
بقلم: رياض خليف
1
اخترت أن أواصل في هذا المقال الجديد فتح الباب لذاكرتي الأدبية وبعض ما رافق أعمالي من خواطر وحيثيات … شهادة عن تجربة نبتت وسط دروب من أشواك وإرادة صلبة، والحديث في هذا المقال عن مجموعتي المذكورة أعلاه مجموعة “صالح البغدادي”
تشكل هذه المجموعة عملي السردي الثاني سنة2003 وهي في نفس الوقت كتابي الثالث. وقد جاءت في لحظة عربية استثنائية وطبعتها في صفاقس في مطبعة خاصة. والحقيقة أن إمكانياتي وظروفي أنذاك لم تسمح بأن يجد هذا العمل مكانة أفضل ومر في صمت تقريبا، لم تجد دعما من أحد ولم يحتفل بها غير عدد محدود، حتى من كانوا عروبيين آنذاك ويؤمنون أن للقلم والبندقية فوهة واحدة… من كان يهمهم أن ندعم الفكر العربي… النضال من أجل العروبة عندهم لا يحتمل الفكر والأدب. لم ينتبهوا لا آنذاك ولا لاحقا أن العروبيين لم يخسروا أنظمة سياسية فقط كانت تحمي الفكر القومي وتحضنه، ولكنهم خسروا حزاما فكريا كبيرا، فبمجرد أن دوت الهزائم الموجعة حتى توارت الإيديولوجيا العروبية ولم تجد من يحميها بالفكر وتلك لعنة أخرى…
لعلني أعيد نشر هذه المجموعة يوما إذا استطعت فهو من أحب الكتب إلى قلبي وأكثرها اندفاعا وحماسا، وربما ماتت بعد صدوره مرحلة الحلم والأمل…
2
كان الجرح البغدادي آنذاك ينزف وقد تحولت حياتنا إلى أنين بفضل ذلك السقوط المفاجئ والمرعب بعد فترة انتشاء بالإنجازات والخطابات والبطولات وبعد فترة من الحلم…
صمت الشارع المحلي صمتا رهيبا وصفرت الرياح في كل الأركان… تحول الربيع إلى خريف. اصفرت الأوراق ربيعا وسقطت وملأت الشوارع والمقاهي، والحانات، والجرائد، والبساتين. كانت حالة كآبة عامة…
من مقهى إلى مقهى ومن مكان إلى آخر، طفقت أدون تلك الأيام وأكتب آلامها…
نشرت بعض يومياتها في صحيفة الشروق ولم أستطع جمعها بعد. وربما تآكل الأرشيف…
ثم نشرت هذه المجموعة القصصية ردا على اللحظة، إيمانا بأن الكتابة مقاومة والنص يمكن أن يكون في حد ذاته مظاهرة… وكان صديقي المسرحي الشاب محمد الدالي يركب آنذاك من سيدي بوزيد إلى صفاقس لمتابعة عملية الإصلاح، بعدما تعذّر عليّ ذلك لأسباب صحية. ولم يكن لي مبلغ الطباعة كاملا فسددته على أقساط.
3
كتبت في هذه المجموعة خيبات كثيرة وهي خيبات جماعية في تلك الفترة. انتقيت لها شخصيات من فضاءات عراقية وعربية وهي تعيش الأحداث، وهي طبعا شخصيات متخيلة لا وجود لها ولكنها يمكن أن توجد في تلك الأزمنة، من بينها شخصية المسرحي صالح البغدادي، وهذه شخصية عادت في قصة أخرى بعد سنوات وظهرت ظلالها لاحقا في أعمالي السردية الأخرى…
4
بقطع النظر عن كون قصص المجموعة كتبت في لحظات خيبة وإحباط فإنها كانت تجربة متميزة في نظري في الكتابة بالهلوسات والهذيان والأحلام.
ربما هلوسات الكاتب وشخصياته أيضا. فهي شخصيات متأزمة ومنهكة…
فجانب من القصة الرئيسية ينقل أحلام المسرحي صالح البغدادي الذي كان يتخيل نفسه مكرما بعد انتهاء الحرب ويعرض مسرحيه أمام صدام وعدي، ولكنه يجد نفسه يركض باحثا عن بغداد قبل أن يقبض عليه ويصبح محور سؤال أهله وأصحابه:
” أيكون قد باع الأحلام واندس مع المندسين في بقايا القصور؟
هل قتلوه؟ هل مازال سجينا أم أنه الآن يركض مع هؤلاء الذين يبحثون عن فجر بغداد “بالهاون” و”الكلاشنكوف “؟
هل تراه الآن يحلم بعودة الرجال مفتولي الشوارب أصحاب الغمزات الكبيرة إلى التلفزيون؟
أسئلة ظلت بلا إجابة حتى جاءت الصور الغريبة! انه صالح البغدادي! لا ليست صورة تمثيلية، بل هي الحقيقة
كل العالم شاهد بشيء من الغرابة وأصحاب المقهى اكتفوا بالبحث عن قوارير العرق! … صالح البغدادي مع هؤلاء! يعرونه ويهزؤون به. انتهت اللعبة مرّة أخرى!
جاءت صور صالح البغدادي قادمة مع ضحايا معتقل أبي غريب “… كان يقف عاريا أمام أنظار الجندية الامريكية!….”
وبنفس هذه التقنية يجلس سكير عربي أمام قواريره الخضراء متخيلا أنها جنود تستعرض استعدادا لرد الصاع صاعين.
“…ازداد حماسا وصوت أحد الدالفين يهتف:
“أعداد من الجنود تنزل وتحاصر حانة الصحراء”
الأكيد أنهم جاؤوا…
ترك رجال قواريرهم واندفعوا هربا… تعثروا في الطريق وهم يهرولون حتى لا يلحق بهم أحد في حين تأهب آخرون وادّعوا أنهم لن يتركوا أحدا يقترب من المكان…
كثر الضجيج…
لكن النادل اقترب منه وتوقف حذوه…لم يبق أحد… خرج الجميع… ادفع”
آنذاك استفاق على قواريره الفارغة وعلى طاولته الموحشة وحلمه البعيد… تأمل قواريره التي لم يعد لها من معنى… بدت كجنود في الأسر بعدما نزعت أسلحتهم وأحذيتهم وقيّدت أيديهم وما زالوا ينتظرون شحنهم إلى المعتقل… بدت له القوارير أسرى… ولم يجد شيئا من أحلامه… عزّى نفسه: ربّما يدخل صدّام في جلسة قادمة… ثم عدّ النقود ووضعها في يد النّادل ووقف متثاقلا ومضى يتدحرج في الأنهج المظلمة هاتفا في الظلام”. “أطلق لهـا السيف” و”بغداد صامدة” و”ليخسأ الخاسئون”…”
هكذا هي المجموعة من هذه الناحية تكتب شخصيات تطلق العنان لبقايا الحلم العربي بعد ذلك الانهيار، شخصيات تعيش صدمة السقوط المدوي في أحلامها وهلوساتها وخمرياتها…
5
عاد صالح البغدادي ثانية بعد هذه المجموعة بست سنوات 2009 وتصدر مجموعة قصصية أخرى لم تر النور بعد وعاش المأساة من جديد. (نشرت قصة صالح البغدادي ثانية فقط في الشروق) فلعل شخصيته المتخيلة التي هي عصارة تخيلات لم تقنع بالحضور في مجموعة أولى لم تجد الالتفات الكافي ولعلها لم تفرغ من محتواها.
هكذا صافحته من جديد:
” مضت أعوام طويلة منذ تركتك…
يومها كنت قد خرجت من سجن بغداديّ كبير. لم تعرف اسمه ولا مكانه ولا الجريمة التي قادتك إليه وجعلتك ترمى بين جدرانه أشهرا طويلة. وكنت خجولا وحزينا وممزّقا، زادتك حكايات التّعذيب التي نشرتها وسائل الإعلام عن سجن “أبي غريب “مرارة وألما…
يومها تركتُك تركض وتركض في ليل طويل، لا نهاية له. وانسللتُ معلنا نهاية القصّة. لم تعد إلى الرّكح ولم تسأل عن المسرح ومقهى أم كلثوم ومشروبات “شهرزاد” بل ولجت الظّلام ومضيت خلف السّتار واندفعت مع من اندفع بحثا عن فجر آخر لبغداد، بالهاون و”الكلاشنكوف”…كنت مصمّما على طرد الذّئاب
والثّأر لنفسك ولوطنك ولبغداد التي وطأتها أقدامهم بحقد وأوقفوا زناة اللّيل عند شرفاتها وأبوابها. (تضمين للأبيات الشهيرة للشّاعر مظفّر النّواب) …”
6
يحدث أيضا…
مازال المسرحي صالح البغدادي تائها. ليس بصفته محيلا على تلك الشخصية، ولكنه أيضا يحيل على المثقف العربي المطارد والمتلاعب به…
ولكنه أكثر من ذلك…
يظل شخصية تلاحقني من مكان إلى مكان، أرى طيفه في بعض الأصدقاء وأكاد أجالسه… تلك هي الشخصية السردية التي تتحول إلى واقع في ذهن الكاتب، وإذا كانت هناك شخصيات تكتب وتنسى، فإنّ أخرى تظل نابضة وقابلة لولادات جديدة، ولعل شخصية صالح البغدادي واحدة من هذه الشخصيات النابضة في تجربتي وخصوصا قصصي الأولى…



