spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

المداواة بالأدب في رواية “صياد الغروب” لأم الزين بن شيخة

الأستاذة: نعيمة الرياحي

أم الزين بن شيخة تنتمي إلى جنس المتفلسفين الأدباء، هي شاعرة وقاصة لا تتصوّر الفلسفة إلا أدبا. روايتها”صياد الغروب” هي نص يمكن أن يقرأ من جهة الهروب من الإطار وقول المشاعر كما شعرت بها الكاتبة التي جمعت بين النفسي والفلسفي والإجتماعي والسياسي. جمعت الكل في مزيج عجيب سمّته “صياد الغروب” رهانه معالجة فلسفية تثبت مدى قدرة الفلسفة على فتح أفاق الوجود ضد كل محاولات التحجر البائسة التي لا تنتج إلا العاهات والأمراض بكل أشكالها. ربما يمكن أن نؤكد أن “صياد الغروب” يقترح وصفة فلسفية للمداواة ضد الشعور بالعجز.

الكاتبة مجنونة لا تريد أن تجن وحدها ، بل تورّط كل من قرأها في حال من الجنون لا يكاد يميز فيها بين الواقع والخيال السرد والحضور الفعلي لشخصياتها الشاخصة والمعقول الإجتماعي واللامعقول الوجودي، الشروق والغروب. أم الزين بن شيخة قد وصلت حد الجنون و تجاوزت القواعد المألوفة لللغة وخرقت كل الحدود في نصها “صياد الغروب”.

هي تدرك جيدا أنّ العقل الأصيل لا ينشط إلا خارج الأطار، فحين يخرج عن “طوره” وعن الاطار فقط يتحول العاقل إلى مبدع بإطلاق.

لقد كتبت أم الزين في ص 104 : ” كان ايوب لا يزال مستلقيا على ظهره على فراش وثير هو فراش اهدته له اخته الكبرى يوم زفافه . لكن تلك الاخت قد غادرت الجزيرة منذ زمن طويل ولا احد يعلم بوجهتها . ويقال انها جنّت ، وبعضهم يقول إنّه رآها حذو كلية الآداب بمدينة منوبة تمزّق الكتب وتأكل أوراقها.”

كتبت أم الزين “صياد الغروب ” من أجل أن يشرق الأمل إذ لا غروب دون شروق ولا شروق دون غروب ومن يصطاد الغروب لا يتأمل جمالا ميتافيزيقيا معلنا للنهاية ومغلقا كل إمكانات الحياة فالغروب ليس إعلانا بنهاية النهار بل هو بداية لحياة أخرى ممكنة في الظلام ولكن حينها فقط تصبح الرؤية والرؤيا ممكنتين. في النهار كل الأشياء واضحة مرئية لكن في الظلام لا تنشط الحواس بل تلك القدرات العجيبة للرؤيا وللحلم فيصبح الفاقد للبصر يرى ويصبح الفاقد للمشي يركض ويصبح الأصم سميعا. إنه واقع أخر غير الواقع النهاري واقع الخيال وواقع من يتعذبون ليلا ولا يراهم عقلاء النهار.

فعلا، في الحلم لا فرق بين الواقع والخيال، تنتفي المسافات فلا نكاد نميز بين هذا وذاك. لقد قالها ديكارت : من يضمن لي أنني لا أحلم أنا الذي اعتقد أنني ارى بحواسي أن المحسوسات واقع و بداهة لا مفر منها ، لكن هذا الفيلسوف ظل ميتافيزيقيا في حرص شديد على أن لا يخطئ ولا يتوهم وهو مسرع لبناء مشروعه الصلب لإعادة بناء الفلسفة والحقيقة العقلية الصارمة التي لا تشوبها اي شائبة ولا تزعزعها فروض الريبيين. ديكارت، يريد أن يطمئن ويجد ضامنا للحقيقة فسرعان ما افترض فرضية الشيطان الماكر وحيل الاله المخادع ليؤكد الشك في الأوهام ويستعيد للبداهات العقلية بريقها العقلي ويأتي الإله فيما بعد ليضمن له أنه داخل الحق. غير أنّ الإنساني لا يمكنه أن ينغلق إطلاقا في أطر العقلانية الصارمة ولذلك فباب الحرية والنجاة لن يكون إلا بتفجير المعنى.

النص الأدبي ينفتح على كل امكانات المعنى التي يوفرها الخيال لذلك ينساق الأدباء وراء أحلامهم لفرط ما عاشوه من قسوة الواقع ورغبة العقلانيين في القبض عليه بمقولات العقل. هم ليسوا أصحاب مشروع عقلاني إجرائي صارم ولا يعترفون بأنهم عقلاء فحسب بل أكثر من ذلك هم يحملون قصصا وآلاما. وما دام ثمة أمكانات للتحرر ولتشغيل الخيال فلماذا نحرص على الاحتفاظ بصورة واقع ردءئ في حين يمكننا بخيالنا أن نلج عالما جميلا بل عوالم متعددة لا متناهية ممكنة.

هكذا هي قصة ” صياد الغروب” ليست ديكارتية بل هي ديدروية فوكويية بالأساس تركض وراء حلم ممكن بل أحلام ممكنة إذ هي قصة لم تكتب عبثا، بل هي صيد وقنص للمعاني. ذاك الشاب الذي افتقد كل امكانات ” الركض” ولم يعد بإمكانه الإبحار برجليه. عليه أن يكون قوي البنية ليمسكها كلما هبت الرياح وتجاذبتها أمواج البحر التي يمكن أن تصبح عاتية في أي لحظة. هذا الضرب من الصيادين يصطاد المعاني فقط من خلال عينيه اللتان تخترقان الأفق باحثة عن أفاق متعددة ممكنة فيبدع بعدسته صورا للأشياء الجميلة الممكنة ويرى الواقع /النهار الذي بدأ في الزوال صورا عجيبة لحياة رائعة. إنه لا يصوّر واقعا جميلا بقدرما يصور بمهارة فنية فائقة الواقع الرديء ويحوله إلى صور جميلة . لذلك فهو من جنس الشعراء يؤسسون ما يتبقى ….. صحيح أنه لا يصطاد سمكا لكنه يصطاد كل إمكانات الصيد وكل الرؤى. هكذا لا يكتب الأديب أوالشاعر نصا هادئا معتادا، بل هو يكتب نصا مجنونا يبحث عن شروق ما في الظلام الحالك ألم يقلها فوكو في كتابه تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي: إن اللمعان يبدأ في الظلام . وهو ما عبرت عنه نهاية القصة.

لا يبحث الأديب عن الحقيقة فهذه هي ميسم الفلاسفة وهي اليوم أصبحت لا تعني الكثيرين منهم ممن اصبحوا يرون أن المعنى الذي تولده المعاناة هو الذي يعني ويهم أما الحقيقة فلا تعني وإنما تشير أو تعيّن مطابقة بين القول والكائن. ولذلك لطالما بحث الفلاسفة عنها دون القبض عليها بينما يصطاد الأديب مجالات أخرى من مجالات النشاط الإنساني وهو مجال الصيد / صيد المعاني لقد حاول أفلاطون أن يؤسسها في محاورة السفسطائي إذ بين أن الفيلسوف هو من يقتنص الحقيقة ويصطادها ولكنه بقي سجين ثنائية الفلسفة والسفسطة وربما خصومته أو منافسته للسفسطائيين هي التي أملت عليه أن يكون الصيد أو القنص عنده لا يتجاوز أفق الإقصاء والطرد.

أما الأدب فديدنه شيء آخر، ليس الإقصاء أبدا، الأديب لا تحركه أبغاض وحقود ورغبة في الفوز، فهو قد اعتاد البؤس و لا يريد ان ينافس أحدا فادبه يكفيه ويقيه من شر كل الكراهيات. الكاتب يقتنص المعنى بإطلاق لذلك يفسح المجال للخيال ليقول ما يريد   فلا نجد منطقا يحرك النص بل نجد خيالات لوحات تنتقيها الكاتبة أم الزين بن شيخة بكل عناية لتقتنص المعنى وهي قد كتبت من قبل رواية “لن تجن وحيدا هذا اليوم” وهي قطعا ترى في الحدود والأطر ما يتطلب الكسر والخرق. فالمعاني تفوق ما نتكلمه منطقا ويتوزع النص بين الكاتب وبين القارئ الذي يريد أن يستمتع بما نفهمه الآن وهنا بكليته وبكلية الوجود. إن نص “صياد الغروب”يجعل الكاتب والقارئ يلتقيان يتشاركان في تقاسم شيء عزيز لا تبلغه الا العين البصيرة المتالمة التي ذاقت نفس العذابات. كل نص جيد يدع قارئه ليتورّط في فهم معانيه والبحث عنها في الثنايا التي تقال همسا وتلميحا وفي الرؤيا التي تجحظ فيها العين لترى أمرا آخر غير ما تراه العين الباصرة.

تبدا الرواية بالكتابة على الحافة ، فعلا هي تقف عند الحد ولا تخشى خطر السقوط، بل تجد في الحافة كل إمكانات الخطر التي تبعثها من جديد إلى الفضاء اللاهندسي ، الفضاء المتخيل وتمنح القارئ أمكانية أن يرى بعضا من نفسه التي غفل عنها أو تجاهلها أو تناساها إنقاذا لإمكانية أن يواصل العيش بنسبة معينة من النشاط. “صياد الغروب” هو نص يتكون من لوحات معيشية لكنها فنية وكأن الكاتبة تريد أن تذكرنا بركامنا الذي قضى ولم نعد نحمل عنه غير أطياف فما نحن بكتل لحمية صلبة ياتي عليها الزمان ويتلاعب بها فقط ، بل نحن مشاعر وأزمات وانكسارات وأحلام ولكن أيضا بعض النجاحات في متون الركام المنسي الذي لا تستوعبه غير اللوحات الفنية التشكيلية. وكأن الكاتبة ، تقر في قرارة نفسها بأنه يجب أن تستدعي كل ضروب الفنون لتقبض على المعنى وتكشف لنا كيف يصير من يحس بالفشل مالكا لقوة رهيبة تستعمل بكل مرونة الكلمات وكل ريشات القلم والألوان وحتى الحاسوب لتخترق الأطر الاجتماعية والوجودية وتقاوم الإنغلاق. استباحت أم الزين بن شيخة كل الثنائيات التي قدستها الفلسفة منذ قرون فلم تحدثنا عن الحقيقة والوهم أو حتى عن كيف يتحول الوهم إلى حقيقة بل جعلت من القاصر عن المشي يركض وجعلت الرؤية الاصيلة تكون عند بداية الغسق وخلقت من اللاوقع وقائع كثيرة يصطادها “أيوّب” عند الغروب. ذاك الشاب الذي أراد أن يصاحبه ال ” الفرح” فما لبث إلا أن تخلّى عنه وتركه وحيدا للأحزان التي دفعته إلى الإبداع في كل غروب فقط من على كرسيه ص 103.

إن الإنسان طبقات ولوحات تحتوي على مسطحات ونتوئات وأعماق و فراغات وكثافات لعل دولوز في نصه ألف مسطح قد يساعدنا على فهمها لكن الأدب ليس متأخرا جدا على دولوز كي يضعنا أمام أنفسنا نراها في قصيدة أو في لوحة أو لوحات، بل إن دولوز نفسه حدثنا عن الأبوكاليبس وعن كافكا وعن روسيليني و غيرهم من الأدباء والمخرجين الفنانين اللذين اعتبرهم فلاسفة.

اللوحة الأولى كانت مخصصة لتنويرنا في خضم الالغاز ، فتكشف لنا منذ البداية أنّ الغروب يلتهم السما دون الف في نهاية الكلمة فالسما من السمو والعلو وهي اقرب الى الوجداني من الانطولوجي وليست ذلك العلو المكاني الذي قد يحملنا اليه الميتا/ المفارق…طبعا النص لا يقصد الفضاء المادي والدليل على ذلك ربط هذه العبارة بعبارتي “الغروب يلتهم” : هي جملة تدل على شهوة كبيرة في أن تتلاشى السما وتنتهي بفعل الغروب وكأن الغروب هو الأمنية التي تبقت. بداية تصلح ان تكون بدءا لشريط سينمائي يضعنا في وضعية متذوق أوظل يمكنه أن يبدأ في حل ألغاز النص منذ اللوحة رقم1.

يبدا الغروب عند قدوم “فرح” ولقائها ب”ايّوب”. تبشرنا الكاتبة منذ البدء بانه ثمة فرح سيصاحب أيوب في غروبه وفي غروب الشمس يتعايشان ويتحابان حبا مختلفا. ايوب له عدة ميزات فيزيائية ونفسية : هو قد فقد القدرة على المشي لكنه عوّضها بقدرة نفسية عجيبة هي الركض وراء المعاني والدلالات الجميلة وهو ربما ما جعل الفرح يدخل قلبه. أيّ شاب في أعز فترات يناعته سيصبر مقدار ما صبره أيوب إن لم يكن مستحوذا على كل صبر.

يحب ايوب الغروب فهو أمله و مآله الوحيد لينقذه من الذكرى الرديئة التي يستوجب فيها النهار العمل والركض. يكره الشمس و يعشق مجيء الغروب.

شخصيات الرواية ليست دائما ثابتة ولا واحدة ولا شخوصا حقيقية بل قد تكون افكارا تعطيها ام الزين دلالة الشخص الفعلي فتجعله يفعل او يتكلم. بذلك تذكرنا بالشخوص المفهومية لدى نيتشه كما يتحدث عنها دولوز، فزاردشت ليس إلاّ شخصية مفهومية و”الغياب” يصبح شخصا يسكن مثلما عنونت أم الزين بن شيخة اللوحة الثالثة : “غياب يقيم خارج نفسه”.

هي تجعل من الموت ذا دلالة لغوية فحسب فتلغي بذلك كل ماساوية الياس وتفتح افاق المواجهة الحقيقية وتخلق امكانية التحرّر من عبثيته اذ تقول ص 20 “…ورائحة الموتى الجدد انتشرت سلفا في المكان لكن الموت   ليس فضيعا دوما . يمكنه ان يكون وجهة نظر او ادّعاء سرديا. فلا احد مات بما يكفي حتى يجعل من موته حجة ضدنا “.

سكن الكاتبة هوس الموت العشوائي الذي كان تيمة متناثرة في أغلب روايتها مثل “طوفان من الحلوى في معبد الجماجم”. هي لا ترفض الموت بل ترفض الإماتة فتحدثت عن “الرؤوس المقطوعة” وفي هذه الرواية تتحدث بمرارة كبرى عن “موت الأجنة” و”موت المهاجرين” الذين لفظهم البحر وألقى بهم على الشاطئ كما يلقي بفضلاته آخر الليل .. لقد لفظوا بعد رحلة مريرة على متن مركب مرمم. ربما كان “صياد الغروب” الذي فقد القدرة على الركض أفضل حالا من الذين أكلتهم أسماك البحر ولم تسمح لهم الأقدار بأن يحظوا حتى بلقاء أخير مع أمهاتهم وعائلاتهم. …….

تكتب الكاتبة روايتها في خضم كل الميتات والخيبات المتكررة والمتنوعة في الفترة الأخيرة في بلادنا خاصة منذ عقد ونيف، لكنها تحوّل الواقع العيني المعيش الأوّلي إلى واقع نفسي أو معيش أعمق فتلج عالم النفس وعذاباتها العميقة إزاء كلّ ما يحدث من أشكال متنوعة للظلم. هي تدرك جيّدا أن الكلام علاجي وأنّه ، عندما يتحول الواقع الى دلالات لغوية فتلك هي بداية الخروج من الأزمة وماذا يفعل المحلل النفسي غير أن يتحادث مع ” مريضه” فيطهره من كل علاته فيشفى شفاء باهرا.

أن الرواية تصلح من ” اجل حسن الاقامة صلب الكارثة” ص 50 او من اجل بلبلتها ” ان نحدث ضجيجا داخلها” .

“صياد الغروب” لا يعيش وحده بل هو عنصر من عناصر جزيرة منكوبة تستقبل الموتى كما تستقبل شروق كل يوم . لم يعد الموت فاجعة بل اصبح مشهدا معتادا جدا ولذلك يهون البتر ويصبح الركض ممكنا في عالم الاموات. انه فقط ” لحم الخيال” ص 35

تأخذ أم الزين بن شيخة من عناصر الواقع ما به تنسج خيالات روايتها. تبعثر ما يبدو الأشد واقعية فتجعل منه حكاية عبثية لا تدع إلا إلى السخرية وتتعالى بذلك عن الواقع المرير لتجعل من الأنا فوق كل ضروب القسوة يتهكم بألة تصوير بسيطة فيصنع صورا لامتناهية تضحك بل تقهقه من أحادية المعيش اليومي بكل عناصره. تتحدث عن الجزيرة والصيد فيها والجثامين التي ألقى بها اليم في آخر الليل على شاطىء البحر / وتذكر استعارة اسم جزيرة سرسينيا/ قرقنة ثم تعود الى اغنية تكشف عن امنية ان تكون قرقنة بلاد حشاد وعاشور مثل جربة يزورها السياح. هنا تخرج ام الزين قهرا ولوعة على الخيارات الاستراتيجية للسياسة السياحية اذ من المفارقة أن تكون قرقنة بلاد المناضلين غير مدرجة في الاستراتييجيات السياحية ص 37 .

هنا تصاب الكاتبة بضرب من الجنون والرغبة في تحدي كل شيء حتى القواعد القصصية فتاتي بشخصيات من روايات اخرى مثل طوفان من الحلوى في معبد الجماجم وتستعير منها شخصية كوشمار /عبد الباقي عائلة السلطاني وتذكرنا بالرؤوس المقطوعة التي كانت تتكلم في تلك الرواية ص 61 مثالا . لا فرق بين أن نموت في جبل سمامة أو في البحر وتبسط جثاميننا على الشاطئ . أصبحت الكوارث مرئية الكل يشاهد ولا يعبأ .

واقعة قطع الرؤوس مشابهة لواقعة موت الأجنة والصناديق التي حملوا فيها علنا ولاأحد يخجل من كشفها أولئك ذوي القلوب الباردة أو ما تعبر عنه الراوية في عبارة “صقيع القلوب” ولا ذمة لأحد ولا أحد يفكر في تلك الأم الثكلى التي انتظرت مديدا لتفرح بطفل لا تحضنه وكانه قدرها ان لا تكون اما ص 98 تعدد ام الزين بن شيخة ارقام الاجنة دون ترتيب كما عددت ارقام الرؤؤس المقطوعة اذ لا يهم العدد بقدرما تهم الواقعة اذا وقعت

ويبعد الخيال بالراوية حتى تجعل من بطلها ايوب راكضا في ذاكرته حافي القدمين ……. تذكر ان الحفاة ليس لهم الحق المدني للتجول في المدينة فتجعل بطلها فاقد ساقيه يركض في الخيال وتعود بها الذاكرة الى جبل سمامة والسلوم فتدمجهما بنسج او بغير نسج منطقي لكن اكيد انه نسيج خيالي فبالمخيلة تصنع منطقا آخر لا تحكمه الوقائع والانطولوجيا السالبة انطولوجيا الحرمان والفقد : اذ تجعل ايوب يتسائل : ” فكان كل صباح يسال الله : ” وفق اية حكمة ينتدب الناس قي اقدارهم ، فيجعل احدهم لا يتكلم وآخر لا يسمع وثالثا لا يمشي ورابعا لا يرى وخامسا يتيما وسادسا بلا عقل” ص47 و تجعل ذك الإستنكار يتحوّل من الحنق الى الرضى بوضعه لانه في كل هذه الاحالات هو افضل من غيره وهو ما يتناغم ايضا مع مقولة المصيبة اذا عمت خفت او خنقة مع الجماعة خلاعة ..” ” جاتني في ساقي أرحم من أيّة مصيبة اخرى”. ثم يدفع بكرسيه نحو الخارج كمن يهرب من جسد لم يعد قابلا للسكن”. ص 47.

هذه بعض المعاني التي تجعل ايوب يصبر أمام فاجعة فقد الساقين ليس صبرا لاهويتا يقبل القدر وفق ما يأتيه ، بل هو صبر ” إرادة الحياة” و”إرادة القوة”والإبداع رغم الفقد والحرمان. يبدو أن اللاعدل الميتافيزيقي هو دافع للتوازن الفيزيقي، فكم من مالك لكل اسباب العيش لا يستعملها للإبداع وكم من فاقد لها يبدع أجمل القصائد واللوحات والقصص، لا بل إنّ الحرمان هو سبب الإبداع.

خاتمة :

تبدو الكاتبة مسكونة بواقع رديئ جدا في هذه الرواية التي تخترق المألوف ولا ترى حرجا في الرجوع إلى رواياتها الأخرى بكل مرونة ومحبة لأن المرارات واحدة والقساوات متشابهة : كلها تيمات تتمحور حول سياسات الموت والرداءة والفقد والغياب وكلها تستنهض المأزومين ليروا الشروق والحياة والحضور. إن الرواية والحكي والقصص في رؤية الكاتبة هي عصرها ملخصا في الأدب. “أليس كل شيء يبقى حديثا” أليست الرواية والحكي الذي قامت به شهرزاد أقوى ضروب الأسلحة للإنتصار على القاتل ؟ لقد كانت لا تكف عن الرواية حتى يصيح الديك معلنا قدوم النهار! حاربت الموت وقاومت شهوة شهريار في قتل كل من النساء قبلها.

إنّ رواية “صياد الغروب” ليست قصة عادية بل هي قصة للعلاج والمداواة :”فلتكن الرواية غرفة انعاش كبرى لمن حكمت عليهم الاقدار بالموت الاكلينيكي المبكّر” ص 36

spot_imgspot_img