spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

النظرية الوضعية القانونية و حقوق المهاجرين

د. نوفل حنفى *    

يهدف هذا المقال إلى كشف الخلفيات الإيديولوجية الخفية التي عادة ما تستبعدها المقاربة الشكلانية لحقوق المهاجرين. تركز هذه المقاربة الشكلانية أو الوضعية للحق على الشرعية الشكلية، حيث يتم تحديد صحة القانون بمدى مطابقته للإجراءات المقررة، بغض النظر عن مضمونه الأخلاقي. ويعني ذلك في سياق الهجرة أن حقوق وواجبات المهاجرين تُحدد بواسطة القوانين السارية، دون مراعاة لعدالتها الجوهرية. المشكلة أنه يمكن لبعض النزعات الإيديولوجية أن تستغل هذه الفجوة بين العدالة الأخلاقية والشرعية الشكلية من أجل تبرير غياب المسؤولية الأخلاقية للفاعلين القانونيين «المشرعين والقضاة»، حيث يمكنهم التركيز على تطبيق القوانين الصحيحة من الناحية الشكلية حتى وإن كانت غير عادلة تجاه المهاجرين والدولة التي تستضيفهم. هل ثمة علاقة بين الإيديولوجيا والحقوق؟

يمكن أن نفكر في هذا السؤال من خلال العودة إلى أطروحة «إيديولوجيا الحقوق». تعتبر هذه الأطروحة أن الحقوق، كما يتم فهمها وتطبيقها في المجتمعات البشرية، هي نتيجة لبنى اجتماعية وسياسية. تبحث هذه النظرية في كيفية التفكير في الحقوق، وتعريفها، وتطبيقها، مع تسليط الضوء على القضايا الفلسفية والأخلاقية التي تحيط بمفهوم الحق الإنساني. وقد اعتبر العديد من الفلاسفة مثل «ميشيل فوكو» و»بيير بورديو» أن الحقوق هي بناء اجتماعي وسياسي. لقد سلط فوكو الضوء على كيفية تطور مفاهيم الحقوق والعدالة في علاقة بالروابط السلطوية والخطابات المهيمنة، ودافع عن مقاربة نقدية تشكك في الكيان الثابت لهذه الحقوق نتيجة علاقاتها الظاهرة والخفية بالقوى السياسية والاقتصادية والثقافية المسيطرة على العالم. هناك دور واضح للإيديولوجيا في بناء وتأويل الحقوق الإنسانية، وهو ما لم يتجاهله بعض الفلاسفة المعاصرين مثل جاك رانسيار، الذي اهتم بالأبعاد السياسية للحقوق مسلطاً الضوء على الصراعات من أجل الاعتراف بالحقوق داخل المجتمعات المعاصرة.

كيف يمكن أن نفهم أطروحة « إيديولوجيا الحقوق» ؟

تدعو صعوبة السؤال وضرورة الاختصار إلى الاقتصار على النظرية الوضعية للقانون «positivisme juridique» التي تعتبر أن حقوق المهاجرين هي قوانين ومعايير شكلية مرتبطة بنظام قانوني محدد. تركز هذه النظرية على مصدر وشرعية حقوق المهاجرين، مع التأكيد على دور السلطات التشريعية والمؤسسات القانونية في إنشاء وضمان الحقوق (Hart, H. L. A. (1961). The Concept of Law. Oxford University Press). كما ترى أن حقوق المهاجرين تستمد شرعيتها ووجودها من القوانين والمعايير القانونية التي تضعها السلطات المختصة، مثل الهيئات التشريعية والدساتير والمعاهدات الدولية التي تمت المصادقة عليها. وأن حقوق المهاجرين لا تكون لها صلاحية قانونية «Validité juridique» ما لم يتم الاعتراف بها صراحةً وحمايتها من خلال النصوص التشريعية والاتفاقيات الدولية والقرارات القضائية ضمن النظام القانوني المحدد. وعادةً ما يعطى أتباع هذه المدرسة القانونية أهمية خاصة لتفسير وتطبيق القوانين والمعايير القانونية القائمة بشكل متسق لضمان حقوق المهاجرين، وهو ما يتطلب دراسة دقيقة للنصوص القانونية والسوابق القضائية.

ويعود أغلب رجال القانون إلى هذه النظرية  الوضعية القانونية عندما يتعلق الأمر بحقوق المهاجرين، رغم الانتقادات الشائعة التي تركز على طابعها الجامد والشكلي واقتصارها على النصوص القانونية الصورية دون مراعاة كاملة للسياق الاجتماعي والسياسي والأخلاقي الذي تفهم فيه حقوق المهاجرين. يمكن أن نلخص النزعات الإيديولوجية للفهم الوضعي لحقوق المهاجرين في العناصر التالية:

1. الجمود التشريعي: يمكن أن نعتبر أن «الوضعية القانونية» نظرية قانونية جامدة لأنها تركز بشكل حصري على النصوص القانونية الشكلية دون مراعاة السياقات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، ويمكن أن يحول هذا الجمود دون تعديل القوانين لتتناسب مع الواقع المتغير للهجرة واحتياجات المهاجرين. وأن الالتزام الصارم بالنصوص القانونية يمنع أي مرونة أو تكيف للقوانين مع الواقع الاجتماعي والتطورات المعاصرة، ويتجلى ذلك في عدم القدرة على إصلاح أو تعديل القوانين بما يتناسب مع الديناميكيات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية الجديدة.

2. إهمال الحقوق الطبيعية والكونية:

تميل النظرية الوضعية القانونية إلى التجاهل أو التقليل من أهمية الحقوق الطبيعية أو الكونية المرتبطة بالكرامة الإنسانية، ولا يمكن لحقوق المهاجرين أن تكون محمية بشكل كافٍ إذا لم يتم الاعتراف بهذه الحقوق بشكل صريح داخل القوانين الشكلية. المشكلة تكمن في أن هذه النظرية الحقوقية تعتبر القانون مجموعة من القواعد التي تضعها السلطات الشرعية دون الاهتمام بالأبعاد الأخلاقية التي تضفي المشروعية على النصوص القانونية. عادةً ما تلجأ الدول الأوروبية إلى هذه النظرية الوضعية من أجل تهميش حقوق المهاجرين، وإذا لم يتم الاعتراف بحقوق المهاجرين بشكل صريح داخل القوانين الرسمية، فإن المهاجرين قد لا يستفيدون من الحماية الكافية، مما قد يؤدي إلى مظالم وانتهاكات لحقوقهم وكرامتهم.

3.  إضفاء الشرعية على اللاعدل:

يبدو أن اعتماد النظرية الوضعية القانونية بشكل صارم على الشرعية الشكلية يمكن أن يضفي الشرعية على القوانين الظالمة أو التمييزية. قد تصل هذه النظرية إلى حد اعتبار بعض القوانين غير العادلة تجاه المهاجرين قوانينًا شرعية لا لشيء سوى لأنها موجودة ضمن الإطار القانوني والشرعي، دون مراعاة للبعد الأخلاقي لعدالتها الأصلية. الغريب هو أن القوانين التي تتعارض من حيث محتواها مع المساواة والعدالة الاجتماعية تبقى عليها المؤسسات الأوروبية وتعمل على تطبيقها لمجرد أنها تحترم الإجراءات التشريعية خلال عملية إصدارها ، وهو ما يؤدي إلى مؤسسة بعض أشكال الظلم والتهميش، ويعود إضفاء الشرعية على بعض القوانين غير العادلة إلى الفصل المفرط بين الحق والأخلاق عند أغلب منظري المدرسة الوضعية القانونية. وقد أكد كل من جون أوستن وهارت على القطيعة بين القانون كما هو (البعد الوصفي) والقانون كما ينبغي أن يكون (البعد المعياري).

4. العجز على حماية حقوق الإنسان:

يمكن أن يؤدي المذهب الوضعي القانوني إلى الفشل في حماية حقوق الإنسان لأنه يقتصر على الحقوق المعترف بها في التشريعات السارية ويعنى ذلك  إهمال حقوق المهاجرين إذا لم تعترف بها التشريعات السائدة أو لم توفر لها الحماية بشكل كافٍ. تتظاهر النظرية الوضعية القانونية بالسلامة الشكلية لنصوصها القانونية في حين أنها تستبعد أصوات وتجارب المهاجرين وتهمل إدماج وجهات نظرهم وحاجياتهم العادلة وتحدياتهم الخصوصية.

5. الأبوية القانونية ونقص الاستقلالية:

يمكن أن تؤدي «النظرية الوضعية القانونية» إلى نهج أبوي، حيث يُنظر إلى المهاجرين كمستفيدين سلبيين من القوانين بدلاً من كونهم فاعلين مستقلين وهو ما يحد من قدرة المهاجرين على المشاركة الفعالة في صياغة وتنفيذ القوانين التي تخصهم. تنبع الأبوية القانونية غالبًا من النهج الوضعي، حيث تُفرض القوانين بطريقة هرمية من قبل السلطات دون استشارة أو مشاركة الأشخاص المعنيين و في هذا السياق، يُنظر إلى المهاجرين على أنهم مستفيدون سلبيون bénéficiaires passifs من القرارات التشريعية التي تفترض أن المشرعين هم الآباء اللذين يعرفون مصلحة أبناءهم. إن النظرة العمودية للمهاجرين واعتبارهم مجرد مستفيدين سلبيين يمكن إن تحد من استقلاليتهم وقدرتهم على التأثير على القوانين والسياسات التي تخصهم بحيث يتم استبعادهم من عمليات اتخاذ القرار التي تؤثر بشكل مباشر على حياتهم وحقوقهم وفرصهم في الحياة مثل الآخرين. فالقوانين الأبوية، التي تُفرض دون استشارة، قد لا تستجيب بشكل مناسب للمشكلات الحقيقية للمهاجرين. على سبيل المثال، يمكن تبني سياسات هجرة تقييدية دون النظر في الأسباب التي تدفع الناس للهجرة، أو احتياجاتهم للحماية، أو مساهماتهم المحتملة في المجتمع المستضيف.

لا يهدف هذا الجهد النقدي إلى تجاهل أهمية البعد الشكلي والموضوعي في تشريع القانون وفهمه وتطبيقه، فلا احد ينكر قيمة النظرية الوضعية القانونية من حيث الدقة والوضوح  Clarté et Prévisibilité وشرعية الإجراءات والحماية من التعسف ومقاومة استغلال السلطة والمساواة أمام القانون والتمييز بين القانون والأخلاق ولكن الإفراط في الشكلانية والموضوعية الحقوقيتين قد يجعلنا ننزلق في بعض المخاطر الإيديولوجية المستترة التي تبرر الظلم والتهميش و قد تكون خفية عن بعض الباحثين في مجال الحق عامة وحق المهاجرين بشكل خاص، دلك أن مراعاة البعد الشكلي والموضوعي في دراسة حقوق المهاجرين لابد أن يتكامل مع المحتوى الايتيقى وهو ما يعنى أن الدراسة العميقة لحقوق المهاجرين تفترض تكامل البعد الشكلي والموضوعي مع البعد الذاتي والايتيقى. فمن المهم أن لا تكتفي قوانين الهجرة بالأبعاد الإجرائية والشكلية وان تراعى الأبعاد الإنسانية والايتيقية والعاطفية والثقافية للهجرة.

*أستاذ فلسفة السياسة بكلية الآداب بالقيروان

spot_imgspot_img