spot_img

ذات صلة

جمع

“جبرا إبراهيم جبرا” و”البحث عن وليد مسعود”

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم تعود القراء على قراءة الشعر...

الرمزي في قصة ” في ليلة عاصفة” للفلسطينية عبلة فواز إبراهيم

رياض خليف د عبلة فواز إبراهيم روائيّة وقاصّة فلسطينيّة، طبيبة...

أيتها الحمير… شكراً اعتذار تاريخي

بقلم الأديب الفلسطيني خالد جمعة الحمارُ أكثر من مجرد حيوان...

تقديم المجموعة الشعريّة Le Navire du Délire للشاعرة جودة بلغيث والمترجمة نجاة البكري

بقلم الأستاذة حبيبة عدّاد التقديمLe Navire du Délireمجموعة شعرّية...

“جبرا إبراهيم جبرا” و”البحث عن وليد مسعود”

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم

تعود القراء على قراءة الشعر الفلسطيني المعبر عن النكبة فشعراء كهارون هاشم رشيد وعز الدين المناصرة وفدوى طوقان وتوفيق زياد وسميح القاسم ومعين بسيسو ومحمود درويش ومريد وتميم البرغوثي ومئات آخرين معروفين للمتتبع وحتى لغير المتتبع للأدب المكتوب باللغة العربية ،وكان التعبير الشعري عن الصدمة الشعورية والنفسية لجيل النكبة بما يتضمنه من الحنين للعودة وتعبير عن الصمود والتمزق النفسي في الشتات الفلسطيني والذي لم تتوقف خلاله الحروب والمذابح سواء في لبنان أو سوريا و الأردن، كثافة الإنتاج الشعري الفلسطيني منطقية ذلك لان الكتابة الشعرية اكثر قدرة على التعبير عن المآسي سواء الشخصية أو المجتمعية ..لكن الأدب الروائي هو تعبير متأخر عن الوجع الفلسطيني وهو اكثر ادراكا للمأزق التاريخي للمسألة الفلسطينية “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبن أبى النحس المتشائل” “لأميل حبيبي” وأعماله الأخرى المتعددة ك”ثلاثية الأيام الستة” مثلت بشكل ما الحالة الذهنية الممزقة للباقيين في فلسطين التاريخية وأصبحوا مواطنين لدولة إسرائيل ف”أميل حبيبي” نفسه كان عضوا بالكنيست ممثلا للحزب الشيوعي الذي يضم عربا ومستوطنين يهود جاءوا هاربين من محرقة من مختلف البلدان بالذات الأوربية الشرقية والبلاد العربية بعد الحرب العالمية الثانية! كما أن” أميل حبيبي” مسيحي الديانة وهى ديانة أقلية مع العلم بان” بيت لحم “بفلسطين هي مكان ولادة السيد المسيح والسردية المسيحية التأسيسية تدور كلها في البقاع والقرى الفلسطينية ، وهناك رجال دين لكنائس مقاومة كما حالة الأب” مانويل” المؤيد لحماس وحتى رجال دين مسيحيين انخرطوا في التعاون مع النضال المسلح كالمطران “كابوتشي” مطران الروم الكاثوليك بالقدس والذي حوكم عليه وتم حبسه عدة سنوات ثم الأفراح عنه بواسطة “الفاتيكان”، وكذلك قادة ك”جورج حبش ” مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ولا يمكن إلا نذكر بروفسير الأدب” إدوارد سعيد” بكولومبيا الذي تعاون مع المنظمة.

الروائيون الفلسطينيين أقل شهرة من الشعراء ونستثني من ذلك” غسان كنفاني” الذي أٌستشهد في بيروت وكان أحد قادة الجبهة الشعبية في مرحلة صعود التيار اليساري الفلسطيني التي تلاها صعود التيار الإسلامي بعد الخروج من لبنان بعد حرب أهلية طاحنة ثم غزو إسرائيلي حتى حصار “بيروت” ثم مذبحة صبرا وشاتيلا على أيدي اليمين الطائفي اللبناني وبحماية الجيش الإسرائيلي! الخروج الثاني سبقه الخروج الأول من الاردن بعد معركة الكرامة بين الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية المسلحة.

“جبرا إبراهيم جبرا” هو نموذج ليس متفردا لفلسطيني الشتات فهو المسيحي الذي يتحول للإسلام السني والذي نشأ في مدينة السيد المسيح “بيت لحم” وهو الدارس المتعمق للأدب الغربي ودرس في “كمبردج” و”هارفارد” والمترجم لأعمال هامة ك”ألصخب والعنف” لـ”بوخنر” وكذلك لأشعار “ت. س. أليوت” ولأغلب مسرحيات شكسبير وعمل ناقدا للفن والسينما والأدب. وهو الذي عاش منذ النكبة في العراق وحصل عل جنسيتها.. العراق التي كانت تموج بالاضطرابات بين الشيوعية والوطنية والقومية والانقلابات المستمرة التي لا يوجد ذكر لها في روايته.

روايته “البحث عن وليد مسعود”(1978) أصدرتها دار الآداب ببيروت وأعادت إصدارها دائرة الثقافة بمنظمة التحرير الفلسطينية بالتعاون مع” الثقافة الجديدة “بالقاهرة عام 1987.إصدارين بينهما عشرة أعوام تخللهما تحولات مفصلية للمسألة الفلسطينية!

“وليد مسعود” ليس شخصا بعينه ولكنه تقاطع شخصيات إذ يختفي عن نقطة حدودية ويترك سيارته وبها تسجيل صوتي معقد ومُلغز ويستمع أصدقاؤه للتسجيل الذي يشير لكل شيء ولا شيء حتى الفتاة المذكورة “شهد” لا يمكن التعرف عليها بين الموجودات في المحيط الاجتماعي وربما تبدو تمثيلا لهدف لجميع النسوة اللائي عرفهنّ. ولا يعلم أحد أين ذهب هذا الوليد الخمسيني الرجل الجذاب والاقتصادي الناجح والكاتب المبدع ويعمل بالعراق في نشاطات مالية مزدهرة ويذهب للندن وقتما يعن له ذلك بينما بيروت وجبال لبنان هي في متناول اليد! بينما يعيش منفردا إلا أنه سبق له الزواج من” ريم” الفلسطينية وله ابن منها “مروان” بينما تقضي “الأم” أعوامها في مصحة للأمراض العقلية بلبنان بينما الأبن ترك دراسته لينضم لإحدى الجبهات! في طفولته كان “وليد” طالب في رهبانية كاثوليكية في فلسطين وعمل على ان يصبح راهب ناسك بالاعتكاف بالجبل مع تلاميذ آخرين !عثر عليهم أهلهم ليعيدوهم لديارهم ..يذهب لروما ليستكمل تكريسه الديني في الفاتيكان كمشروع راهب لاهوتي كاثوليكي، ولكنه يهرب ليأخذ مسارا دنيويا مخالفا ويصبح بنكي ورجل مال ناجح وكاتب متفلسف ومعبود للنساء لكن تطارده هواجس الوطن المسلوب فيذهب ويقوم بتفجيرات في فلسطين المحتلة ويعتقل ويتعرض للتعذيب المضني الذي يصمد خلاله ويعاود مرات ومرات وعندما وصل أبنه(مروان) للعشرين من عمره يترك دراسته جانبا و يذهب هو الآخر لينضم لجماعة فدائية في بيروت وتنتهي حياته في عملية من عملياتها. كان مروان أيضا يحكي لإحدى صديقات (حبيبات) والده كيف كان يحاول أن يثنيه عن الانخراط مجددا في العمل المسلح وهو عجوز وقام بواجب في النضال وعليه أن يركن للراحة ويترك أبنه (مروان) ليستكمل طريقه للعودة.

“وليد مسعود” لا يظهر له وجود مادي طوال سياق الرواية مختفي من الأول للآخر. يحكى عنه الآخرون. نساء عشقنه حتى الجنون ورجال بعضهم أحبوه لكنهم جميعا يغارون من ملكاته الخارقة في الكتابة، والجنس، وعالم المال! هو وحيد في عالمه الداخلي وهو ليس سليل أي ارستقراطية، بل أبن لعربجي قوي البنيان وأورثه أبوه هذا البنيان وهو يحمل ذكريات مهلكة لأخ قُتل وأم تعاني من شظف العيس بسعادة وجلد لتُكبر أبناءها.

الظهور الشبحي ل”وليد مسعود” كشبح يظهر ويختفي ويعاود الظهور ليخترق الواقع ليغيره على مثاله هو شكل من اعتبار الوطن الفلسطيني كموضوع لأخيلة ثلاثة أجيال من المهاجرين والمبعدين واللاجئين ولكنه في ذات الوقت هو قيامة ما فالكاتب هو أبن لبيت لحم وقيامة السيد المسيح حجر زاوية في تراثه ليس فقط الديني بل الوطني أيضا كما أن رحلة وليد مع صبيان آخرين للتنظّم في كهف جبلي والتي لا تتم لنهايتها هي في ذات الوقت رغبة مزدوجة للخروج من متاعب الحياة المرهقة من قتل ومذابح ، وكذلك تأكيد هذه الرغبة في إطار التراث المسيحي في فلسطين التاريخية ..عودة وقيامة المصلوب ليفتدي شعبة عبر التاريخ ولكنه يعود في صورة فدائي و مثقف ورجل أعمال.

تتقاطع السيرة الذاتية للكاتب مع الصفات الشبحية ل”وليد مسعود” في مواضع واضحة وهى أساسا تعبير عن البحث عن الوطن المفقود والذي لا يعوضه النجاح الأدبي والعاطفي والمالي وهو ظاهرة بين العديد من الفلسطينيين في بلاد المهجر وعلى الرغم مما وصلوا إليه من علو المرتبة في نشاطات وبلاد كثيرة تظل القضية الوطنية هاجسهم المشترك ونضرب مثالين “إدوارد سعيد” و”رشيد خالدي” في الأكاديمية وعائلة “حديد” في أمريكا والحسن في الخليج(بلال وخالد) في الاقتصاد والصحافة وعشرات غيرهم في مجالات متنوعة في المنافي !لكن يبقى حلم الفلسطيني وهاجسه الرئيسي هو العودة.

من ناحية الشكل تمثل رواية “البحث عن وليد مسعود” طفرة في أساليب السرد في الرواية العربية وحجر زاوية في تأسيس الرواية الفلسطينية من حيث أنّ بطلها لا يحكي عن نفسه سوى مرة واحدة في تسجيل يتركه في سيارته حين يختفي في تقاطع الحدود! ولا يظهر كموجود مرئي، ولكن يُحكى عنه من طرف أشخاص آخرين عرفوه ولم يدركوا ماهيته…

وللتذكير بأن فلسطين هي موطن للمسلمين والمسيحيين العرب وأن بقاعها تضم كل الديانات السماوية الثلاث وتاريخها الثقافي متداخل! الرواية تمثل مع أعمال” أميل حبيبي” تأكيد على التنوع الثقافي والديني الفلسطيني. وهي بالتأكيد عمل مقاوم للنسيان كما كانت تتمناه” جولدا مائير” خلال جيلين.

سيرة ذاتية للعديدين على “جسر العودة” من منتظري الرجوع الوشيك لوطن من رماد وذكريات ولكنها تاريخ حميم لبلاد كانت تسمى فلسطين وصارت تسمى فلسطين لكن الحروب عليها امتدت لقرن من الزمان ومازلت تاركة ورائها أحلام ورغبات وأجساد مرهقة ولكنها مازالت يملئها الحلم وتعمل وتقاوم مع عدم النسيان كـ”وليد مسعود”.

spot_imgspot_img