spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

الشاعر الفلسطيني جميل حمادة: الكتابة بصوت الإنسان الفلسطيني

رياض خليف

اسم شعري التقطته في سنوات انفتاحي الأولى على الإعلام العربي واندفاعي وراء اكتشاف فضاءات فكرية وأدبية مختلفة عن السائد عندنا. كان من الكتاب البارزين لجريدة العرب العالمية، ثمّ التقينا في سيدي بوزيد، أيام أوج ملتقى عامر بوترعة للشعر المغاربي في بداية الألفية، ذكر لي أنه كان ينشر مقالاتي التي كنت أرسلها إلى هناك… ثم عاودنا اللقاء في دورات مختلفة وقد نشأت بينه وبين الجهة ألفة ومحبة حتى إنه نشر في دار القلم لصاحبها تهامي الهاني كتابه الشعري “كنا على عجل” …

يعتبر جميل حمادة أحد الأصوات الفلسطينية المهجّرة. يقيم في ليبيا منذ عقود ويسهم في مشهدها الأدبي باستمرار وله حضور عربي يذكر وقد أثرى المكتبة العربية بجملة من الأعمال الشعرية، منها “أسئلة الهذيان ” و”قصائد من رذاذ المدينة” و”نشيد العطش” و”عرشاقيا نشيد العشق الجميل” و“قصائد الصيف القادم “و”مرايا الروح” إضافة إلى كتبه ودراساته النقدية المختلفة…

يكتب جميل حمادة قصائده وفق أفق حداثي، ولكن حداثته لم تنفصل عن هم الذات والوطن. فهو يرسم في مختلف أعماله حالة من الانكسار والخيبة ويطلق العنان لأسئلة الروح المغتربة والوطن المحتل والأمة المتداعية للسقوط لذلك لا تتأتى الصورة الشعرية عنده من بياض وخواطر ذهنية وأنشطة لغوية وبلاغية مجردة، بل تنشأ من تفاعل جملة من الروافد منها الواقعي والثقافي والخيالي ومن التحام بين الذات والمجموعة والمكان…

إذا كان باب الدخول إلى الكون الشعري لجميل هو فلسطين وأحزان شعبها فإنّ الولوج إلى القصائد يتمّ عبر البحر. فللبحر رمزيّة وصدى في الشعر الفلسطيني عموما… (يحضرني الآن صوت محمود درويش وهو يصرخ:

بحر لأيلول الجديد خريفُنا يدنو من الأبوابِ…

بحرٌ للنشيدِ المرِّ. هيَّأنا لبيروتَ القصيدةَ كُلَّها.

بحرٌ لمنتصفِ النهارِ

بحرٌ لراياتِ الحمامِ،

لظلِّنا، لسلاحنا الفرديِّ

بحرٌ للزمانِ المستعار)ِ

****

مناخ بحري حزين يسود فصائد هذا الشاعر الفلسطيني الغزاويّ الذي لم يطأ أرض الوطن من زمن بعيد، بحر تتواتر مفرداته وصوره ومكوناته. خيال شعري منغمس في البحر ترجمة

لعلاقة الشاعر بالبحر وبعالمه ومكوناته ، فالبحر هو جزء من هويته ومن ذاكرته، يحيل إلى مدينته غزة والى والده الذي اشتغل بحارا وعاش أحداث الاستيلاء على فلسطين وتهجير أهلها وله قصة طويلة مع البحر تحدث عنها جميل ر في حوار صحفي قائلا[1]:”والدي بحار مثقف رائع يتقن ثلاث لغات…ترك السفينة في قريته حمامة على ساحل المتوسط وغادر مع أهله إلى غزة على أمل أن يعود إليها سريعا “وقد عاد والده إلى البحر بعد مراحل مختلفة وبعد مشاركته في التصدي للعدوان الثلاثي “ظل أبي يعمل بحارا في غزة يقف على البحر وكأنه يريد أن يرى حمامة أو أن يرى طائرا يجيئا ليه برسالة من غرفته الصغيرة أو من شجرة الجميز التي ترك كتابه في ظلها أو كرمة العنب التي تركها خلفه”

غادر جميل الوطن وبحاره، ولكن روحه ظلت قريبة من حياة البحر حتى في إقامته الخارجية بطرابلس الغرب حيث ” بيت طرابلسي قديم بتصميم دمشقي. يسكنه فلسطيني-غزاوي، ويقع أمام البحر تماما. تخرج منه يستقبلك البحر. لذا “يحدد البحر مزاج نهارك “فبين الشاعر والبحر حكاية عمر وحالة مشاعر شاسعة. فالبحر صديقه الأزلي. والمرارة تفعل فعلها في روحه، تجتاحه، لكنه ليس نبي المعجزات كي يشق البحر ليصل إلى وطنٍ آخر ،مهتديا بنجمته الوحيدة: فلسطين…” على حد تعبير الناقد الأردني صالح الحمدوني ذات مداخلة. يقول في مداخلته”

هذه الحميمية من شأنها أن تبرر هذا الحضور الكبير للبحر الذي أصبح شيئا من ذات الشاعر وربما جزء من هويته…وقد تجسدت في مظاهر مختلفة منها ما نرصده في العتبات أو في المعاجم والصور الشعرية…

ففي بعض عتبات كتبه ينال البحر نصيبا هاما من الإهداء .يهدي الشاعر” قصائد إلى الصيف القادم” إلى البحر الأبيض المتوسط قائلا “إلى البحر الأبيض المتوسط بمودتي السامية أهدي هذا القصيد” أما مرايا الروح فيهديه إلى شاطئ ازرق بعيد… وأما على مستوى المعاجم فنلاحظ أن الشاعر يستدعي البحر بمختلف تفاصيله حتى يمكن الحديث عن نزعة رومنطيقية بحرية في شعره الذي يعج بكلمات تنتمي إلى عالم البحر مثل السفن والقبطان والصيد وعشبة البحر والشاطئ والرمال والماء…إنها كلمات تصنع لغة الشاعر وتلازمها ولا يعرف القارئ متى تباغته في القصيدة ففي هذا المقطع ينقلب المناخ الشعري من الحرب والمتاريس إلى البحر والرياح والقبطان:

فحين تطبق الدنيا علينا

أو ترسل الذئاب والقلاع

ومتاريس الكلام الحلو

كحلا للمقل

نغدو بأشرعة مثقوبة تهرب الرياح

فيسقط القبطان في الفراغ

أما في هذا المقطع فتنتقل الصورة من الخطاب العاطفي إلى المشهد البحري المتوتر فتحضر مفردات ذات معجم بحري مثل القارب والشطان والمرافئ والأمواج:

سأحملك على جناح القلب

مسورة بحراس من مملكة الريح

سأحملك نحو الفضاء القصي

قاربا بأضلاع هالكة

في مجحرات المياه

سأبلغ المرافئ والسواحل والموج

وكل عاصفة صعبة

لتبطئ دواليب شطآنها الراكضة

 

يتخطى الشاعر الصورة التقليدية البهيجة للبحر باعتباره موطن جمال ومتعة وفرجة ليقحمه في عالم الإنسان اليومي بما فيه من انكسارات ومتاعب ممارسا تيمة رومنطيقية تقوم على إسقاط أحزان الإنسان على الطبيعة وجعلها تتفاعل معه.. فالبحر أيضا يضيق ويصبح خانقا.

“البحر أكبر مما ترى

والسفينة أضيق من فضاءاتها الطاهرة

والعيون البريئة

زيفت مواطن الزهر على

خرائط العشب…”

بل يبدو البحر أحيانا شاهدا على الزمن الفلسطيني:

كم مرثية تتلى

على عتبات هذا البحر

كم أنشودة للسماء العتيقة

كي نسير بلادا

***

يكتب جميل حمادة لسنوات وعقود قصيدة فلسطينية تهيم في الوجدان الفلسطيني، متجاوزا النموذج التقليدي للشعر الفلسطيني المقاوم الذي يعج بخطابات تتوعد العدوّ وترفع راية الصبح القريب متوغلا في المعاناة الإنسانية للشعب الفلسطيني، طارحا أسئلة الإنسان الفلسطيني الوجودية، مكتفيا برسم الألم المتفاقم، مستدعيا نماذج فلسطينية. فإذا شعره يحمل أصداء وأصوات اللاجئين المهجرين قسرا والمبعدين:

” مات الغريب حين يموت

لهفي على هذا الغريب لما يموت

لهفي عليك يا ذا الغريب

حين احتواك غبار البلاد الغريبة”

***

كلما تواصلت مع جميل حمادة سمعت في صوته أنات هذه الأمة العربية المنهكة والم هذا الشعب الفلسطيني المقهور… وكم كان غاضبا في مكالمتنا الأخيرة منذ أيام متحدثا عن حالة الهوان العريضة ومعدّدا الشهداء من الأهل والمقربين…ولكنّه كان مؤمنا بالنصر المنتظر…

****

المقاطع الشعرية من مجموعتين الشاعر “قصائد الصيف القادم” و”مرايا الروح” الصادرتين عن دار حوران للنشر-دمشق2005

spot_imgspot_img