spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

اللغة ذلك اللُغز القديم وحروبها

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم

 “وعلم آدم الأسماء كلها” …الأسماء وليس الأفعال التي تنتسب فقط للكائنات الحية ! الإنسان يقتل والحيوان يفترس والنبات يُزهر! في الآية القرآنية اللغة مرتبطة بالخلق وبالإنسان فاللغة هي تسمية الأشياء! هذا هو التاريخ الديني لبداية اللغة بيننا التاريخ الأنثروبولوجي يبرهن على أن أسماء الاشياء تمّت خلال التجربة الاجتماعية فالعديد من المسمّيات لم توجد من قبل سواء كانت في الطبيعة ثم تم اكتشافها أو تم تخليقها من مكونات طبيعية كالبلاستيك مثلا!

حاليا يوجد في العالم حوالي 7000 لغة وكثير منها في طريقة إلى الأفول وهناك صراع لغوي حاد بين عدة لغات حية كبيرة وستتحدد نتائجه أساسا في البورصات والتكنولوجيا وهي حرب ضروس من قبل التاريخ المكتوب فكل الجماعات المنتصرة كانت تفرض لغتها ودياناتها على الجماعات المهزومة

اللغة غير الكلام.. الكلام لا تحكمه قواعد مُحكمة تحدد المعنى بينما في اللغة القواعد هي ما تحدّد المعنى وما هو مفهوم ومنطقي وما هو زائف!

اللغة ليست فقط للاتصال وتوصيف العالم الموضوعي لكنها هي التفكير في ذاته والاداة التي يعمل بها العقل ليس فقط للاتصال الخارجي، ولكن كذلك لفهم النفس لا يوجد تفكير بدون اللغة! ولا توجد أفكار غير معبر عنها لغويّا! المعادلات الرياضية هي رموز متفق عليها ولا تعبر عن أفكار.

والتنوع اللّغوي تم صياغته في الأسطورة التوراتيّة لـ”برج بابل” الذي بدأ منه التنوع اللغوي والخلاف والصراعات بين الشعوب كعقاب من الله حتى يتنازع الناس فيما بينهم.

“فرديناند دي سوسير” هو من يعتبر المؤسس الفعلي للسانيات المعاصرة وللبنيوية اللغوية وهو يعتبر اللغة نتاج اجتماعي- أنثربولوچي في كتابه الأشهر “بحث في الألسُنيّة العامة” (كتبه باللغة الفرنسية ونُشر عام 1916، بعد وفاته) يشمل ثلاث مفاهيم signe وsignifié و signifiant والتفرقة بين Langue و Langage وParole

اللغة عند” فتغنشتاين “هي التي تحتوي المعرفة باعتبارها وسيلة لفهم وتكوين المعنى في الخطاب الذي يكون المفاهيم والفكر. ونظرا لعلاقة التضمين أو التوازي بين اللغة والتفكير فلا سبيل إلى فلسفة للتفكير والمعرفة والفهم دون اللغة إذ أن «كل شيء يحدث داخل اللغة». يقول “جون سيرل” في كتابه «العقل» أن التطور اليوم يعكس المعادلة ففهم اللغة لا بد أن يمر أولا بفهم العقل وهذا ما يجعل لفلسفة العقل الأولوية على فلسفة اللغة. فهو يعتبر أن اللغة تتمثل في مجموع الألعاب اللغوية المُمكنة، وأوجه الاستعارة متعددة فاللعبة تتضمن القواعد تماما مثل اللغة. واللعبة فعل مثل اللّغة، واللغة مكونة من الألفاظ مثلما تتكون اللعبة من قطع وأشكال. واللغة نظام يأخذ فيه كل لفظ مكانه باعتبار محيطه، كذلك تكتسب كل قطعة أو شكل في اللعبة قيمتها من القطعة الأخرى، وأخيرا فإن كل من اللغة واللعبة مؤسسات اجتماعية.

ويتضمن عمل” فتجنشتين” “تراكتورس فلسفي منطقي” تضمين النحو Grammaire لمجال أوسع وغير مألوف سابقا كالألوان والهارموني في المؤلفات الموسيقية ومثاله الاشهر “لا يوجد اخضر مٌحمر ليس لأسباب فيزيائية، بل لقواعد نحوية” أُتفق عليها في التلوين! وهي قواعد تحتوي المنطق ذاته أو Paradigmes العقلي!

النحو التوليدي لـ”نعوم تشومسكي” وغيره من أخصائيّي التوليد بأن العديد من خصائص القواعد النحوية تنشأ من قواعد عامة متأصلة في دماغ الإنسان، بدلاً من التعلم من البيئة المحيطة وهو يسير في التحليل اللغوي بداية من تكوين أصلي للدماغ “فتجنشتين”.

العولمة أدت لتغير بالغ في اللغة فبينما اكتسحت الانجليزية/ الأمريكية المعاملات التجارية والمصرفية واسواق المال والبورصات وكذلك بفعل التكنولوجيا الجديدة والسماوات المفتوحة العديد من السيادة اللغوية ليس فقط لبلدان طرفية، بل أيضا بلدان اوربية واسيوية متقدمة فأصبح من المعتاد في بلدان مختلفة عن تعيين الكادر هو إجادة الإنجليزية وحدث تهجين للغات قومية عديدة مع الإنجليزية /الأمريكية

“نون والقلم وما يسطرون” اللغة العربية ذات خاصية مقدسة بين اللغات الحية إذ أن القرآن وهو ما يؤمن به مليارين من البشر ويؤدون به شعائر يحفظ اللغة من الذوبان (إنا أنزلنا الذكر وإن له لحافظون) وحتى الترجمات المختلفة للغات الأخرى هي ترجمات لمعاني الآيات !

والاجتهاد الأكبر في هذا الموضوع كان للدكتور طه حسين “اللغة العربية يسرٌ لا عسر ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها ولنا أن نضيف إليها ما نحتاج إليه من الفاظ لم تكن مستعمله في العصور القديمة”! لكن العربية المعيارية لا تشكّل لغة يومية فاللهجات والتركيبات اللغوية تشكل لغات دارجة غير معيارية وليس لها نظام نحوي والتعليم المحدود يجعل العربية محصورة في الفئات المثقفة وكذلك في الممارسات الدينية وحتى بعض خطب المنابر صارت تؤدي بمزيج من العاميّة والفصحى! يرجع ذلك لأسباب اجتماعية ذلك لإن التوحيد اللغوي يعتمد أساسا على خلق سوق موحد ودولة قومية! حتّى داخل البنى الوطنية الحالية هناك اختلافات كبيرة بين المناطق والسهول والجبال!

وعندما اصبحنا في عالم معلوم صارت اللغة مجالا لصراع الهويات والسيطرة وممارسات القوة والهيمنة ،والتنوع الإثني لبعض المدن كنيويورك ولندن وباريس وبرلين وهونج كونج يجعلها فسيفساء لغويّة يتنقل فيها السكان والزائرون بين عديد من اللغات واللهجات ويختلف المعنى بحسب مقاييس المتلقين اللغوية وهذا في الحياة اليومية بينما يظهر التفاوت اللغوي بين المتلقين بالنسبة للغة الإدارة والاكاديمية والبيروقراطية المعيارية !

العبرية هي لغة مستحدثة تأسس المجمع اللغوي العبري عام 1889بواسطة مجموعة من المثقفين في القدس على رأسهم “اليعيزرا بن يهودا” وضع المجمع أمامه هدفين أساسيين:

  • تحديد مصطلحات في المهن التعليمية المختلفة في المدارس وفي المجالات العلمية والحياة العملية.
  • وطريقة النطق الصحيحة والكتابة والمشكلات النحوية.

اليوم، تعتبر اللغة العبرية اللغة الرسمية الأولى لدولة إسرائيل وأصبحت تستخدم في شتى مجالات الحياة، وعبر استخراج كلمات من مخطوطات قديمة دينية وتركيبها نحويا في اوائل القرن العشرين ثم تداولها بين مستعمرين لا تشكل لهم لغتهم الأمّ، ولكن الدولة الصهيونية تمكنت من تحويلها للغة للحياة اليومية والآدب والعمل الأكاديمي.

في نفس الزمن تقريبا تم توليف لغة مصطنعة (غير طبيعية) في هولندا سميت “اسبرانتو” ظلت في أوساط محدودة من المتخصصين ربما لإنها لم ترتكز على أسطورة أو مخطوطات قديمة ولن تجد لها دولة راعية! من الملاحظ أن “الافريكانس ” وهي لغة هجينة من الهولندية والألمانية والإنجليزية وألفاظ أفريقية مازالت متداولة في جنوب أفريقيا وبريتوريا وهي أساسا لغة المستعمرين البوير.

اللغات المحكية الأخرى في الشرق الأوسط والتي لم تصل لمرحلة لغة كما العربية ربما مثال لها الأمازيغية (شمال أفريقيا) والنوبية بمصر والسّودان والكردية بالعراق وسوريا وتركيا وهي ما تُعتبر -قوميات وأمم لا تاريخية-كانت هناك محاولات اكاديمية لبناء نحو وقواميس لكنها ظلت محاولات دراسية.

من أعمال “جان بلوميرت “(1961-2021)، عالم اللسانيات الاجتماعية البلجيكي الذي أنجز قفَزات في علوم وأدوات تحليل الخطاب. عُرف بلوميرت بأعماله الرائدة في حقل دراسات العولمة، وقدّم الكثير من الأعمال التي تشرح دور العولمة في تشكيل اللغة وأدوات التواصل وعلاقات القوة. وقد كان إرثه الكبير تأكيده أن اللسانيات الاجتماعية القديمة لم يعد لها معنى ما لم نُمعن النظر في الشكل الجديد الذي أخذه العالم الجديد الذي أصبح وحدة بحثية.

صراعات الحضارات ل”صامويل هنتنجتون” هو بالتعريف صراع ثقافي وبالتّالي لغوي ويبدو أن الإدارة الأمريكية ل “دونالد ترامب “إيلون ماسك” تسير على هداه مدعومة بالهيمنة التكنولوجية الرقمية وأدواتها المعممة في الحياة اليومية والتي تسودها اللغة الإنجليزية/الأمريكية في المعامل والمختبرات والاتصالات الشخصية وهذا ليس تهديدا فقط للغات ثانوية لمجموعات أثنية ومجتمعات هامشية بل تهديد للغات عالمية كالفرنسية والإيطالية والإسبانية والعربية والصينية والهندية وهى لغات يتواصل بها مليارات من البشر وتكونت بها ثقافات عريقة .

برامج الجامعات الأمريكية والإنجليزية أصبحت مكتسحة في البلاد الطرفية حيث أُسست لها فروع تشكل الطلاب أساسا باللّغة الإنجليزية ومصطلحاتها!

الأفلام والمسلسلات التلفزيّة في سماوات مفتوحة ومنصات عالمية للبث جعلت الإنجليزية في كل بيت ويتلقاها الصفار كما يتلقون لغتهم الأمّ.

كذلك تُسهم التجارة الدولية والعلوم والديبلوماسية بدور رئيسي في تطوير هيمنة الإنجليزية وبالرّغم من الترجمة تتسرب التعبيرات المتداولة ضمن نمط الحياة اليومية كطريقة الحياة العصرية الوحيدة الممكنة للتقدم والازدهار!

لا يمكن التعويل على الأدب لمقاومة ذلك فالأدب يتم ترجمته للإنجليزية ايضا وبمعدل متسع باستمرار حيث ترعى ذلك مؤسسات ضخمة وممولة جيّدا ومن ناحية أساسية فتداول الأدب هو في نطاق محدود نسبيا! الشعائر الدينية والكتب المقدسة بالذات ” القرآن الكريم” لا نتوقع أنها يمكنها مقاومة ذلك دون أن يحال منال! والعديد طبيعة العالم ونظام القوة فيه وهو الآن يبدو بعيد المنال! والعديد من المؤمنين المسلمين يتثبتون بالآية الكريمة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9}!لكن الصينيون والهنود -وهم مليارات- ،وحتى الفرنسيّين واللاّتينيون ماذا يفعلون؟ لمواجهة أفول لغاتهم التي تمثل هويتهم الثقافية؟

هل نعود لما قبل انقسام “برج بابل” لتسود لغة واحدة ليعم التفاهم ام هي سيطرة للأخ الأكبر بالحديد والنّار والدّولار؟ ليتحول العالم لزومبي (مُسخْ) اليكتروني مُرعب.

spot_imgspot_img