* حاوره: أبو جرير
رمضان العُوري جامعي وباحث أكاديمي في المعهد العالي للعلوم الإنسانية/ جامعة المنار، تونس. وهو من خرّيجي دار المعلمين العليا، قسم اللغة الفرنسية وآدابها. حاصل على الإجازة في اللغة والحضارة الفرنسية وآدابها وشهادة في علم النفس والتّعلميّة وشهادة تكميلية في اللسانيات. له تكوين في البيداغوجيا الإيحائية بباريس وتكوين في المهارات الناعمة وحاصل على شهادة الكفاءة في البحث المعادلة للماجستير في سيميائيات الشعر: أشعار أبّولينار نموذجا. قدم أطروحة دكتوراه في سيميائيات المسرح: أعمال سالاكرو نموذجا. درّس علوم المسرح على امتداد 20 سنة في الجامعة التونسية. درّس علوم الترجمة في المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس (التّعريب والنقل والترجمة بالنصوص والترجمة التعاقبية والترجمة المختصة…)
النشاط العلمي: عضو ناشط ساهم في عديد الندوات الدولية ومنها «كيف نكتب العشق؟»، «تعلم الفرنسية بواسطة المسرح»، «الفنون والترجمة»، «الآداب والهوية». «الترجمة والمسرح والهوية»، «خطاب الصورة»… منشئ الندوة الدولية التي حضرها أساطين النقد المسرحي العالمي حول «نص الممسرحيات على محك القراءة والعرض»، المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس سنة 2007. شارك في ندوات دولية داخل تونس وخارجها في لبنان وسوريا والمغرب والجزائر وفرنسا… بدأ نشاطه الإبداعي تأليفا ونقدا منذ ثمانينات القرن العشرين وكتب في حقول إبداعية مختلفة وعديد المقالات في النقد الروائي والمسرحي باللسانين العربي والفرنسي داخل تونس وخارجها نشرت في مجلات محكمة مثل آداب (القيروان) مجلة الآداب الجامعية (باتنة –الجزائر)، مقابسات (المعهد العالي للعلوم الإنسانية تونس…). كما نُشر له مقال في نقد النقد عن أعمال يمنى العيد في مجلّة الحياة الثقافية. وأعمال إبداعية قصصية نشرت في المجلة نفسها. حاصل عن الجائزة الأولى في النقد المسرحي سنة 2009. وهو بصدد إنجاز عمل تأسيسي حول نشأة المسرح في تونس من منظور أنثروبو-ثقافي.
ويهدف هذا الحوار مع قامة أكاديمية وإبداعية متعددة المشاغل إلى الاطلاع على مسيرة مبدع في صيغة الجمع.
* أستاذ رمضان العُوري، مرحبا بك. كتب رولان بارط قائلا: «لا نقول شكرا لمن نحبّ» فذلك من شأنه أن يخلق ضربا من البرود ويغيّب الحميميّة، ونحن لا نشكرك بهذا المعنى على قبولك إجراء هذا الحوار، بل نرحب بك بكلّ ودّ ومحبّة في رحاب جريدة الشعب. لو تعود بك الذّاكرة وترسم للقراء لوحة بالألوان اسمها رمضان العوري…
– شكرا صادقا من القلب ملؤه المودّة والتقدير على هذا الاهتمام بشخصي المتواضع وبمدوّنتي، شكرا أيضا لكل المسؤولين على جريدة الشعب لما يولونه من أهميّة للمسألة الثقافيّة التي من شأنها بثّ الوعي وتطوير الفكر والذائقة الجماليّة لدى القرّاء.
بخصوص الرّسم، ليس من اليسير أن يرسم المبدع لوحة له لأنّ المزالق كثيرة ولعلّ أخطرها تورّم الأنا الّذي يجبر الذّاكرة على أن تكون انتقائيّة فلا تبرز إلّا ما يفتن أو يغوي. ولكن إن كان ولا بدّ، فسأرسم لوحتي بالكلمات على حدّ تعبير نزار قباني، ناهلا من الأسطورة بعض ألوانها… أزعم أنّني أجد نفسي في أسطورتين: بروميثيوس وايكاروس٬ ففيّ بعض من نزق سارق النّار وعناده، وبعض من إرادة البطل المحلّق نحو الشمس رغم أن أجنحتي من شمع ومهدّدة بالذّوبان وتلك حدود الكائن الإنسان.
باختصار أختزل لغتي وألواني الذّاتيّة في كلمة واحدة هي الإصرار. هذه لوحة أرسمها بعجالة، ولكن أخاف أن يتسرّب إليها الزّيغ كما في لوحة السّفراء للفنّان التّشكيلي أولباين في العصر الباروكي. فتفسّر على غير ما أقصد بالتّلميح إلى العُجب والغرور.
* لو ترسم لنا الآن خصوصيّة مدوّنتك الإبداعيّة بصفتك أستاذا وأكاديميا ومبدعا بعيدا عن التّدقيق والتّحقيق…
– إنّ ما يميّز مدوّنتي أو مشروعي الإبداعي هو سيطرة الفنّ الرّابع على كلّ المسارات الإبداعيّة تقريبا، وحتّى وإن كتبت قصص الأطفال والأقصوصة والقصة البرقيّة، فقد كان ذلك بنبض الكتابة المسرحيّة وإيقاعها. وقد كتبتُ المسرح إبداعا وتنظيرا. فضلا عن تدريسي لهذا الفنّ في الجامعة التّونسيّة على امتداد عشرين سنة. وقد بدأ الافتتانُ بهذا الفنّ من خلال حادثة اعتبرها لحظة فارقة ومؤسّسة في كامل مساري ألا وهي صدمةُ القناع. حدث ذلك حين كان عمري ستّ سنوات تقريبا. لمّا عمد أحد الأقرباء في الكاف إلى وضع قناع كرنفاليّ ضخم على وجهه. فاجأنا به ونحن الصغار نلهو فصرخت رعبا وأنا الطفل الصّغير القادم من أرياف السّرس والذي تعشش في ذهنه الصّغير شخصيات مرعبة خرافيّة «كالغول» و«بو غضوان» و«النّعوشة» ونحوه. هرعتُ إلى أبي رحمه الله واختبأتُ وراءهُ ممسكا بثيابه، وقلبي يكاد يفرّ من بين جنبيّ، حتّى لا يلتهمني الوحشُ، ولكن وجدتُني بعد ذلك أسترق النظر شيئا فشيئا من وراء والدي لأتملّى في ألوان القناع الذي لم أكن أعلم أصلا ما معناه، وشدّتني ولا أدري كيف ألوانُه السّاطعة التي مازلتُ أذكرها بدقّة، الأصفر والأزرق والأحمر، وكذلك التعبيرة التي جاءت في شكل بسمة عريضة جذّابة رغم الأسنان الضخمة… وذلك ما خفّف من روعي. وكانت بداية الغواية… وقد تشرّبت القناع، فتركّز من وقتها في المخيال إلى الأبد… وامتدّت جسورٌ وفضاءاتٌ وأمداءٌ وإيقاعاتٌ… ورُسم قدري الفنيّ… «وتلبّست بالمسرح زمانا وتلبّسني دهرا». وقد تجلّى هذا التلبّس تنظيرا بإصدار «معجم اللّغة المسرحيّة» (بالاشتراك). وهو معجم أعتبره من الأهميّة بمكان، (رغم أنّ النقّاد تجاهلوا هذا الحدث العلميّ) إذ تمّ اثراء اللغة العربية بما يربو عن 900 مصطلح تخصّ النصّ والعرض. وذلك بترجمة المصطلحات الدّخيلة واجتراح أخرى انطلاقا من الطاقات الاشتقاقيّة والتّوليديّة التي تتوفّر عليها اللغة العربية وذلك لهيكلة المفاهيم وتثبيت المعاني.
كتابة خمس مسرحيات: الأولى مِيمُودراما باللسان الفرنسيّ عنوانها «عناقيد النار» 2013
«ڤوّال الكلام» (مخطوط) 2015 «البعبع» 2019 «المِرياع» 2024 «سوناتا الضّفادع» (مخطوط). كتابة قصص أطفال ممسرحة ذات توجّه بيداغوجي تهدف إلى إرساء بيداغوجيا حركية تمكّن المعلّم من وسائط لتحسين الإلقاء والقراءة وتحرير خيال التلميذ وحثّه على التعلّم من خلال المسرح كتابة دراسات موازية أو مساعدة لفهم النصّ المسرحيّ وطرائق مقاربته: «في جماليّة الخطاب المسرحيّ: مغامرة رأس المملوك جابر أنموذجا» (عمل مشترك).
* أنت ناقد وشاعر وقاصّ ومؤلّف دراميّ ومترجم وأكاديميّ. لو نسافر معك في بعض المفاهيم لتحدّثنا أوّلا عن مصطلح سميائيات المسرح…
– سميائيات المسرح أو سميولوجيا المسرح كما بيّنّا في «معجم اللغة المسرحية» هي دراسة لإنتاج الدلالة في الخطاب المسرحي بشقّيْه النص والعرض. فهي تهتمّ بتحليل العلامات اللسانيّة وغير اللسانيّة في تضافرها وتجسيدها على الرّكح في رموز وعلامات بعينها. هذا التّجسيد يتّسق في أنظمة دالّة تُيسّر نقل المكتوب إلى المرئيّ بما في ذلك ما كان مضمرا في النص وهو ما تسمّيه «آن آيبارسفالد» بمولّدات العرض. ومن الأنظمة الدالّة نذكر الخطاب الحركي أو لغة جسد الممثّل ونظام الأشياء أو المتمّمات الزخرفيّة ونظام الإنارة واللباس وهي في ترابطها واشتغالها وتفاعلها تنتج المعنى ومعنى المعنى، «للوصول إلى فهم الأشياء» كما حدّد ذلك الفيلسوف جون لوك وهو أوّل من استعمل المصطلح في كتاب له بعنوان «طبيعته الفهم». وبعد ذلك تطوّر المصطلح مع «جوليا كريستيفا» و«رولان بارط» ومن قبلهما إلى شارل ساندرس بيرس٬ وغيرهم كثير.
والملاحظ أنّ ما يميّز العلامة المسرحيّة عن غيرها هي أنّها مُصطنعة وهي سمتها الأساسيّة حتّى لو كانت أيقونيّة، مرجعيّة. ومردّ ذلك أنّه يقع انتخابها أو اختيارها واستعمالها على نحوٍ ما، وفق قواعد وسُنن جماليّة يضبطها المخرج وكلّ المشتغلّين على العرض، وهذا التوظيف المقصود في الكون الدراميّ يُكسب الأشياء معانيَ مُغايرةً لما في الواقع حتّى لو كانت استنساخيّة… مما يثري التأويل فالملْعقة في مسرح الأشياء يمكن أن توظف كسيف أو مجذاف أو عقربِ ساعة، فتتخلّى بذلك عن بعدها الأيقوني كملْعقة وتستحيل رمزا… بعبارة أخرى لا يمكن تفسير العلامة المسرحيّة خارج السياق وخارج الاستعمال والتوظيف.
* وماذا عن سيميائيات الشعر؟
– هي مقاربة بنيويّة علاميّة تقوم على دراسة منهجيّة لكيفية إنتاج المعنى في الشعر، وذلك بتحليل المبنى والمعنى لفهم كيفيّة اشتغال النصّ الشعري كأنظمة دلالية تفتح آفاقا في التأويل رحبة٬ ولعلّ أجود دراسة في هذا السّياق التي شكّلت منطلقا للدراسات السيميائية الشعريّة رغم أنّ البعض يقصرها على البنائيّة، هي مقاربة قصيد «القطط» لشارل بودلير التي قام بها رومان ياكوبسون وكلود ليفي ستراوس. وهي دراسة بنيويّة سيميائية تبحر في العلاقات بين عناصر القصيد لتكشف بنيته العميقة والدلالة القطط الرمزية الكامنة فيه وذلك انطلاقا من دراسة الثنائيات والتّآلف والتخالف. وقد شملت الدراسة العلاميّة الكلمة والصورة الشعريّة وبنية النصّ وتفاعل العلامات في ما بينها لتنتج رموزا ودلالات.
* وماذا عن الترجمة؟
– الترجمة التي خبرتها تدريسا في رحاب الجامعة التّونسيّة هي علم قائم بذاته يتضمن مقاصدَ كثيرةً منها الغوص في تاريخ الترجمة ونظرياتها المختلفة وأنواعها وطرائقها كما تهدف إلى فهم كيفيّة نقل المعنى بطرائق مناسبة. من اللغة المصدر الى اللغة الهدف، وذلك أيّا كانت أنواع الترجمة (تحريريّة، ترجمة بالنّصوص، مختصّة، تعاقبيّة، فوريّة الى آخره…). كما تهدف علوم الترجمة إلى بيان أهميّة الفعل الترجمي في فهم الآخر ونقل المعارف والمعلومات من لغة الى أخرى وإرساء حوار الثّقافات. وينجرّ عن ذلك إثراء اللّغات بكمّ هائل من المصطلحات المتبادلة بما يمكّن من نهضة ثقافيّة وحضاريّة بيّنة ولنا في تأثير الفعل الترجمي على الحياة الفكريّة والثّقافيّة في العصر العبّاسي خير دليل.
* يقال إنّ الابداع مَهمّة شاقّة بوصفها نشاطا ذهنيّا متمايزا لفئة من الأشخاص. ما هي ملامح الإبداع والمبدع وحدود وظيفتيهما؟
– فعلا٬ الإبداع مَهمّة مُضنية ونشاط ذهني متمايز لفئة محظوظة من الأشخاص كما تفضّلتَ. وكما يقول الفرنسيّون ليس بإمكان من هبّ ودبّ أن يكون موليير. أقول إنّه ليس من السّهل أن يكون الإنسان مبدعا ما لم تتوفّر لديه مَلَكة الإبداع وشروطُه من قدرة على الابتكار والخلق وارتياد أكوانٍ لم ترسم خرائطها بعدُ، وامتلاك أدواتٍ جماليّة راقية وفريدة ومستحدثة لرسم هذه الأكوان… الفنّان المبدع الحقّ يكون في حالة مخاض دائم وفي تَرحال دائب مثلُه مثل المسْتكشف الذي يُوغل في فضاءات غير معروفة رائعة وطريفة ينبهر بها وينقلها ليُبهِر بها العالم. أكوان تخرج من بين أصابع المبدع كطين الخزّاف ليّنة مِطواعة وقد روّضها في عمليّة الخلق. وأستثني هُنا طبعا التّسطيح والنّمذجة والتّحنيط والاجترار لأدعياء لا ينقلون إلّا صورا باهتة ومفكّكة لا علاقة لها بالإبداع في شيء. كما أستثني أيضا «الإبداع» الذي يتّكئ على الذّكاء الاصطناعي والذي يستعمله أشباه المبدعين لتحقيق طَفرة من إنتاج مُفَبرك لا روح ولا صدق فيه موغلين بذلك في الإبداع المزيّف.
* الإبداع عموما تمرينٌ على النّقد. ما هي أهمّ النّصوص التّونسيّة المشعّة التي تناولت مسألة قضايا الوطن والمواطن؟
– قضيّة الوطن والمواطنة هي من القضايا المحوريّة في الأدب التّونسي وفي فنون كثيرة بصفة عامة وهي تُطرح باستمرار وبطرائق مختلفة بُغية التّوعية والعمل على تحرير الإنسان وتعزيز انتمائه والطموح إلى إرساء قيم بديلة إيجابيّة وإلى مجتمع أفضل…
والأمثلة كثيرة في كافة الفنون… وسوف أكتفي ببعض الأمثلة على سبيل الذكر لا الحصر، وإن كنت سأُجحف في حقّ مبدعين كثر… ففي الشعر نذكر علَمين بارزين: أبا القاسم الشابي الذي تميّز شعره بالتركيز على قضايا الحرية والانتماء والوطنيّة. ومحمد الصغيّر أولاد أحمد الذي تركّزت أعماله على الوطنيّة الصّادقة وعلى أهميّة الحريّة والكرامة وبخصوص الرّواية فالقائمة طويلة بدءًا بأعمال العروسي المطوي وصولا إلى أعمال آمنة الرميلي على سبيل المثال التي تعكس تطلعا نحو مجتمع أكثر عدالة وشموليّة حتّى تتعزّز روابط المواطنة. وفي المسرح نشير إلى أعمال الأقطاب الفاضل الجعايبي والمنصف الصّايم وعز الدين ڤنّون ونور الدين الورغي والفاضل الجزيري… والقائمة تطول أيضا.
* كثيرا ما يعاني المبدعون من الإسقاط المنهجيّ. ونعلم أنّ لكلّ دراسة نقديّة يصدرها صاحبها يصحبها مِهاد نظريّ يمثّل في بعض الأحيان حيزا مهمًّا على حساب الدّراسة التحليليّة نفسها… كيف تنظر إلى هذا الإشكال؟
– يؤسفني قبل أن أردّ على هذا السؤال أن أقول بكلّ مرارة بأنّ النقد الرصين الحق غائب أو يكاد في الساحة الثّقافيّة التّونسيّة، فنحن بين فكّيْ رحى إمّا نقدٌ أكاديميّ متعالٍ وموسميّ نُخبوي وغير مواكب لكل الإصدارات في شتّى الفنون٬ وإما نقد مُمَالَأَةٍ وإخوانيات يجمّل ويزيّف الحقائق، وفي الحالتين لا نتمكّن من مواكبة الحركة الإبداعيّة التي لا تتطوّر إلا بالفعل النقدي٬ ولا نفرز الغثّ من السّمين٬ والحلّ يكمن في تدريس النقد في الجامعات بصفة علميّة ورصينة وموضوعيّة٬ ومأْسسته وتكوين لجان قراءة مختصّة في دور النشر، حتّى لا تنشر إلا الآثار الإبداعيّة المميّزة وغير التّافهة. وإذا لم نفعل ذلك، سنمرّ مرّ الكرام على آثار جديرة بالدّرس، يلفّها النسيان ولن نفيد منها.
وفي ما يتعلّق بالإسقاط المنهجيّ أرى أنّ الإشكال ليس في استيفاء الشروط المنهجيّة العلميّة من مِهاد نضري وتطبيق على النصّ، فذلك ما درجت عليه الدّراسات العلميّة… ولكن الإشكال يكمن في ملاءمة الدّراسة للنصّ موضوع الدّرس من عدمها. ففي كثير من الأحيان يتمّ إسقاط الدّراسة على النصّ، فيحشر في لباس ضيّق يتلف منه الكثير من المعاني ويضيّق من خانة التّأويل٬ ذلك أنّه يتمّ إغفال سلطة النصّ٬ فلكلّ نصّ كما يقال سلطته وسلطانه٬ والمقاربات المفيدة هي التي تعتمد المحايثة أي أن نسير حيث يوجد النصّ ونستمع لهسيسه على حدّ تعبير «رولان بارط»، ونتملّى في بنائه وأنساقه ولغته الخاصّة به حتى نعثر على مفاتيح التأويل الحقيقيّة، وذلك من شأنه أن يحُول دون قراءة قسريّة تُفرض فرضا…
* يعدّ مصطلح الأزمة الأكثر تداولا واستخداما وانتشارا في جميع مناحي الحياة. هل طالت الأزمة الفكر والعقل التونسي؟
– الأزمة أزمات في الحقيقة. ولقد طالت الفكر والعقل التونسي. قد يبدو هذا القول متسرّعا ويتطلّب دراسات عميقة للوقوف على حجم الأزمة وتضاريسها، ولكنّ الظاهرة موجودة ويمكن أن تستفحل إذا رافقها تصحّر ثقافي…
ولكن الأزمة ظاهرة صحية إذا واكبها وعي عميق بجذورها وأسبابها وطبيعتها… فالحركيّة الثّقافيّة والفكريّة لا تكون إلا بتجاوز الأزمات وهذا موكول إلى جمهور المثقّفين ورجالات الفكر والمبدعين. وخير دليل على ذلك الطّفرة التي حدثت في الرواية مثلا بعد أحداث «الثورة التّونسيّة» وما آلت إليه من عمل جماليّ سعى إلى تعرية الأزمة وتجاوزها.
* يقال إنّ المثقّف الذي لا يتحسّس آلام شعبه لا يستحقّ لقب مثقّف. هل أنت غرامشيّ في الإبداع والنقد والحياة؟
– فعلا٬ المثقّف المنقطع عن شعبه والّذي لا يتحسّس آلامه لا يستحقّ لقب مثقّف لأنّ دوره الأساسي هو تسجيل آلام هذا الشعب، وعكسها في إبداعاته بكلّ صدق والحفر عميقا من أجل بثّ الوعي وتطوير أساليب التصدّي الفكريّة والثّقافيّة… والمهمّة أصبحت عسيرة اليوم بعد سيطرة حضارة الصّورة والعزوف عن قراءة الكتاب الورقي القائم على حضارة الحرف… وهذا الحفر، رغم العنت، هو ما أعمل عليه بكلّ تواضع في كلّ أعمالي حتّى الموجّهة إلى الطفل فجلّها قائم على الأمثولة وعلى منظومة قيميّة إيجابيّة بدأنا نفقدها إثر تغوّل الوسائط الاجتماعيّة والغوص في وحل ثقافة التفاهة والاستهلاك والتسطيح. ولا أزعم هنا أنّني مثقّف عضويّ بالمفهوم الغرامشي من وجهة نظره السوسيو-ثقافيّة٬ فذلك شرف لا أدّعيه ولكنّني أمارس دورا أعتبره حيويّا الى حدّ ما في تكوين وبناء الأيديولوجيات، وذلك برفض ما يكبّل الإنسان ويفرغه ممّا يكون به إنسانا، دون التحيّز إلى طبقة اجتماعيّة بعينها. وفي هذا السّياق تستهويني دائما مجازيا صورة الشّمعة التي ترمز إلى المثقّف في آلامه وآماله وأفعاله، وربما هو تصوّر رومنسي حالم، ولكن ما يشفع له هو صدقه، فالمثقف شبيه إلى حدّ كبير بجسد الشّمعة الهشّ الذي يذوب ويتلاشى كلّما صهرته النّار باحتراق الخيط القطنيّ الرّفيع داخله٬ ولكنّه يَخلُق وهو يذُوب دوائر من ضوء شفيف وقبل أن تسلم ذؤابته المضيئة الروح، تقفر وتستقرّ نورا في محاجر المتلقّي. قدر المثقّف ومدار حتميته هو أن يحترق ليُضيئ.
* لو نسألك عن الرّاهن، وتحديدا عن المجازر التي يقوم بها الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني في غزة أمام صمت وخذلان وتواطؤ القادة العرب ودعم الدّول الغربيّة…
– لقد فتَحتَ جرحا نازفا… إنّ ما يجري في غزّة وتنقله يوميّا شاشات العالم كارثة لا حدود لها، وإفلاس للقيم الإنسانيّة وتوحّش للعولمة البغيضة… شعب يُحاصَر ويُجوَّع ويُباد ويُقتَل يوميّا بالطائرات والقنابل وفي مصائد الغذاء، بمباركة من عتاة الصهيونيّة العالميّة، وتواطؤ من أغلب القادة العرب والمطبّعين منهم بالخصوص…
نحن يا سيّدي في زمن الاستحمار والاستبلاه الصّفيق والخصاء السّياسي الذي فرضته الصّهيونيّة. كل قائد مطبّع هو «نبريج» «مرياع»، يتظاهر بأنّه فحل جدير بقيادة القطيع في حين أنّه ليس جديرا بذلك…

لقد ولّى زمن الفحولة بالمعنى الأيديولوجي وأصبح الجميع يمشي على إيقاع الحافر
وقد قالت إحدى شخصيات مسرحيتي «المرياع» في هذا الصّدد متّجهة بالقول إلى جمهور الصّالة:
«قرّب منّي… منّي قرّب
ادْنُ واسمع ولا ترهب
قرّب وضع الحافر على الحافر
فالكلّ شرقا أو غربا يحكمه إيقاع الحافر
المتسلّقون، ولاعقو أحذية مولانا، ونخّاسو السياسة والمتصهينون والمتأمركون والمتأتركون
وحتّى لحيّ العتاريس٬ كلٌّ يحكمه إيقاع الحافر».
* لو كانت الحياة كتابا يعود ونقرؤه متى شئنا حتّى نستخلص المستقبل من التّاريخ، ما هي أهمّ مرحلة في مدوّنة الأستاذ رمضان العُوري؟
– إنّ أهمّ مرحلة في مدوّنتي أو مشاريعي الإبداعيّة يمكن للقارئ استخلاصها هي التصدّي لمساوئ النظام العالمي الجديد والعولمة البغيضة وما أفرزته من تهديد للكيان وإنسانية الإنسان. عبّرت عن ذلك في أعمالي الدرامية بأشكال مختلفة من خلال أمثولات ايديولوجيّة ولبوس درامي معيّن وقد وسمت هذه المساوئ بمرض البعْبعة وثقافة القطيع التي وعيت بها انطلاقا من لوحة فنيّة تشكيليّة للفنان السريالي البولندي توماس آلان كوبيرا وعنوانها «ديزارتر» أو الخروج عن القطيع.
وثقافة القطيع القسريّة التي يفرضها النظام العالمي الجديد والتي تناولتها في ثلاثيتي «البعبع٬ والمرياع٬ وسوناتا الضفادع»، تعني النمذجة والتعليب والاستيلاب، استيلاب الإرادة والفكر وعدم القدرة على التصدّي وتثوير الواقع المأزوم ومن ثَمَّ الغوص في وحل الإلغاء، إلغاء الذات وكيان الفرد والجماعة على حدٍّ سواء. كما أنّها تفضي إلى هيمنة التشيئة حتّى أنّ الإنسان ليكون شبيها بدمية يحرّكها مقماق عملاق وخفيّ بيده من الدّاخل، ويوهم أنّها تنبض بالحياة ويتكلّم من بطنه دون أن يفتح شفتيه، ويوائم بدقّة بين كلامه وحركة الدمية، فيُخيَّل إلى الرائي أنّ رئيس دولة ما يتكلّم وأنّ نائبا برلمانيّا في دولة أخرى مستضعفة يخطب تحت قبّة البرلمان، في حين أنّ الأمر ليس كذلك فهما ليسا إلّا مجرّد أرجوزين يحرّكهما مقماق ماكر باقتدار ودهاء كبيرين ويملي عليهما ما يقولان ارتهانا لإرادة الشعوب الضعيفة وطمسا لأمنها الهوويّ. هذا المقماق الماكر هو النظام العالمي الجديد القائم على القطبية الواحدة والعربدة وأوليغارشيا رأس المال المتوحّش وأدواته وأجهزته التنفيذيّة كمجلس الأمن ودوائر الصهيونيّة العالميّة السيّاسيّة والماليّة وغيرها… وفي الختام أقول إنّ الوعي هو قطب الرحى ومثله «مثل الشمس فإذا ما أضاءت وانتشر نورها على الأشياء والعالم فهي قادحة للتّغيير» وتقويض كلّ المشاريع الاستعماريّة والامبرياليّة…