spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

تاريخانيّة الجنس والجندر* إلزا دورلين Elsa Dorlin

ترجمة المنتصر الحملي

   «في العلم، كما في الفنّ أو في الحياة، لا يوجد إخلاص آخر للطّبيعة غير الإخلاص للثّقافة».

لودفيك فليك

أركيولوجيا النّوع

  لم تكن المعرفة النّسويّة هي الّتي «اخترعت» مفهوم الجندر. فقد تمّ وضعه من قبل الفرق الطّبّيّة الّتي اعتنت خلال النّصف الأوّل من القرن العشرين بحديثي الولادة المسمّين بـ «المخنّثين» أو ثنائيي الجنس. كان الأطبّاء المنخرطون في «العلاج» – الهرمونيّ والجراحيّ بشكل أساسيّ – لثنائيّة الجنس، أي في بروتوكولات إعادة تعيين الجنس، هم الّذين حدّدوا ما كان يُطلق عليه في البداية «دور النّوع الاجتماعي».

  كان التّحدّي الّذي واجه هؤلاء الأطبّاء هو إعادة تعيين «جنس» معيّن لطفل يُظهر غموضا جنسيّا منذ الولادة. لا تكمن المشكلة في أنّ الجسد ليس له جنس أو ليس جنسيّا – إنّه كذلك؛ ولا تكمن أيضا في أنّ العمليّة الفيزيائيّة-التّشريحيّة للتعيين الجنسيّ لم تنجح – فقد نجحت بالفعل؛ المشكلة، بالنسبة إلى الأطبّاء، هي أنها معطّلة: فهي لم تؤدّ إلى هويّة جنسيّة يمكن تحديدها على أنّها «ذكر» أو «أنثى». كان التّدخّل يتمثّل في مباشرة هذه الأجساد ثنائيّة الجنس لا لتعيينها في جنس ما (فهي لديها بالفعل جنس)، ولكن في جنس مناسب. بفضل العمليّات الجراحيّة والعلاجات الهرمونيّة والمتابعة النّفسيّة، يتكوّن هذا «الجنس المناسب» أساسا من جهاز تناسليّ ذكريّ أو أنثويّ «مقبول» ومن سلوك جنسيّ «متناسق»، بدءا من السّلوك الجنسيّ الذي يجب أن يكون «عادة « ذا طبيعة جنسيّة غيريّة  .hétérosexuelومع ذلك، فإنّ في مواجهة «نجاح» مثل عمليات إعادة التّعيين هذه بالتّحديد، سيدفع بعض المتخصّصين في ثنائيي الجنس إلى اعتبار أنّ الجنس البيولوجيّ هو، في حالة الأطفال ثنائيي الجنس على وجه الخصوص، وفي جميع الأفراد بشكل عامّ، عامل مرن نسبيّا وعشوائيّ وغير مقيَّد كثيرا من حيث الهويّة الجنسيّة، أي من حيث أدوار الجنسين والسّلوكيات الجنسيّة.

  في خمسينيات القرن الماضي في الولايات المتّحدة، صرح جون موني وهو الشّخص الّذي سيصبح أحد أقوى المتخصّصين في ثنائيي الجنس: «ليس للسّلوك الجنسيّ أو الميل نحو الجنس الذّكريّ أو الجنس الأنثويّ أساسٌ فطريّ». وسرعان ما أشاع الطّبيب النّفسي روبرت ستولر مصطلح «نوع الجنس»، وهو من أسّس عيادة أبحاث الهويّة الجندريّة Gender Identity Research Clinic في عام 1954.

في عام 1955، اقترح ستولر التّمييز بين الجنس البيولوجيّ والهويّة الجنسيّة (إدراك المرء نفسه على أنّه ذكر أو أنثى والتّصرف وفقا لذلك)، وهو تمييز سيتم تكراره في عام 1968 في مصطلحي «الجنس» و «الجندر» (النوع الاجتماعي). لم تكد تمرّ بضع سنوات حتّى جاء دور جون موني John Money للنّشر مع أنكه إيرهاردت كتاب «رجل وامرأة، صبيّ وصبيّة». أثار هذا الكتاب كثيرا من الجدل، خصوصا بسبب إبلاغ موني عن حالة صبيّ يبلغ من العمر عامين يعالج في مستشفى جامعة جونز هوبكنز، وفقا للطّرق المستخدمة في حالات ثنائيي الجنس. ومع ذلك، فإنّه لم يتمّ تشخيص هذا الطّفل باعتباره «ثنائيّ الجنس». إنّ ولادة مفهوم الجندر مرتبطة بقصّة بروس / بريندا. فبعد تعرضه لحادث ختان في سنّ 9 أشهر تركه دون قضيب، التجأ والداه إلى موني. اعتبر هذا الأخير أنّ أفضل حلّ هو «إعادة تعيين» الطّفل جنسيّا، لجعله فتاة. إذ لا يمكن أن يكون لصبيّ «بيولوجيّ» هوية جنسيّة «طبيعيّة» دون قضيب. بعد عمليّة إخصاء وعلاج هرمونيّ، أصبح بروس بريندا، قبل وقت قصير من بلوغه سنّ الثّالثة. استخدم موني بالفعل بروس / بريندا بمثابة فأر تجارب. فقد أجرى تغييرا في الجنس على فرد، يُعتبر «طبيعيّا من النّاحية البيولوجيّة»، باعتبار أنّ الأشخاص مزدوجي الجنس هم «غير طبيعيين بيولوجيّا» بسبب «شذوذ تناسليّ»، أي عدم قدرتهم على تقرير جنسهم، المعرَّف على أنّه «ذكر» أو «أنثى». أجرى موني على بروس واحدة من أولى العمليّات الجراحيّة، في إطار ما أصبح بعد سنوات قليلة العلاج الطبّيّ لتحوّل الهويّة الجنسيّة. إنّه يعتبر أنّ التّجربة المجراة على هذا الطّفل ينبغي أن «تبرهن على مرونة التّفرقة بين الجنس والنّوع الاجتماعي». بعبارة أخرى، لا يحدّد الجنس البيولوجيّ هوية الأفراد الجنسيّة (نوع الجنس والنّشاط الجنسيّ)، فهذه الأخيرة قابلة لإعادة البناء، وبالتّالي، يمكن بناؤها، ويمكن تحديدها، عبر تدخّل تقنيّ خارجيّ. في الواقع، إنّ جون موني غير مبالٍ نسبيّا بالعملية البيولوجية للتّحديد الجنسيّ  :sexuationإنّه لا يهتمّ بالبيولوجيّ إلاّ بقدر ما يشهد على مرونة فعّالة. إنّ ما يسعى للحفاظ عليه بالمقابل هو ثنائيّة الهويّة الجنسيّة. في الأساس، ما نسّميه عادة «الجنس البيولوجيّ» يشير إلى الأدوار والسّلوكيات الجنسيّة أكثر بكثير ممّا يشير إلى عمليّة بيولوجيّة للتّعيين الجنسي. تُظهر دوافع موني أنّ ما نسمّيه «الجنس»، البيولوجيّ، الثّابت، والواضح، ينطوي دائما على فائض بالقياس إلى التّعيين الجنسيّ للأجساد. ما نسميه إذن «جنس الأفراد»، أي التّصنيف الجنسي للأفراد إلى «ذكور» و «إناث»، سيكون نتيجة لعوامل خارجية أكثر من كونه نتيجة لتحديد داخليً. هذا لا يشكّك فقط في العلاقة السّببيّة «الطّبيعيّة» بين الجنس (ذكر وأنثى) والنّوع (الرّجل والمرأة) والجنسانيّة والمغايرة الجنسيّة (hétérosexualité)، السّببيّة الّتي مجّدتها الكتابات الطّبّيّة في القرن التّاسع عشر، ولكن يشكّك أيضا في تعريفنا للجنس البيولوجيّ.   

  الظّهور الأوّل لمصطلح «مغاير الجنس» كان في أواخر الفرن التّاسع عشر لتعيين ما كان يعتبر آنذاك انحرافا جنسيّا: ازدواجيّة الميول الجنسيّة (الانجذاب الجنسيّ لكلا الجنسين). في عام 1895، عندما ظهرت التّرجمة الفرنسيّة للعمل المرجعيّ للطّبيب الفيينّي ريتشارد فون كرافت إيبينغ Richard von Krafft Ebing، «المرض النّفسيّ الجنسيّ «Psychopathia Sexualis، كان مصطلح «مغاير الجنس» يشير إلى عكس «الغريزة الجنسيّة المرَضيّة»، أي الغريزة الجنسيّة الّتي تنتهي بالإنجاب. يظلّ الغرض الإنجابيّ غير واع في الفعل الجنسيّ، ولكنّه يجعل بالتّالي من الممكن التّمييز بين الفعل الجنسيّ «المنحرف» و»المرَضي» والفعل الجنسيّ «الطّبيعيّ» و»العاديّ»، وكذلك الشّخصيات المرتبطة بهما. سيتمّ تعريف جميع «الأمراض» الجنسيّة، بدءا من المثليّة الجنسيّة – ولكن أيضا الأمراض الجنسيّة الغيريّة مثل الهوس الجنسيّ أو أي فعل غير إنجابيّ، على سبيل المثال – على أنّها انحراف للغريزة الجنسيّة، أو حتّى على أنّها انعكاس للهويّة الجنسيّة. من الآن فصاعدا، تشير المغايرة الجنسيّة بشكل حصريّ ودائم إلى جعل الرّغبة الجنسيّة والاستعداد للتّكاثر غيريين جنسيّا. لذلك فإنّ المغايرة الجنسيّة تفترض الاختلاف الجنسيّ. إنّه انطلاقا من عمل كرافت إيبنج Krafft Ebing بدأ الفكر الطّبيّ يشمل الجنس البيولوجيّ: عمليات التّعيين الجنسيّ، والإنجاب (الأعضاء التّناسلية للذّكور والإناث) والجنسانيّة (أي النّشاط الجنسيّ). ومن ثمّة، فإنّ التّعيين الجنسيّ ليس كلّ «الجنس»: في التّعريف الشائع لـ «الجنس البيولوجيّ»، لا يكون التشريح وحده أبدا. بعبارة أخرى، هناك دائما بالفعل، في ما نعتبره عادة «الجنس البيولوجيّ» للأفراد، نوعا اجتماعيّا وآثار الإدارة الاجتماعيّة للتّكاثر، أي أنّ هناك هويّة جنسيّة (من النّوع الاجتماعيّ والجنسانيّة) مفروضة وتمّ تعيينها.

  في عام 1972، نشرت عالمة الاجتماع البريطانيّة آن أوكلي Ann Oakley كتابا بعنوان «الجنس والجندر والمجتمع»؛ ميّزت فيه بين الجنس والنّوع الاجتماعيّ وقد مثّل أوّل ظهور لمفهوم الجندر في النّظريّة النّسويّة. لتمييز الجنس عن النّوع الاجتماعيّ (الجندر)، تعتمد آن أوكلي بدقّة على البحوث الّتي أجراها موني أو ستولّر Stoller، والّتي أشادت بها، لتقوم بتجذيرها. كما كتبت إيلانا لوي Ilana Löwy، بخصوص العلاقة الوثيقة بين الأعمال على ثنائيي الجنس والتّنظيرات النّسويّة الأولى حول الجندر: «تُظهر الأبحاث حول الأفراد «ثنائيي الجنس»، وكذلك عن ظواهر التّحوّل الجنسيّ أنّه لا الرّغبة الجنسيّة ولا السّلوك الجنسيّ ولا الهويّة الجنسيّة تعتمد على البنى التّشريحيّة، أو على الكروموسومات أو على الهرمونات. ومن هنا يأتي تعسّف الأدوار الجنسيّة.»

  انطلاقا من هذه الصّياغة الأولى، تمّ استخدام مفهوم الجندر في العلوم الاجتماعيّة لتحديد الهويّات والأدوار (المهامّ والوظائف) والقيم والتّمثيلات أو الصّفات الرّمزيّة، المؤنّثة والمذكّرة، بوصفها منتجات للتّنشئة الاجتماعيّة للأفراد وليس باعتبارها آثارا لـ»طبيعة». وهكذا سمح هذا التّمييز بين الجنس والنّوع الاجتماعيّ بكسر العلاقة السّببيّة المفترضة عادة بين الأجساد الجنسيّة، وعلى نطاق أوسع النّظام «الطّبيعيّ» أو البيولوجيّ من جهة، والعلاقات الاجتماعيّة غير المتكافئة بين الرّجال والنّساء من جهة أخرى.

  ومع ذلك، فإنّ التّمييز بين الجنس والنّوع الاجتماعيّ كما تمّت بلورته في العديد من الأعمال يميل إلى التّغاضي عن أركيولوجيا النّوع هذه. أحد مزالق التّمييز بين الجنس والنّوع الاجتماعيّ، بالصّورة الّتي انتشر بها، هو أنّه يدرج في إطار مفهوم الجندر جميع الأسئلة المتعلّقة بالبناء الاجتماعيّ للمؤنّث والمذكّر، فيظلّ الجنس البيولوجيّ كيانا لاتاريخيّا. لقد دار نقاش واسع في إطار الدّراسات النّسويّة ضدّ هذا الاستخدام لمفهوم الجندر، الّذي تسبّب على وجه الخصوص، في فرنسا، في تأخّر الانخراط في مفهوم الجندر وترجمته واستخدامه. هذا التّجنيس الثّانويّ للجنس الّذي كان النّوع الاجتماعيّ يخفيه، لاحظته كوليت غيومين Colette Guillaumin منذ عام 1984: «إنّ إدخال الجندر في العلوم الإنسانيّة يستجيب لسياسة معيّنة: تقديم سمات النّوع الاجتماعيّ على انّها سمات رمزيّة أو تعسّفيّة بترك الجنس التّشريحيّ يلعب دور الواقعيّ الحتميّ. وتشير العمليّات السّابقة من هذا النّوع (مثل محاولة استبدال كلمة «عرق» بكلمة «إثنيّة») إلى غموضها، على أقلّ تقدير. وهكذا يجد التّمييز بين الجنس والنّوع الاجتماعيّ حدوده في حقيقة أنّ نزع الجنسيّة عن سمات المؤنّث والمذكّر قد أعاد في الوقت نفسه ترسيم حدود الطّبيعة وأعاد تأكيدها. كما أنّه من خلال نزع الجنسيّة عن النّوع الاجتماعيّ، تمّت إعادة صياغة الحالة الطّبيعيّة للجنس. بتفضيل تمييز الجنس عن النّوع الاجتماعيّ تمّ إهمال التّمييز بين «التّعيين الجنسيّ» و»الجنس»، بين عمليّة بيولوجيّة واختزالها التّصنيفيّ إلى الجنسين «ذكر» و»أنثى» الّذي يتمثّل في تجنيس علاقة اجتماعيّة.

  منذ نهاية الثّمانينيات، من خلال القيام بتقييم لمثل هذا النّقد، ركزّت أبحاث كثيرة في التّاريخ وعلم الاجتماع وفلسفة العلوم على الجنس البيولوجيّ وأدّت إلى ظهور تصوّر جديد للجندر. وشيئا فشيئا، هزّ إلقاء الضّوء على تاريخانيّة الجنس الفكرةَ الّتي مفادها أنّ هناك أصنافا طبيعيّة، مثل صنفي «الذّكر» أو «الأنثى»، لن نقوم إلاّ بتسجيلها أو تحديد هويّتها أو التّعرّف عليها. ومن هذا المنظور، لم يعد يُنظر إلى النّوع الاجتماعيّ على أنّه «محتوى» متغيّر «لوعاء» ثابت هو الجنس، ولكن على أنّه مفهوم نقديّ، «صنف من التّحليل التّاريخيّ»، الّذي ينخرط في «نهج لاأدريّ يقوم مؤقّتا بتعليق ما هو «معروف بالفعل»: حقيقة أنّ هناك جنسين اثنين». لقد انخرطت هذه الابحاث في مقاربتين متكاملتين: عمل تاريخانيّ لتمثيلات «الجنس» وتعريفاته وتصوّراته، وعمل أشكلة المفهوم العلميّ للجنس وتطبيقاته البيو-طبّيّة.

  إنّ تاريخ تعريفات الجنس هو التّوضيح المثاليّ للتّاريخ الاجتماعيّ والسّياسيّ لأزمة علميّة، والّتي تُفهم على أنّها النّقطة الحرجة الّتي تصل إليها نظريّة ما عندما تصبح غير قادرة على أخذ ظاهرة ما بالاعتبار. منذ القرن السّابع عشر، تمّ تعريف «الجنس» وفقًا لنموذج مزدوج الصّنف، باستخدام مجالات مفاهيميّة مختلفة: علم الأمراض الفيزيولوجيّ للمزاج، وتشريح الأجهزة التّناسليّة ثمّ الغدد التّناسليّة (الخصيتين أو المبايض)، والمعلومات الهرمونيّة (الهرمونات المسمّاة «أنثويّة» و»ذكوريّة»)، وعلم الوراثة (الكروموسوماتXX ، XY). هذه هي التّعريفات الأربعة الرّئيسة للتّصنيف الجنسيّ المزدوج: الجنس الخلطيّ le sexe humoral، الجنس التّناسليّ le sexe gonadique، الجنس الهرمونيّ le sexe hormonal، الجنس الكروموسومي .le sexe chromosomique وهكذا تمّ اعتبار المزاج والغدد التّناسليّة والهرمونات والكروموسومات بالتّناوب أساسا للتّمييز بين «الذّكور» و»الإناث». ولكنّ هذه التّعريفات الأربعة، كما تمّ تفصيلها تاريخيّا، قد فشلت جميعها بسبب الاختزال المستحيل لعمليّة التّحديد الجنسيّ البيولوجيّ في صنفين من الجنس مختلفين تماما. بهذا المعنى، يمكننا تعريف التّصنيف الجنسيّ المزدوج بأنّه «عقبة معرفيّة» أمام الفهم العلميّ لمصطلح «الجنس»، باعتباره عمليّة معقدة من الجنس، لا يمكن اختزالها إلى صنفين من الجنس. ومن ثمّ، فإن التّصنيف الجنسيّ المزدوج، باعتباره «عقبة معرفيّة»، هو شبيه بالجوهر: إذ يُنظَر إلى ظاهرة التّحديد الجنسيّ على أنّها «علامة على وجود خاصيّة معيّنة»، مخفيّة بشكل وثيق داخل الجسد، هي الجنس الأنثويّ والجنس الذّكريّ. إنّه من خلال التّخلي عن هذه الجوهرانيّة توصّلت الابحاث الحاليّة حول الجنس إلى تعريف علمي للجنس. على سبيل المثال، تظهر الأبحاث الّتي أجرتها عالمة الأحياء آن فاوستو ستيرلنج Anne Fausto-Sterling، الأستاذة في قسم البيولوجيا الجزيئيّة والخلويّة بجامعة براون والمتخصّصة في النّظرية النّسويّة، أنّ تصنيف ظواهر التّحديد الجنسيّ إلى جنسين أمر خاطئ. هذا لا يعني أن أيّ تصنيف مستحيل، ولكن يعني أنّه إذا أخذنا في الاعتبار جميع مستويات الجنس (الفيزيولوجيّ والتّشريحيّ والكروموسوميّ)، فهناك أكثر من جنسين (ذكر / أنثى).

«جسدي هو ملك لي»؟ أو حول الحاجة إلى نسويّة مناهضة للرّأسماليّة

  يمكن تلخيص النقد النّسويّ للمغايرة الجنسيّة، الّتي تمّ تعريفها على أنّها نظام سياسيّ، في ثلاثة مواقف تخطيطيّة رئيسيّة. تطوّر النّقد الأوّل وفقا لتقليدين فكريين: النّسويّة «الرّاديكاليّة» (وهي التّسمية الأمريكيّة) والنّسوية الماهويّة.essentialiste  تعتبر النّسوية الرّاديكاليّة العلاقات الجنسيّة المغايرة قمعيّة للمرأة بطبيعتها لأنّها التّعبير بعينه عن السّيطرة الأبويّة، الّتي تمثّل الدّعارة ذروتها. فالمغايرة الجنسيّة تعتمد على التّمييز الهرَميّ بين الجنسين، الأمر الّذي يحدّد النّشاط الجنسيّ. بعبارة أخرى، يفهم الرّجل والمرأة في تعريفهما ذاته، الوضعيّة (المهيمنة أو المهيمَن عليها) الّتي يشغلانها على التّوالي في النّشاط الجنسيّ. أمّا بالنّسبة إلى النّسويّة الماهويّة، فإنّ نقد المغايرة الجنسيّة يتمثّل بالأحرى في إظهار أن المغايرة الجنسيّة الحقيقيّة تتناقض مع ماهية العلاقة الجنسية بين الجنسين بالذّات. إنّ المسألة في العلاقات الجنسيّة بين الجنسين ليست مسألة الذّات والآخر، المعيشة فرديّا والمنظَّمة اجتماعيّا، ولكنّها مسألة الابتلاع الاستبداديّ للآخر في ظلّ إمبراطوريّة الذّات. إذا كانت كل حياة جنسيّة هي تجربة للغيريّة (الآخَريّة)، فإنّ المغايرة الجنسيّة الفعليّة هي تجربة تعيسة وترقى إلى نفي المؤنّث، باعتبارها تندرج في الآخر. يرفض النّقد الثّاني إضفاء الطّابع الماهويّ العامّ على الاختلاف الجنسيّ، وبالتّالي، على المغايرة الجنسيّة أو المثليّة الجنسيّة: إنّها ممارسات ولا تشير إلى هويّة أصليّة – كما لو كان الأفراد «وُلدوا» غيريي الجنس أو مثليين. السّؤال هنا ليس «مع من نمارس الجنس؟»، بل «كيف نمارس الجنس؟». يتعلّق الأمر بنقد المغايرة الجنسيّة باعتبارها كيانا «سرّيّا»، لصالح تصوّر استمراريّ للممارسات الجنسيّة المتعدّدة. أخيرا، يركّز النّقد الثّالث بشكل أكبر على المغايرة الجنسية بوصفها تشارك في «الإدارة الاجتماعيّة للإنجاب»، الّتي ارتبطت بها تاريخيّا. هذا المفهوم، الّذي طوّرته عالمة الأنتروبولوجيا باولا تابت Paola Tabet، يشير إلى الأجهزة التّاريخيّة لتنظيم النّشاط الجنسيّ الإنجابيّ. وتختلف هذه الأجهزة باختلاف المجتمعات والأزمنة، كما تختلف بالنّسبة إلى النّساء والرّجال (السّن القانونيّة للزّواج، والتّعليم الجنسيّ المتباين، وتمجيد العذريّة أو عدم تمجيدها، وتعدّد الزّوجات / تعدّد الأزواج مقابل الزّواج النّسائيّ الأحاديّ / الزّواج الرّجاليّ الأحاديّ، الوصول القانونيّ أو غير القانونيّ إلى ممارسات أو تقنيات منع الحمل، وما إلى ذلك). وتبيّن باولا أنّ العلاقات الجنسيّة بين الجنسين (المغايرة الجنسيّة)، أحادية الزّواج والإنجابيّة، تعمل بمثابة تدجين لجنسانيّة المرأة، ممّا يعرّضها لأقصى قدر من الجماع الإنجابيّ. إنّ هذا النّقد المادي يفكّر في المغايرة الجنسيّة ضمن الإطار الأوسع لتقسيم العمل الجنسيّ. فهذا التّقسيم للعمل الجنسيّ الإنجابيّ وغير الإنجابيّ يعمل في «سلسلة متّصلة من التّبادل الاقتصاديّ الجنسيّ (الّذي يتراوح من التّودّد إلى الزّواج، مرورا بالدّعارة). بما أنّ أجساد النّساء هي المورد الوحيد لهنّ، فإنّ هذا التبادل غير متكافئ: فالنّساء هنّ «طبقة» مجبرة على تبادل الخدمات الجنسيّة مقابل أجر. وهكذا يثير هذا النّقد مسألة ملكيّة أجساد النّساء على مستويات ثلاثة: تاريخيّا، كانت المغايرة الجنسيّة القانونيّة – الّتي يرمز إليها عقد الزّواج – شكلا من أشكال الاستيلاء على أجساد النّساء، على عملهنّ الجنسيّ، وقد أنشأت ترخيصا للاغتصاب. إنّ حقّ المرأة في منع الحمل والإجهاض، والحقّ في سلامة جسدها، وفي احترام قراراتها وخياراتها الإنجابيّة، تشكّل ثورة تاريخيّة. ومع ذلك، فإنّ حجّة «امتلاك جسدها» لا تحسم مسألة استغلال العمل الإنجابيّ أو مسألة الظّروف الماديّة للتّمتع الفعليّ بالحقوق الإنجابيّة. هذه الظّروف المادّيّة هي تلك الّتي رتّبها نمط الإنتاج الرّأسماليّ حيث يظلّ التّكاثر قضيّة حاسمة لم تستكشفها إلاّ قليلا نسبيّا الدّراسات الماركسيّة وتجاهلتها النّسويّة اللّيبراليّة تماما. إنّ حقّ المرأة في امتلاك جسدها يفترض سياسة للعدالة الاجتماعيّة وللمساواة الحقيقيّة. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإنّ حق المرأة هذا يمكن أن يكون دائما مشروطا بضرورات سكانيّة أو قوميّة أو إمبرياليّة أو رأسماليّة تحت غطاء الشّعارات اللّيبراليّة الّتي تقلّل من فوائد الفرديّة التّملكيّة. تاريخيّا، فضّلت النّظريّة النّسويّة الفرنسيّة العدالة الإنجابيّة وسياسة المساواة – العمل الإنتاجيّ والإنجابيّ (وبالتّالي الاعتراف بالعمل «المنزليّ» بوصفه عملا استغلاليا) – على الفرديّة التّملكيّة: فالحصول على حقّ المرأة في ملكيّة نفسها ليس له معنى إلاّ بشرط أنّ النّساء – ولكن من هنّ؟ – يستطعن المطالبة به بشكل فعّال وسياديّ، والاستفادة منه فعليّا. ولكن، كيف يمكنها أن تقاتل حتّى لا يمرّ الاستحواذ على جسدها ومكافأة عملها من خلال إعادة تأكيد «حقّ الملكيّة» و»حرّيّة التّعاقد» اللّذين ستعيد «الأبويّة القديمة» تفويضهما: في اللّيبراليّة الجديدة وأجهزتها المزدوجة، والدّول الّتي تعزّز الحرّيّة الفرديّة بدلا من التّحرّر الجماعيّ؟

  إنّ أعمال سيلفيا فيديريتشي Silvia Federici على وجه الخصوص هي الّتي جدّدت في العمق التّفكير في العلاقة المفصليّة بين النّسويّة ونمط الإنتاج الرّأسماليّ. لقد ارتبطت بمفهوم «الإنجاب» من خلال توسيع فهمه الفوريّ: فإنتاج قوّة العمل وإعادة إنتاجها (إعادة الإنتاج الاجتماعيّ) تفترضان تحويل المرأة إلى أدوات آليّة للإنجاب. لكنّ هذا التّحويل لم يكن ممكنا إلا في تدمير قوّة المرأة من أجل التّراكم البدائيّ لرأس المال. وتمثّل هذا التّراكم البدائيّ أيضا في «تراكم الاختلافات والانقسامات داخل الطّبقة العاملة، حيث أصبحت التسلسلات الهرميّة القائمة على النّوع الاجتماعيّ، مثل «العرق والعمر، جزءًا من الهيمنة الطّبقيّة وتشكيل البروليتاريا الحديثة». يتعلّق الأمر هنا بمراجعة متعمّقة لأعمال ماركس الّتي، على الرّغم من أنّها تدرك أنّ «إنتاج وسائل الإنتاج الأكثر ضروريّة للرّأسماليّة، [هو] العامل نفسه»، لا تعتبر أو قليلا ما تعتبر أنّ إعادة الإنتاج هي أكثر بكثير من مجرّد أجر يسمح بشراء الطعام، والملابس … فكي تكون، وتنشأ، وتأكل، وتداوي بنفسك، وتعيش: ينبغي أن تجد عملا. لذلك فإنّ هذا العمل «إنجابيّ» بمعنى أنّه يحدّد مجموع ما يجب القيام به لإنتاج وإعادة إنتاج حيواتنا: الإنجاب، والعناية، والتّعليم، والتّربية، والمحافظة، والإطعام، والحماية … ومع ذلك، فإنّ عمل إنتاج الحياة هذا غير مرئيّ تمامًا في الرّأسماليّة – كما لو أنّ إنتاج البضائع كان أمرا «طبيعيّا» أو يمكن تحقيقه بطريقة سحريّة، أو حتّى عن طريق استخراج بسيط للموارد الحيويّة – بل وأيضا تمّ التّقليل منه تماما، وحتّى تجاهله، من قبل اتّجاهات الفكر الماركسيّ وعلى نطاق أوسع من قبل منتقدي الرّأسماليّة، المعارضين للرّأسماليّة أو ما بعد الرّأسماليين. إنّه لا يوجد توسّع لنمط الإنتاج الرّأسماليّ – من المَعمَل، إلى المَصنَع إلى غافا GAFA (غوغل/آبّل/فايسبوك/أمازون) – من دون الاستغلال الأبويّ القذر لعمل النّساء وقوّتهنّ وأجسادهنّ.

مقتطفات من كتاب إلزا دورلين، Sexe, genre et sexualités، بيف، الطّبعة 3، أفريل 2023.

spot_imgspot_img