شاهين السّافي
حين يتعلّق الأمر بالكتابة عن الكاتب والشاعر والروائي عبد الجبّار العشّ، تأخذ الكلمات منحى غريبا وغير معتاد. ربّما لأنّ المعني بالقول هو نفسه من طينة هي صنو الاختلاف والخروج عن المألوف .
نبدأ من “النهايات”، لحظة ذيوع الخبر: خبر الوفاة. تقف فجأة وجها لوجه مع اللغة بحثا في معاجمها وقواميسها وتراكيبها ومختلف استعمالاتها، تقف أماما بحثا عمّا يسعفك لتعبّر فقط عن هذي الحالة: حالة الوفاة، ولكنك لا تظفر بما يعبّر عنها طالما أنّ المعني بالأمر هو” جبّار”
تقف أمام مجموعة من الفرضيات تمنحها الاستعمالات المتداولة للغة في هكذا مقام:
“جبّار.. وداعا..”
“جبار.. فارس من فرسان الكلام يترجّل..”
“أنعاكم عبد الجبّار..”
“المبدع عبد الجبار العش يفارق الحياة بعد صراع مع المرض..”
“جبّار في عالم آخر أرحب..”
إلخ…
في نهاية المطاف ستختار واحدة منها، بلا شكّ، لأنّك في حاجة إلى التعبير عن ذلك الحدث المصاب الجلل، على الأقل بغاية إذاعة الخبر فيعلم القوم من الأهل والخلان والأصدقاء والرفاق والندماء وأبناء الهوامش والصعاليك أنّهم فقدوا عزيزا، ولكنّك أيّا من الصيغ والعبارات قد اخترت ستشعر أنّها باردة مبتسرة عاجزة..
*****
هذا الإحساس سيكون -بلا ريب- مضاعفًا حين تضعك الأقدار في مواجهة أخرى أشدّ مع اللغة، فتقف موقف التأبين. للّغة ذاكرةٌ ثقافيّة تصوغ ملامح المقال في كلّ مقام، والتأبين له بنية تواضع عليها القوم، وهو يخصّ الأموات دون غيرهم، وهنا تتفاقم الأزمة في داخلك فأنت مقدم على هذا الفعل وأنت لا ترى المعنيّ بالكلام في عالم الأموات، تراه جزءا من عالم الأحياء، ليس بالمعنى الرمزي فقط أو العاطفي ولكن بمعنى تواصل القدرة على التأثير في الواقع رغم ذلك “الغياب” ولو كان أبديّا.
نستحضر الآن تلك الرواية الطريفة لخوسيه سراماغو “انقطاعات الموت”. وهي تروي، كما يوحي عنوانها، حالة عجيبة شهدها الناس حين انقطع فجأة الموت عن أن يكون، ولكم أن تتخيّلوا كيف استحالت “حياتهم”، والمشكلة أنّ هذه اللفظة نفسها (حياة) قد باتت مفرغة من كل محتوى، ضمن “وحدة الأضداد”: أي الشيء هو شرط وجود نقيضه، فكيف نعي بوجوده ونَعْرِفَه فنُعَرِّفَه في ظل غياب النقيض؟
ما يهمّنا في استحضار هذه الرواية، ضمن سياقنا هذا، هو ما عبّرت عنه برشاقة بخصوص كينونة الموت وماهيّتها. فالموت (la Mort) في أحيان كثيرة ليست في واقع الأمر سوى “موت” (mort) فلا داعي لكتابة حرف “m” بخطّ كبير “M”، إذْ هي نسبيّة جدّا، فهي لا قدرة لها مثلا على النيل من عازف الفيولانسال في هذه الرواية.
******
جبّار هو -بصورة ما- ذلك العازف الذي ملأ الحياة بأعذب الأنغام. ثمّة أنغام تحيا زمنا ثمّ تذبل فتموت، وثمّة أنغام ولدت فقط لتحيا فهي صنو الخلق والإبداع، وأمام حلولها في البقاء ينكسر “الموت”، يموت الموت، فلا تفقد قدرتها على التأثير في الواقع.
هنا تنبعث أصوات تردّد كلمات ألفناها في الجامعة وفي كل لحظات الاحتجاج في الشوارع، بل حتى في جلسات الأنس مع الرفاق والخلان، أصوات تردّد: “لن يمرّوا”.. تلك الأهزوجة المفعمة بالحياة، إنّها ملحمة الصمود وصرخة الاحتجاج ولعلعة الجمال ترد القبح على أعقابه. أجيال ترنمت بها وأجيال أخرى قادمة ستكتسب معها حيوات جديدة، فهي ولدت لتحيا، فلا تموت:
لن يمرّوا
دمي اتّحد الآن بالشهداء
لن يمرّوا
وشرّعت صدري لأحمي الجدارْ
لن يمرّوا
وإن عبروا فعلى جثتي لا خيارْ
أظل هنا واقفا كالجبال أغني
وأرسم وجه الوطن العنيد بدمي
وأنحت من الكبرياء النهار..
لا خيار
قبضتي والرفاق هنا
نخلة شامخة كالمنارْ
وهذه العيون العاشقة
تضئ الظلام كشعلة نارْ
قبضة واحدة لاتكل
وتربة المصنع الآن حبلى بجمر وفل
نشنق الخوف بالأغنيات..
ونبني.. ونبني.. برغم الدمارْ
فلا القلب كفّ عن النبض
ولا الحبر جفّ من الرفض
ولا العشق كَلّ برغم الحصار
لا خيارْ… لا خيارْ…لا خيارْ
لن يمرّوا
*******
بدأنا من النّهايات -كما أسلفنا- أي من لحظة ذيوع خبر الوفاة، ولكننا لم ننتبه إلاّ الآن إلى أنّ جبّار يكره “النهايات”، أوَليس هو القائل: “لا أحبّ النهايات.. نهاية قصة حب.. نهاية فيلم ممتع.. نهاية لقاء مع أحبّة حول كأس أو أمسية أو مسيرة.. الوصول للسطر الأخير من رواية فاتنة أو قصيد.. موت من أحبهم.. الفراق عن صديق بعد معاشرة طويلة.. انتهاء رحلة في الغابات أو البحر أو أي مكان.. أحب فقط نهاية الظلم والفقر في العالم والاحتلال في أرض البرتقال الحزين إلخ..” جبّار يكره النّهايات ولكنّه “أنهى” كلامه عنها بما يحبّه منها، فتلك نهايات تعلن بدايات لذيذة: نهاية الظلم/بداية العدل، نهاية الفقر/بداية الرفاه، نهاية الاحتلال/بداية تفعيل الحق في تقرير المصير..
بدأنا من النهايات ولكنّنا على يقين أنّنا أمام بدايات جديدة، فنحن حين نتحدّث عن جبّار سنستعمل اللغة -هذا بديهي- ولكنّنا في ذات الآن سنطرق بابها لنلج عالمها من زاويته الأكثر تركيبا: الإبداع.
نحن أمام لغة قدرها أن توجّها طعنات متتالية -وبلا رحمة أحيانا- لكل ما هو مألوف من استعمالات اللغة، وهو ما يفتح الباب تعدّد في التأويل والقراءة. فرواية “وقائع المدينة الغريبة” ورواية “أفريقستان” (لجبّار) يمكن أنْ تنظر إليهما من زوايا كثيرة منها “التناص” فتتقصى أثر المتنصات في أدب “الواقعيّة السحريّة” في أمريكا اللاتينيّة أو في الأساطير القديمة شرقا وغربا، ويمكن أن تنظر إليهما ضمن مسألة “الأجناسيّة” فترصد القدرة الفائقة للرواية على امتصاص سائر الخطابات والأجناس والفنون، ومن ذلك مثلا الخوض في حضور الشعر في هاتين الروايتين.
أمّا رواية “محاكمة كلب” فيمكن أن نظفر فيها بكلّ ما يطرح عادة في أدب السيرة الذاتيّة من إشكاليّات، ويمكن تقديمها بشكل مكثّف في مسألة العلاقة بين المرجع والتخييل أو علاقة الوقائعي بالفني: أين يبدأ الفنّ وأين تنتهي “الحقيقة”؟ ثمّ ما “الحقيقة”؟ حقيقة الوقائع كما حصلت أم حقيقة الفنّ الذي استحالت إلى جزء من خطابه؟ هل يخضع هذا الضرب من الأدب لثنائيّة الصدق والكذب أم أنّ هذه الثنائيّة توضع على محكّ الدرس ضمن بنية الأدب وحدها؟ وكل سؤال تتفرع عنه أسئلة لا تحصى…
*****
النهايات تعيدنا إلى البدايات: بدايات جبّار. كنّا تحدّثنا آنفا عن “لن يمروا”، تلك القصيدة التي حوّلها الفنان نبراس شمام إلى أغنية فاكتسبت بها حياة أخرى، وهنا نمضي إلى الحديث عن الجانب الذي تبلغ فيه اللغة ذروتها في التركيب: لغة الشّعر (وهذا محلّ إجماع لدى جمهرة منظري الأدب ونقّاده). فجبّار الذي نقدّمه ككاتب له باع في عالم السرد، في الرواية تحديدا، قد بدأ حياته شاعرا وله في عالم الشعر قدم راسخة ومكانة عالية.
ترك لنا جبّار “جلّنار”، وهي مجموعة شعريّة ضمّت قصائد ثائرة ومشتبكة. لكن هل يكفي أنْ تكون القصائد على هذا المنحى حتى يظفر الشاعر بتلك المكانة؟ سيقول البعض “نعم”، وسيقول البعض الآخر “لا” أو “نعم ولكن…”. المهم هنا هو أنّ هذه الـ”جلّنار” تطرح دائما تلك الإشكاليّة التي أسالت الكثير من الحبر طيلة عقود، والمتعلقة بمسألة “الالتزام” وعلاقته بالشعر والشعريّة.
في الرواية تطرح هذه المسألة أيضا ولكن بشكل أسلس بكثير، ذلك أنّ بنية الرواية -كما أسلفنا- تحمل تلك القدرة الفائقة على استيعاب سائر الخطابات بما في ذلك الخطاب السياسي في صورته الأكثر مباشرة (ضمن لعبة الحوار، أو في بناء الشخصيّة أو في إيراد بلاغ أو بيان حزبي ضمن سيرورة الأحداث إلخ…) ولكنّ بنية الشعر، لغة الشعر، روح الشعر لا تحتمل كلّ ذلك، بل أكثر من ذلك نقول -دون مواربة- إنّ هذا ممّا يضعف الشعر ويجعل شعريّته في الميزان.
إنّ القضايا الأدبيّة المهمّة، مثل هذه القضيّة التي نحن بصددها، لا تعيدها إلى دائرة الضوء أعمال أدبيّة ضعيفة، وبالتالي فإنّ “جلّنار” التي أوصلتنا إلى إعادة طرح مسألة العلاقة بين “الجماليّة” و”الالتزام” هي مجموعة شعريّة لها عظيم المكانة في عالم الشعر، وفي هذا السياق نرى أنه من المهمّ أن نشير إلى أنّ النقد الأدبي الحديث يقدّم لنا مناهج ومفاهيم وأدواتٍ نقارب بها هذا الضرب من الشعر حتى نستجلي معالم شعريّته، وقد سبق أن تناولت “جلنار” بالدرس من زاوية البحث في العلاقة بين الشعر والفنّ التشكيلي (عنوان المقال: “جلّنار”: لوحةٌ لعبد الجبّار../ منشور ضمن كاتالوغ “صالون صفاقس السنوي للفنون”، سنة 2022) ولكنّ هذا التناول لم يخرج قصائد جبار من دائرة “الالتزام”، وإنّما على العكس تماما كانت الغاية منه أن نبرز الجانب الجماليّ في هذا “الالتزام”.
وهذي مجرّد عيّنة سقناها، ولكن بمستطاع كلّ قارئ أن يقارب أشعار جبّار من زوايا أخرى -قد تكون أكثر أهميّة- لينظر في معالم شعريّتها.
******
توصلنا البدايات إلى النهايات، وتحملنا النهايات إلى بدايات جديدة، وجبّار الذي وقفنا أمام عجز اللغة عن التعبير عن إذاعة خبر المصاب الجلل، نراهُ كائنا في اللغة، يحيا في أدبه شعرا وسردا، ومع كلّ قراءة تنبجس حياة جديدة مختلفة سيحياها، والموت لا تهزم جبّارا ..