الورتتاني  صاحب المجموعتين الشّعريّتَين : ” بِلا قِبلتَين” و “عذرا سئمتُ الانتظار ” له قصائد كثيرة  في هذا المجال منها قصيدة : * حنينٌ على عَتباتِ الغيابِ * وهي قصيدة  من الشّعر الحرّ موقّعة على تفعيلة البحر المتقارب . ويمكن  مع  ذلك أن نعتبرها نموذجا ملموسا للكتابة في المنحى التّجريبي الجديد الذي يأبى الالتزام بالضّوابط والتّصنيفات ويتقاطع مع مختلف الأشكال الأدبيّة والفنّيّة المُتنوّعة. ويأبي تبعا لذلك إمكانية تناوله بالبحث والتحليل وفق أيّ من المناهج النّقدية المتعارفة. لذلك آثرتُ وانا أتأمّل هذه القصيدة أن انبش فيها بمنهج البحث عن أبرز ما كانت  به قصيدة وهو كثير ومكنون ممّا يجعلني أكتفي بِما تيسّر لي منه.. 
 
العنوان وبنية الخطاب الشّعري :
 
جاء العنوان (( حنينٌ على عتباتِ الغيابِ )) في شكل جملة إسميّة تقريريّة تُقرّر حالة وجدانيّة انفعاليّة مستمرّة أو ممتدّة تحيل على المكابدة النّاجمة عن البُعاد والفَقد والغياب  هكذا بشكل  مطلق عار من التّخصيص والتّحديد : فَقْدُ مَن ؟ والغياب عن مَاذا ؟ مَن أو ماذا يكون هذا الذي هيّج الحنين ؟ وهل ورد مَتنُ القصيدة مُحَمّلا بالإجابة ؟ 
من الوهلة الأولى وانا أتأمّل القصيدة وبناءَها الدائريّ في انفتاحها بمشهد السّطح وانغلاقها عليه، وجدتُني أتمثّل صورة عَيْن الشّاعر  وهو يقف على السّطح كمَوقع مُشرف على الأماكن والاتّجاهات. هذه العَين وقد انفتحت وجالت تبصر السّطح بما فيه من جدليّة الخواء والعدم : (( الصّدى _  حذاء قديم  _ ذكرى _ تحنّ إلى العابرين..))  والحبّ والسّلام والحياة في مقابل ذلك : (( ولّف فيه الحَمام _ عشّ عصافير ولهى… )) ترقب الأمداء وترحل بالقارئ نحو الشّرق عبر مختلف المدن الفلسطينيّة وما يجري فيها وتصعد مع الشّهداء نحو العالم الآخر وتقرأ وصاياهم لتعود إلى دواخل الشّاعر على السّطح وقد تغيّرت محتوياته : (( على السّطح كنت أنا والحمام / نُصلّي لربّ الأنام…)) ترصد انفعالاته وطمأنينةَ وصلاته. وبين الانفتاح والانغلاق لحركة العين يقف الأنا / الشّاعر على السّطح / الطّلل وعلى رأس الخطاب الشّعري، على طرفي نقيض : _ سكون مادّيّ بلا حراك في ذات المكان كسكون شعبه وقعوده عن حركة التّاريخ؛ _ وحركة وجدانيّة وذهنيّة مضطربة ومضطرمة تجسّدها العين ببعدَيْها الحسّي ( البصر ) وهي تتابع مشاهد الواقع مكانا وإنسانا : (( تُطلّ على القدس… / ترنو إلى شجر اللّوز…/ اجعليها رداءً لطفل تجمّد في حضن أمّه… )) والعقلي ( البصيرة ) وهي تتابع انفعالات الأنا / الشّاعر وتأمّلاته تجاه مُجرَيات هذا الواقع : (( تطيل التّأمّل في الذّكريات… / أرسم وَشمًا على مَتنِ جُرحِي../ أعبر نابلس حتّى الخليل… / وأدعو السّماء بقلب جريح…)) 
هكذا كانت الرّؤية البصريّة طريقا إلى الرؤيا الذهنيّة أو بالأحرى الرّؤيا الشّعريّة التي أنشأت القصيدة وحكمت بنيتها الدّائريّة غير المغلقة حتّى وإن ماثل بدؤها عَوْدَها (( الوقوف على السّطح )) وذلك لتحوّل صورة السّطح من التّعلّق بالماضي ( الحنين ) إلى التّوق نحو الآتي ( الصّلاة والدّعاء ). وبينهما تتنوّع المشاهد في توظيف انسيابيّ لأدوات السّرد منسجم مع هذا التّواشج بين حركة عين الشّاعر وحركة ذهنه ووجدانه وهو يشاهد ما يجري في فلسطين ويشهد عليه يقوده الحنين ويلحّ عليه الغياب في غنائيّة تراتيليّة مأساويّة نابسة بالأنين أدّتها هذه الكثافة المُلفتة لأصوات المدّ الكسير سواء فى أختيارات المعجم والتّركيب أو في تفعيلة المتقارب ( فعولن ) واختيار القافية ذات المدّ الكسير و الرّويّ الخيشوميّ (… ين ) 
فالخطاب الشّعري أقيم على هذه الأسس لتتراءي القصيدة بمثابة عين الشّاعر المتلبّس بالذّات الفلسطينيّة في مكابِدتها للوجع بشتّى ضُروبِه وهي مُبعَدة قَسرا تحنّ إلى الأماكن والعابرين وتتقاسم  تَجرُّعَ أسباب الموت مع الصّامدين. إنّها العَين المبصرة الرّقيبة والشّاهدة على ما يحدث، والعَين البصيرة المتبصّرة الحارسة اليقظة دون الغفلة عن استرجاع الحقّ.. أ ليست تلك وظيفة الشّعر ومهمّة الشّاعر ؟؟ وما قيمة الشّعر إن لم يكن عين الرّاس السّاهرة والحارسة والعارفة على رأي * ابن منظور * حين كتب في لسان العرب : (( اعلم أنّ العين تنوب عن الرّسل ويُدرَك بها المُراد … وهي الباب النّافذ إلى القلب والنّفس تقف على الحقائق وتُميّز الصّفات وتفهم المحسوسات…)) أ ليس وجيها هذا التّلبيس الاستعماريّ للقصيدة بالعَين ؟؟
 
سمات الخطاب الشّعري وأبعاده :
 
أشرتُ  سابقا إلى اعتماد الشّاعر السّرد في لوحات تعبيريّة متناسلة متناسبة في مُجاراتها لحركة النّفَس الشّعري للأنا / الشّاعر المهيمن على الخطاب الشّعري منطلقها السّطح / الطّلل ( الحنين )  ومنتهاها السّطح / المحراب / الأمل ( الدّعاء). هذا السّرد تتالت لوحاته في نسق تصاعديّ يواكب تصاعد توتّر لهجة الخطاب تبعا لتوتّر الحالة الانفعاليّة للأنا الشّاعر :
_ مُستهلّها لوحة طبيعيّة رومنسيّة مفعمة بالحنين إلى الطبيعة الشّرقيّة في الشّام والهلال الخصيب : (( ترنو إلى شجر اللّوز / أبيض.. أبيض / سيّجه السّرو والسّنديان…)) ترمز إلى عذريّة المكان قبل أن تدوسه وتدنّسه أقدام المحتلّ الغاصب ويُشَرَّدَ أهلُه الأصيلون.. وكذلك صورته المنشودة حين استعادة  وإعادته  إلى أصله.. صورة الحلم البديل. 
_ تلتها لوحة لفّها الحزن صورا ومعجما : (( أنّات ناي حزين يُجيد الأنين / يجيد الحنين… )) هي لوحة اللّاجئين الذين وقع تهجيرهم غصبا يعضد بعضُهم بعضا وهم يغادرون نحو جنوب أيلول الأسود ( 1970 ) أو جنوب الحصار ( 2008 _ 2014 _ 2021 _ 2025 ) : (( إلى خيمة في جنوب الجنوب / دمى جرحُها وانكوت باللّهيب…))
_ ومع استدعاء المدن الفلسطينيّة في لوحة تتجاوز بالمكان الدّلالة الجغرافيّة : (( وأعبر نابلس…. ويافا وحيفا… وغزّة والنّاصرة..)) نحو الدلالة الوجدانية والوجوديّة للإنتماء إلى الأرض فيتداخل معجم الفداء وصوره مع تواتر أساليب الإنشاء مناجاة وشكوى وحماسة ودعاءً في توتّر متصاعد إلى آخر القصيدة : (( وأصرخ : يا ليل قل لي متى…. خُذي بيدي…. خذيني إلى الدّرب حُرّا وِفادي… خذيني إليك.. إلى أن يَحين الرّجوع إليك… ))
_ وهنا يتسارع نسق توالد اللّوحات وتواردها في نقل مشاهد الموت الوحشي المتعدّد الذي لا يُبقِي ولا يذر ولا يُميّز بين امرأة او طفل أو شيخ : (( وآهات شعب يُداري الوجع / يداري الفزع / وجرح وقرح وصوت خفيف / صبيّ مُسجّى على العتبات / يئنّ ويصرخ : أيّوب مات.. أيّوب مات / ودمعة شيخ كفيف تألّم من البعد والانتظار..))  ومعه يتراكم المعجم المتضرّس للقسوة والألم بشكل مؤثّر يقحم وجدان المتلقّي في إحساس الشّاعر بهذا العناء وكأنّه يعيشه فعلا.. 
_ وهنا تتداخل لوحة الفداء والشّهادة مع مشاهد الخيانة والخذلان عبر مفارقة تعمّق النّزعة الدراميّة في القصيدة : (( خُذي مِن دمي قطرة واجعليها رداءً / لطفل تجمّد في حضن أمّه / من وخزة البرد أو طعنة الخائنين / خذي بيدي واجعليني أعانق أمّا / تزفّ إلى الأرض وعدا… / وبين يديها رسائل لوم / إلى أمّة نكثت باليمين… )) هذه النّزعة التي تضع بشاعة فعل الاحتلال وبشاعة فعل الخيانة والخذلان في نفس الميزان..
_ وفي حركة صعود من الأرض إلى السّماء يعقد الشّاعر عبر لوحة طقوسية الصّلة بين عالمَي الغيب (( وصيّة الشّهيد إلى مَن سيُولَد تحت الرّكام…. / لملِم رفاتي ودوّن وَفاتِي… / وضمّد جراحك وأطلق جناحك.. )) و الشّهادة الأنا / الشّاعر في مكانه على السّطح وفى أستيائه وتأمّلاته يتوجّه إلى اللّه بِصلاته لأجل السّلام في القدس على خطى فيروز : (( على السّطح كنتُ أنا والحَمام / نصلّي لِربّ المقام / ونلقي على القدس أحلى سلام…)) ويجمع بين العالمين  نشيد العودة في وصيّة الشّهيد : (( وغنّ.. وغنّ : غدا سنعود…)) الذي ينعقد حوله فعل المقاومة والنّضال وقد أوجبت الوصيّة استمرار توارُثه بين فداء الشّهيد ووفاء الوليد كضامن وحيد انتصار الحق على الباطل والبقاء على الفناء. 
هذه اللّوحات تقاطعت فيها الدّلالات الرّمزيّة للأماكن والازمنة  والشخصيات والمعاجم فتشكّلت صورا مرئية ورؤيويّة  تأمّليّة في بنية أسلوبية قائمة على المفارقات مشاكلة للتجربة الإنسانية في تقييمها للواقع الفلسطيني وحتّى العربي المحتكمة إلى الرّهبة من الفناء والرّغبة في البقاء.. بذلك لم يُحمّل الشّاعر اللّغة مجرّد سرد المأساة الفلسطينيّة بقدر ما حمّلها مجازيّة السّرد في امتحان الوعي الإنساني بأقسي أحتمالات التّأويل لما اختزلته القصيدة من تاريخ هذه المأساة الفلسطينيّة..
 
خاتمة :
 
هكذا اتّسمت قصيدة ” حنين على عتبات الغياب ” بتنوّع الوان الكتابة وأدواتها  : النزعة الرّومنسيّة والواقعيّة  والنّزعة الصّوفيّة   التّأمّليّة والمفارقات والسّرد ألأساليب الإنشائيّة.، وكذلك بتنوّع التقاطعات بين الكتابة الشعريّة والمشهديّة المسرحيّة ( على مستوى تعدّد اللّوحات السّرديّة)  والفنّ التّشكيلي ( على مستوى تنوّع الأفضية وحركة الرّؤية بينها )، كلّ في تشكيل دراميّ فنّيّ استطاع تحويل القضيّة السّياسيّة إلى تجربة إبداعيّة لا تقف عند توظيف اللّغة توظيفا إنشائيّا جماليّا مؤثّرا بل تحفر تحت جلدها وفي لحمها الحيّ بحثا عن طرق غير معتادة في التْوليف بين بساطة اللفظ وبين عمق دلالاته  وكثافة إيحاءاته . وبحثا عن ممكنات مختلفة في إدهاش المتلقّي واستقطابه و البلوغ بجمالية الكتابة واكتمال المعنى إلى سقف انتظاراته. وهذا كفيل  بفتح مسارات أخرى للقصيدة الموزونة (الشّعر الحرّ ) بدورها في سياق البحث والتّجريب الذي لم يبق في فترة ما بعد 2011 حكرا على قصيدة النّثر ولعلّه شمل عودة عدد من الشّعراء حتّى إلى اختبار إمكانات كتابة قصيدة مختلفة في مجال الشّعر العمودي. 
 
spot_imgspot_img