spot_img

ذات صلة

جمع

الكتابة بالوجع والخيبة أو هلوسات سقوط بغداد…

بقلم: رياض خليف 1اخترت أن أواصل في هذا المقال الجديد...

من ذكريات 7/11…

شاهين السّافي بعض التواريخ تحتفظ بها الشعوب في ذاكرتها، ليس...

الحروب الثقافية كيف تبدأ وأين تنتهي؟

الكاتب: حسني عبد الرحيم شهدت السنوات الأخيرة صعود وانتشار مصطلح...

حين تكون القصيدة عينا على فلسطين

*قراءة وصفيّة لقصيدة : " حنين على عتبات الغياب...

الموسيقى والسياسة في افق فلسفة فرنسوا شاتليه

ترجمة وتقديم :إبراهيم العميري توطئة:هل يمكن التأسيس لتقاطعات مثرية منشئة...

الموسيقى والسياسة في افق فلسفة فرنسوا شاتليه

ترجمة وتقديم :إبراهيم العميري

توطئة:

هل يمكن التأسيس لتقاطعات مثرية منشئة للمعنى والدلالة من وراء البحث عن نسيج علاقات ممكنة بين سياسي كبير صنع حزء من عظمة الحضارة في أثينا القرن الخامس قبل الميلاد وموسيقي فذ للقرن التاسع عشر في إيطاليا تفرد في الاوبرا؟ وكيف يكون هذا التقاطع بين السياسة والموسيقى افقا لبلورة جدة التفكير العقلاني المحايث لحاضر الانسان في القرن العشرين كما وضع معالمة فيلسوف “العقل في التاريخ”ونعني بذلك فرانسوا شاتلية؟

ان ما يشد الانتباه ويحرض على المغامرة بالترجمة هنا لهذا الكتيب هو كثافة وعمق بحوث ودراسات من ألفه :انه احد مؤثثي الفكر الفلسفي المعاصر ونعني به جيل دولوز .فيلسوف حعل من الفكر والفن والعلم مقاومة ، ومن المقاومة شرط كل ابداع .فكل فكر سواء تجسد في العلم او الفن او الفلسفة، لم يعمل على تحطيم الحمق والغباء والراي هو فكر بلا قيمة وبلا جدة وكل فكر غادر المحايثة والحركة والحدث فاقد للمشروعية، وكل فكر لم يلتقط سهم اثر مفكر يدرسة لينثره عبره سهاما جديدة لا تأخذ منه الا ما يحرض على الحياة ويثريها ،هو فكر لا يزال سجين التصورا ت الميتافيزيقية المجردة القاتلة لكل ابداع واضافة .

فكيف يمكن الجمع بين موسيقي وسياسي لابراز قوة وجدة فلسفة شاتليه؟ الا يعد ذلك وجها من وجوه الاختزال لأعمال فيلسوف جعل العقل والتاريخ والتحرر الإنساني حقول نشاطه الفكري الطويل؟

   لا مندوحة من العودة الى النص ترجمة أولا وتأولا ثانيا حتى نتمكن من الرسو على معالم الدلالة عبر التفكير مع دولوز حول فرادة اعمال فرنسوا شاتليه.

  • بريكلاس وفردي : فلسفة شاتليه ، لجيل دولوز ، (فرنسا ، مينوي ، 1988):

كثيرا ما يعرف فرنسوا. شاتليه نفسه بكونه مفكرا عقلانيا، ولكن أي عقلانية تستقيم معه؟ فهو لا ينفك يستند في مراجعه الى افلاطون،هيجل وماركس. يعتبر ف.شاتليه قبل كل شيء أرسطيا، فما الذي يميزه عمن ينتمي الى توماس الأكويني ؟ أنه، دون أدني شك، اسلوبه في رفض الآلهة وكل تعال. فهو يسمي كل اشكال التعالي وكل اشكال الإعتقاد في عالم اخروي”افراطات”. لم توجد فلسفة لائكيه بكل هدوء، ما عدا نيتشه بالتأكيد، ونعني باللائكية الهادئة فلسفة لا يمثل الاله لديها مشكلا، فعدم وجود الاله أو موته ليستا مشكلين، بل على العكس، أنهما يمثلان شرطين يجب اعتبارهما كمكسبين من اجل انبجاس المشاكل الحقيقية: لا يوجد تواضع أكثر من هذا. لم تستقر فلسفة بكل هدوء في حقل المحايثة الصرف مثل فلسفة ف.شاتليه.

” في مصطلاحتنا الفلسفية،عندما يوضع مبدأ ،في الآن نفسه ،كمصدر لكل تفسير ،وكواقعة عليا نطلق على ذلك تعال. الكلمة جميلة وأجدها مناسبة.ان المفرطون،صغارا أو كبارا ،زعيم فصيل أو رئيس الولايات المتحدة ،من الطبيب النفسي الى الرئيس المدير العام،كلهم يشتغلون بضربات التعالي،مثلما يشتغل المتشرد بضربات الخمر الاحمر. لقد تفتت الاه المرحلة الوسيطة، دون أن يفقد مع ذلك، قوته ووحدته الشكلية العميقة:العلم،الطبقة العاملة،الوطن،التقدم.الصحة،الامن، الديمقراطية،الاشتراكية،-والقائمة ستكون طويلة – هي بقدر ما الهة .لقد أخذت هذه الاشكال من التعالي مكان الاله ( من المبالغ فيه القول أن الاله لايزال موجودا ايضا هنا بكثافة)، وهي تمارس بشراسة متصاعدة وظيفتها في التنظيم والابادة.”(سنوات التهديم،ص.263).

تتمثل المحايثة ومجال المحايثة في العلاقة قوة-فعل. لا يوجد المعنيان إلا في تلازم، لا ينفصلان. وبهذا يكون ف.شاتليه ارسطيا.فهو يعبر بداية عن نوع من الافتتان بالقوة:الانسان قوة،الانسان مادة…

لا تثير السلطة السياسة اهتمامي ابدا. السلطة المضادة او مكافحة السلطة هي في نظري فخاخ. ان ما يهمني هو القوة،ما يجعل السلطة سلطة.اما القوة فهي بكل وضوح،في كل واحد منا. أستمتع بممارسة قوتي-ان افعل ما اريد-من اجل فهم وكشف اليات الاسر بالقوة،هنا وهناك، أين يكون لدي” معلومات”. ربما، لتبقى تلك الرغبة في القوة حية في، ومن اجل استيقاظ، وايقاظ هذه القوة حولي.القوة، تقال ايضا الحرية.”(تاريخ الافكار الضائعة، ص،218).

كيف تنتقل القوة الى الفعل وما فعل هذه القوة؟ الفعل هو العقل. يفهم العقل كمسار وليس كملكة، ويتمثل، بدقة، في تحيين قوة أو تشكيل مادة. توجد قوة للعقل لأنه لا يوجد اي دافع لنفكر لا في وحدة المادة ولا في وحدة الفعل. فنحن نحدد أو نبدع مسار عقلنة في كل مرة ننشئ علاقات إنسانية في مادة ما، في مجموعة ما، في تعدد ما. والفعل نفسه، باعتباره علاقة، هو دوما سياسة. والعقل كمسار سياسة. يمكن أن يكون ذلك في المدينة في مجموعات صغيرة، أو في الذات لا شيء غير الذات. أن علم النفس أو بالأحرى علم النفس الوحيد المقبول هو الذي يكون سياسة لأنني بحاجة دائمة لخلق علاقات إنسانية مع ذاتي.لا يوجد علم نفس بل سياسة الذات،.لا توجد ميتافيزيقا بل سياسة الوجود. لا يوجد علم بل سياسة للمادة، وبما أن الانسان مكلف بالاهتمام بالمادة ذاتها. وحتى المرض فيجب “ادارته” عندما لا نستطيع الانتصار عليه، وفرض علاقات إنسانية عليه. لنفترض مادة صوتية : ان السلم النغمي أو بالأحرى ان النغم هو مسار عقلنة يتمثل في انشاء علاقات إنسانية في هذه المادة بطريقة تحين قواه ويصبح هو نفسه إنسانيا. لقد حلل ماركس في هذا المعنى اعضاء الحواس ليبرز من خلالها محايثة الانسان-طبيعة: تصير الأذن اذنا إنسانية عندما يصير المعطى الصوتي موسيقى. أن المجموع الكثير التعدد لمسارات العقلنة هو الذي يكون صيرورة أو نشاط الانسان ،البراكسيس ،أو الممارسات. نحن لا نعرف إذا كانت ثمة ،في هذا الصدد ، وحدة انسانية، تاريخيا ، أو نوعيا.

 هل توجد مادة إنسانية خالصة لقوة تتميزعن الفعل وقادرة على ابهارنا؟ لن تكون فينا حرية دون أن تظهر، بعد، كنقيض لها: إنها ا”لتقاط”كما قال منذ حين شاتليه. سيكون فعل ضعيف للقوة يتناقض مع الفعل القادر على انجازها .هو جانب اخر من العقل أكثر منه كمقابل له،كحرمان أو كاغتراب. يبدو الأمر وكأنه توجد علاقة لا انسانية،ولكنها لا انسانية داخلية أو محايثة للعلاقة الإنسانية نفسها، لا إنسانية مميزة للإنسان :أصبحت الحرية قدرة الانسان على الانتصار على الانسان، أو أن يهزم . القوة هي “الباتوس” اي السلبية والتقبلية ،لكن التقبلية هي أولا قوة تقبل الضربات واسدائها: تحمل غريب. وبالتأكيد يمكن انجاز تاريخ انساق الهيمنة أين يتجسد ،في كل مرة ،عمل الاسياد ؛ولكن عمل الاسياد هذا لن يكون ذا شأن دون شهية من ، باسم الضربات التي يتلقونها ، يأملون في اسداء ضربات. هم يقاومون من أجل عبوديتهم كما لو أن الأمر يتعلق بحريتهم ،قال سبينوزا.  هذا مع العلم أن السلطة ممارسة أو خضوعا ليست فقط النشاط الاجتماعي للانسان دون أن تكون ايضا سلبية وجوده الطبيعي.هي وحدة بين الحرب والأرض كما وجد شاتليه اثرها عند كلود سيمون، أو الماركسبة التي لم تفصل ،البتة، الوجود النشط للانسان التاريخي والوجود السلبي لكائن طبيعي بما هو مزدوج له:

” العقل ولاعقلانيته،هو مبحث ماركس نفسه،وهو مبحثنا…يريد أن يكون علما نقديا للسلبية الفعلية، ارض الإنسانية . الانسان لا يموت لأنه فان ( ليس أكثر يكذب لأنه كذاب،وليس أكثر يحب لأنه “حب”):هو يموت لأنه لا يتغذى جيدا، لأننا نختزله في وضعية الدابة،لأننا نقتله. تذكرني المادية التاريخية بهذه المعطيات وماركس في “رأس المال”،يضع اسس ما يمكن اعتباره المنهج الذي يمكن من تحليل الاليات المتحكمة،في فترة معينة،- هي مرحلة كاشفة ، علاوة على ذلك ، وبالخصوص، معطى السلبية…”(اسئلة واعتراضات.”ص.115.)

ألا توجد قيم خاصة بالشفقة؟ لعله يأس من العالم، قد يكون موجودا لدى شاتليه في صورة مهذبة جدا. إذا كان البشر لم ينقطعوا عن تهديم بعضهم البعض، سيكون من الأفضل ، ربما، أن نهدم انفسنا ،في شروط مريحة أو حتى رومنسية. إن “كل حياة هي ،”بالتاكيد”، مسار تهديم ،قال فيتزجيرالد Fitzgerald.يبدو هذا “بالطبع” كإقرار بالمحايثة: هذه العلاقة غير الانسانية في العلاقة بالذات .تشارك الرواية الوحيدة لشاتليه،”سنوات التهديم “،في استلهام عميق لفيتزجيرالد ، رشاقة داخل كارثة. ولو كان ذلك يعني الموت، لماذا لا نستثمر لا الرغبة، بل محاولة الموت في عنصر رائع مثل الموسيقى؟ ليس هذا شأن علم النفس، بل ، ايضا ، شأن السياسة. يجب أن نضع في الإعتبار موجه الهدم هذا ، والذي يمكنه أن يشق مدينة ما أو انسانا،اثينا أو بيركلاس. كان بيركلاس أول كتاب لشاتليه. لم ينقطع بيركلاس عن أن يكون صورة رجل عظيم أو صورة بطل ،حسب شاتليه : حتى في “سلبيته”،حتى عبر فشله الذي سيكون فشل الديمقراطية،حتى باعتبارالموجه المحير.

للشفقة (  pathos)موجه ثان الكياسة ،كياسة اغريقية في الحقيقة، والتي ستكون، بعد، خطاطة للعلاقات الانسانية، بداية فعل العقل. تبدأ العلاقات الانسانية بقيس، بتنظيم للفضاء يدعم المدينة. إنه فن انشاء المسافات الدقيقة بين البشر، ليست مسافات تفاضلية، بل هندسية، والتي تجعل البشر لا قريبين جدا ولا بعيدين جدا، تجنبا لإسداء أو تقبل الضربات. أن تجعل من لقاء البشر طقس، نوع من سلوك طقوسي للمحايثة ،حتى وأن تتطلب قليلا من الفصام. أن ما علمنا اياه الاغريق،مثلما يذكر بذلك قرناي وفرنون( Gernet ;Vernant )،هو أن لا نبقى متسمربن  في مركز مقرر،بل في السعي ، بل ان نمتلك القدرة على نقل مركز معنا لتنظيم مجموعات من العلاقات التناظرية وقابلة للاعادة، انجزها احرار. يمكن أن يكون هذا غير كاف للانتصار على اليأس من العالم: وهذا   يعود لتزايد تناقص الكيسين،والحال انه يجب أن يوجد على الاقل إثنان ليكونا كذلك. لكن كياسة شاتليه القصىوى لم تكن إلا قناعا لقيمة ثالثة للشفقة (للباتوس)،والتي يمكن أن نسميها طيبة، رعاية جيدة.ليست هي الاسم المناسب ،على الرغم من ذلك،رغم أن هذه الصفة،هذه القيمة،تنتمي بعمق لشاتليه.لكن أكثر من قيمة أو صفة هي استعداد للفكر،هي فعل تفكير .

ويتمثل هذا الفعل في الامر التالي: لا يجب أن نعرف مسبقا كيف يجد احدهم نفسه،ربما،قادرا على تشييد ،في نفسه وخارجه،مسار عقلنة. وبالتأكيد توجد كل الحالات الضائعة، يوجد اليأس.لكن إذا وجدت فرصة،يحتاجها احدهم،كيف يتصرف للخروج من تهديماته؟. نولد كلنا ربما على أرض تحطيم ولكنها لا تفسد اي فرصة. لا يوجد عقل محض،او عقلانية بامتياز.توجد مسارات عقلنة،غير متجانسة،مختلفة كثيرا حسب الحقول، والفترات،والمجموعات والاشخاص. لا تنقطع هذه المسارات على ان تجهض،على الانزلاق،على الذهاب في طرق مسدودة،ولكن أيضا هي مسارات لا تنقطع عن المعاودة في مكان اخر،باجراءات جديدة،بايقاعات جديدة ،وبإغراءات جديدة. إن كثرة مسارات العقل كانت ،بعد،موضوع تحليلات ابستيمولوجية أساسية( كويري،باشلار،غانقيلام)،وموضوع تحليلات سوسيو-سياسية( ماكس فيبر).وقد وجه فوكو، في كتبه الأخيرة ،هذه التعددية نحو تحليل العلاقات الانسانية ، تحليل سيكون مشروع إيتيقيا جديدة،من وجهة نظر ما يسمييه”مسار التذوت” او مسار الفرادة الذاتية ؟: حيث يبرز التشعبات ،والانشقاقات،والتاربخ المهشم لعقل ،دائما ،في حالة تحرر أو اغتراب في علاقات الانسان بنفسه. ويجب أن يعود فوكو الى الاغريق،ليس ليجد معجزة العقل الامثل ،لمرة واحدة والى الابد،ولكن فقط لتشخيص،ربما،اول مسودة مسار عقلنة،ستتبعه مسارات كثيرة،في شروط أخرى وهيئات أخرى. لا يعرف فوكو المدينة الإغريقية من خلال تنظيم فضاء جديد،ولكن من خلال علاقة إنسانية محددة كتنافس بين احرار أو مواطنين.(في السياسة ،ولكن ايضا في الحب،في الجمباز ،في العدالة…): في توسيع العقلنة وفرادة التذوت،لا يمكن لانسان حر، مبدئيا ، أن يأمر احرارا اخرين إلا إذا كان قادر ا على أن يأمر نفسه.ذلك هو الفعل أو المسار المميز للاغريق،والذي لا يجب أن نجعل منه فعلا مؤسسا،ولكنه حدث فريد في حلقة مقطوعة.

وها هنا ، دون شك،يلتقي شاتليه، الذي انطلق هونفسه من الاغريق ووجد لديهم نقطة انطلاقه ،بفوكو. انها فكرة القضاء التي مكنت شاتليه من تعريف المدينة الاغريقية،ليس فقط في اختلافها عن معان اخرى،( القس،الموظف الامبراطوري…)،ولكن ايضا في ارتباطاتها التي تدخل في مسار عقلنة مناسب ( مثلا القرعة).كيف أخذت القرعة في حركة للعقل،لا أحد أفضل من شاتليه وضح ذلك. إن العقلنة ،بالنسبة لشاتليه،هي مسار تاريخي وسياسي عرف مع اثينا حدثه الاول،ولكن ايضا عرف فشله وامحاءه،بريكلاس، الذي منه تفرعت احداث أخرى أخذت في مسارات أخرى. لم تكن أثينا قدوما لعقل ابدي،ولكنه الحدث الفريد لعقلانية مؤقتة واكثر ابهارا.          

 عندما نضع عقل فريد وكلي من حيث المشروعية ،نحن نسقط ،بكل دقة ،فيما أطلق عليه شاتليه ” الافراط” ( او بعبارة أخرى “الغطرسة”) هو نوع من عدم الكياسة الميتافبزيقي.وفد حلل هذا لدى أفلاطون،وحتى إذا تعرفنا في العقل على ملكة إنسانية ،وفقط انسانية،ملكة غايات الانسان،فنحن نحتفظ لها، أيضا ، بتعال لاهوتي.وعوضا عن تعدد المسارات نبسط ثنائبة تقابل بين الخطاب و العنف،كما لو أن العنف لم يواصل تعشيشه في الخطاب نقسه،وكما لو أنه لم يوفر له الكثير من المنعطفات والدوافع. اعتقد شاتليه ، كثيرا، تحت التاثير العميق لاريك فايل،في التقابل بين العنف والخطاب،حسب منوال أفلاطوني وهيجلي.لكن ما يكتشفه هو ،على العكس من ذلك ،استعداد الخطاب لجعل اللاانسانية الخاصة بالانسان تتكلم: يعود للخطاب إطلاق مسار عقلانيته المميزة،ولكن فقط في صيرورة، وتحت ضغط عدة عوامل ومن اجل عدة احداث. وهذا يبين الاهمية الكبرى ل”ولادة التاريخ” ،هو ان شاتليه يضع فيه صورة للخطاب أو للوغوس اكثر قرب من ثيوسيديدس   Thucydide منه لافلاطون أو هيحل. ولن ينقطع عن تحدي لازمتي المذهب العقلي الكلي :الرغبة الطوباوية في الحديث عن مدينة فاضلة أو دولة كلية في المبدأ،والتي تكون دائما ضد الصيرورات الديمقراطية؛ والرغبة الجهنمية في تعيين انحراف،واغتراب أساسي للعقل ، والذي كان سيحدث لمرة واحدة والى الابد وسيجمع في ضربة واحدة كل العنف أو اللاانساني. نفس الافراط (او الغطرسة) يمنح تعال العقل وفساده،ومنذ افلاطون،يضاعف الواحد مع الآخر.

 يطور شاتليه تجريبية عقلانية ،او عقلانية تجريبية ومتعددة.ما يسميه “أمبيري(“Empirie “)يرتبط اولا بمبدأين،في شكل سلبي: المجرد لا يفسر شيئا، هو ما يحتاج تفسيرا؛ لا يوجد الكلي ،وحده يوجد الفريد،الفرادة. ليست “الفرادة” الفردي، انها الحالة،الحدث،القدرة، أو بالاحرى توزيع القدرات في مادة معطاة. أن نضع الخريطة السياسة لفرد،لمجموعة أو لمجتمع، لا يختلف جوهريا: يتعلق الأمر بتمديد فرادة الى مجاورة اخرى،بطريقة تنتج ” تكوينا للأحداث”أي ، المجموع الممكن الاكثر ثراء أو الاكثر اتساقا. يمكن أن نقوم بذلك كمؤرخين:مثلا تاريخ اثينا.ولكننا لسنا مؤرخين إلا إذا كنا قادرين على إعادة العملية التي قام بها بيركلاس نفسه،هذا الربط، هذا التجاور ، وهذا الاقتران للارادات الذي بقي كامنا ومعزولا دون سياسة نعطيها ،بحق ،اسم بيركلاس . أن فردا، وحتى إن كان لا معنى له،هو نفسه هذا الحقل من الفرادات الذي لا يقبل اسمه الصحيح إلا من خلال عمليات يجريها على ذاته وبالقرب منها ليستخرج تكوينا قابلا للامتداد. يقول شاتليه عن نفسه:تلقيت تربية البورجوازية الصغيرة،تأثرت بهيحل،عشت إحدى تلك الحقبات التاريخية التي تجعل كل نفس حساسة قليلا، مريضة..،تلك هي ثلاثة وقائع” لا علاقة بينها،يبدو لي،باختصار هو مجموع متعدد ،تبلور لشيء ما ليس متأكدا من أن يكون شخصا ما . وبقطع النظر عن اهمية المادة المعتمدة،ان ما  سوف نسميه امبري”أو تاريخ الحاضر”هو ليس “لا” المعيش”،الذي يتأثر بالفرادات في حد ذاتها ويبقيها معزولة، ولا ” المفهوم”،الذي يعرفها في الكلي ويجعل منها مجرد لحظات. انها العملية التي تبعث ضربة نرد حقيقية لتنتج التكوين الاكثر اتساقا، المنحني الذي يحدد اكثر فرادات في القدرة ،هو فعل “انتشار” ينسج من نقطة الى اخرى كثيرامن العلاقات الانسانية.هذا هو،تحيين القوة أو الصيرورة الفاعلة:ينسحب هذا على الحياة وامتدادها،كما ينسحب على العقل وصيروته، انه انتصار على الموت،بما إنه لا يوجد اي خلود إلا هذا التاريخ في الحاضر ،ولا حياة أخرى إلا تلك التي تصل وتقرب التجاورات. أطلق شاتليه على هذا ” قرارا”، وكل فلسفته هي فلسفة القرار،فلسفة فرادة القرار،في تقابل مع كليات التفكير،والتواصل…سواء كان في اثينا أو في غرفتي،كل ممارسة هي ” ممارسة على شاكلة ممارسات بريكلاس”، و” ما يصدر ، في العمق ،من ممارسة بريكلاس،هو قرار.”

“يفرض ،بشكل غير قابل للاختزال، ثقل التجريبي  كتعدد ،أو، باكثر دقة، كمجموع تعددي.إنه التجريبي بالف التعريف. يمكن أن تقول أيضا انه تاريخي،ليس بمعنى عمل المؤرخ ،الذي ،وفق ما تفرضه الموضوعية، يجب عليه أن يضع بعيدا ،وان يبني موضوعا يعالجه كماض،ولكن في معنى التاريخ في الحاضر.وهكذا، بالنسبة لي،الحقل الذي يجرى فيه هذا اللقاء،هو التجريبي ،ويحدد هذا التجريبي باعتباره ما يقابل في الآن نفسه المعيش-الذي هو بطبعه لا قيمة له- والمفهومي-الذي ينتمي الى سجل اخر.”(تاريخ الجزرالضائعة”.ص.15).

 يقدم مسار العقلانية هكذا:انه تحيين قوة، هو أن يصير فاعلا،هو أن ينتج علاقة انسانية، هو أن يمدد فرادات، هو أن يقرر. وباختصار هو الحركة. هل تتساوى كل تلك العبارات؟ إن كل فيلسوف يستدعي العيني كان دائما يطلب “الحركة”، أكثر منه التفكير فيها في تجريد الكلي .لم يجر الكلي البتة ولا سبح،ولكنه يقوم بحركات السباحة على الرمل الجاف،وحركات العدو في المكان الثابت،لانه لا يهتم إلا بالغايات. اما فعل العقل الفريد الذي يقفز في محايث الحياة لأنه وضع لنفسه محركات، فهو شيء آخر .” إذا كان ممكنا بناء صورة ذلك الانسان”، مواطن الدولة الكلية ،”لن يكون من الضروري الفعل سياسيا وسيكفي،على الاقل تخيلا، بناء تمثله الخيالي: المشكل ليس مشكل الغاية،ولكنه مشكل الحركة.”(اسئلة،اعتراضات.ص.271). تمثل الحركة فعل القوة نفسه. أن تنجز الحركة هو المرور الى الفعل، هو انشاء العلاقة الإنسانية. ليس القرار إرادة فعل الحركة بل هو فعلها . صحيح أن كل حركة ليست مسار عقلانية. لكن إذا كان شاتليه عميقا في ارسطيته فلأنه يعطي التمييز بين الحركة الطبيعية والحرية القسرية مدى عمليا وتاريخيا ونموذجيا. تأتي الحركة القسرية دائما من أعلى، من تعال يمنحها غاية، من” توسط” الفكر المجرد الذي يحدد له مسارا ،والذي لا ينقطع عن إعادة تشكيله بخطوط مستقيمة قبل حتى أن يباشره: كما انه لا يدعي انتسابه لعقل من المفترض ان يكون كليا دون الدخول في كارثة تؤثرفي الكون الى حد نبدأ من جديد ،أيضا، بشكل تجريدي ومميت. وهذا عكس الحركة الطبيعية التي لا تتركب إلا من فرادات ولا تراكم إلا التجاورات، التي تنتشر في فضاء تبدعه على مقاس انعطافات وانثناءات تفعل عبر تشبيكات ليست، البتة ، معدة سلفا،وتذهب من الجمعي الى الفردي وعكسيا،ومن الداخل الى الخارج وعكسيا، ومن الارادي الى اللاارادي وعكسيا.   انهااستكشاف للتجاورات،ونشر الفرادات، هي قرار، هي فعل العقل. إذا اعتبر العقل ملكة طبيعية ،فسيكون بالضبط كمسار ، باعتباره لا يجد نفسه إلا في” حركات كلها فريدة، منتجة بواسطة المسارات المتشابكة”، بانية ” مساحة ضخمة تناسبها ،تتقدم، تنثني على نفسها،تذوب، تنفجر،تتوقف،تنتشر.”( تاريخ الافكار الضائعة “ص 236).

” يظهر لي ، أكثر فأكثر ، أن الكوارث،المآسي الكبرى تحدث منذ اللحظة التي تسيطر فيها الحركات القسرية نوعيا وكميا على الحركات الطبيعية.هجرة سكان ناتجة عن عوامل ديمغرافية أو مناخية،هي ،في العموم،اقل قتل،واقل إزعاج )،وفي كل الحالات ،من رحلات مقررة من طرف متغطرسين مثل بيارلارنيت،اربان الثاني أو بيزار( Pierre l’Ermitte ,UrbainII ou Pizarre   ؛انها انتفاضات   ناتجة عن البؤس الفيزيائي والاخلاقي كما كانت( عليه   الأفعال الثورية الاولى في فرنسا،سنة1789،ومثل التدخلات العمالية أو القومية لقرن التاسع عشر ، ومثل الانتفاضات الروسية سنة1905، لفيفري واكتوبر1917، هذه الانتفاضات والثورات هي ، في نظري ،النوع نفسه للحركات الطبيعية ،طرق في الهجرة الداخلية للمجتمعات التي تحمل الافراد الى منحنياتهم . لا يتوقف المتوحشون ابدا عن استخدام قوتهم المتغطرسة لإفشال هذه الديناميات الرائعة والمبهجة او الاستحواذ عليها :من اجل اجبارها،وتحويلها الى مشاريع واذا كان ممكنا الى شأن للدولة. تبدأ اذن من جديد المذابح وتنشأ مؤسسات،اي وسائل التدجين،والمجازر البطيئة.”(سنوات التهديم ،ص.255-256)

لم يبرح شاتليه العيش حذو الموسيقى . هو يعارض فكرة أن تكون الموسيقى “عمقا صوتيا” عند من يسمعها باستمرار:أنها النشاط نفسه. يعترف لها بخاصيتين: الموسيقى لا تمنحنا لا الزمن ولا الابدي،ولكنها تنتج الحركة؛ أنها لا تؤكد لا المعيش ولا المفهوم ،ولكنها تكون فعل العقل الحسي. لا يتعلق الامر،دون شك،بفاغنار (Wagner ) المفتون كثيرا بالتعالي، المعلق كثيرا في حركات قسرية،الملتزم كثيرا بالكلي وعولمة التحطيم،بل بموزار (Mozart) والاوبرا الايطالية، بفردي. أن ما أحبه شاتليه،فوق كل شيئ،هو أوبرا لفردي حول بيركلاس. تبدو له الموسيقى اروع قرار، دائما مستعادة، دائما للاستئناف. وصفحات شاتليه حول الموسيقى هي نفسها صفحات رائعة، لأنها تمنحنا ،الى آخر لحظة، النغمة المميزة لفكره. لفن الموسيقى مظهرين، واحد مثل رقصة جزيئات صوتية تكشف ” مادية الحركات التي    تنشرها كمشهد خاص بها ؛ لكن المظر الآخر ايضا للموسيقى كتشييد لعلاقات إنسانية في هذه المادة الصوتية،والتي تنتج مباشرة احسوسات نفسرها عادة بعلم النفس. يجد شاتليه لدى فردي انسجاما صوتيا قويا يتكون من تناسبات تحدد “التأثيرات” ، وهو ما يفسرة علم النفس عادة . في حين أن اللحن يكسب في الحركات التي تحمل معها كل المادة: الموسيقى سياسة. دون نفس ودون تعال،مادية وعلائقية ،الموسيقى هي النشاط الاكثر عقلانية للانسان. الموسيقى تحدث الحركة وتجعلنا نحدث الحركة.هي تضمن تجاورنا،وتؤثثها بالفرادات . هي تذكرنا أن وظيفة العقل ليس أن يمثل ،بل أن يحين القوة،اي أن يشيد علاقات إنسانية في مادة (صوتية).انه تعريف الاوبرا ذاتها. وبالتأكيد ايضا بواسطة الموسيقى يمكن فهم ، اخيرا،وحدة الكلمتين “مادية تاريخية

” ينشط التأليف الموسيقي كمسطح ينتشر ويتضمن تفاوتات ودرجات . ليس للموسيقى أي أثر عمق، ان لم يكن بالمعنى الموسيقي حيث يحدث التواء الاحشاء وتوتر العضلات .هي ليست اتقانا او لعبة وقت اكثر من ان الرسم هو تقنية للمساحة المسطحة والنحت تقنية للفضاء ثلاثي الابعاد .و بالتأكيد يمكن الموسيقى أن تولد انطباع الديمومة التي تتدفق،او انطباع الحركة التي تسرع أو انطباع الجمود .ليس هذا إلا مظهرا منها. ان المجالات التي استعملتها لها خطأ مشترك: هي تحدد موقع الاثر الموسيقي في مجال التمثل.غير أن الموسيقى لا تحضر ولا تمثل شيء فيما يبدو: لها امتياز، عبر حيلها ،جعل سطح الجسم بأكمله ، بما في ذلك الأجزاء العميقة منه،حساسا لتأثير الصفات الصوتية ومزيجاتها…

أشرت احيانا الى مشروع فيزياء الجودة ،الى مجموعة منسقة وليست نسقية من المعارف تهدف إنارة العلاقات التطبيقية- بعيدا عن التمييزات الانطولوجية للفكر والمادة،او التمييزات الانثروبولوجية ،للانسان والعالم،او التمييزات الابستيمولوجية،للفكرة والشيء. غير أن عمل الفن، يبدو لي، باعتباره يرمي بجذوره في ما هو تقني،وباعتباره براكسيس- بالمعنى الذي يحدده ارسطو،اي محاكاة-تحويلية لما يشتغل عليه-،وباعتباره منتوجا، ينتج وقائع اصطناعية هي عناصر هذه الفيزياء . ويتميز   الفن الموسيقي ،داخل هذا البحث ، بالاتي : إنه يقصي بطبيعته التمثل البصري وبالتالي فخ التجريد، لذلك فهو يذهب بعيدا في هذا المشروع لبناء آليين لهم فاعلية الرغبة وقوة الاكتشاف .لفن الموسيقى هذة الفضيلة:الفعل بواسطة المادة الدقيقة،جعل مادية الحركات، التي نمنحها عادة للنفس ، محسوسة . هذا ما يعطي علم النفس   الابتدائي لابطال غيوسبي فردي، واقعية وقوة. وهذا ما تقتضيه عبقرية موليار،التي يستمدها من الجمل الموسيقية لموزار وما تفرضه:عنف الرغبة لدى الفيرا لدون غيوفاني. الخوف،الشغف الجسدي،الكراهية،التي يستنجها ، بمشقة، علم النفس التفكري او العلمي، كل تلك الحالات تجعلها الموسيقى تتواجد في مواقعها الفريدة.”(تاريخ الافكار الضائعة ،ص.237-241).

spot_imgspot_img