حاوره: منتصر الحملي
الدكتور جلول عزونة جامعي اختص في الأدب المقارن، له عشرات المصنفات بحثا وتحقيقا وإبداعا… يجمع بين السياسي والمثقف… من مؤسسي الوحدة الشعبية ورئيس رابطة الكتاب التونسيين الأحرار ورئيس الحزب الشعبي للحرية والتقدم وعضو المجلس المركزي للجبهة الشعبية…وعضو المجمع التونسي بيت الحكمة… رجل متعدد تراه في جل المنابر مجادلا من أجل الكلمة الحرة، جريئا صريحا في ذاته ونصه يذكرنا بكبار الفاعلين في الوعي والواقع… تلتقيه صفحات «منارات» في هذا الحوار الخاص…
* باديء ذي بدء، من هو المثقف من وجهة نظرك؟ وما هي خصوصياته ووظائفه؟
– المثقف له تعريفات متعددة حسب الثقافات والحضارات والأزمنة المختلفة، من رجل الإدارة في الصين…. إلى الأديب الآخذ من كل شيء بطرف في حضارتنا العربية الإسلامية، الى الأديب الملتزم في أوروبا في القرن العشرين، إلى المثقف العضوي عند قرامشي، ومع هذا، وفي مجتمعنا التونسي اليوم، مازلنا نحتفظ بوهج قيمة المتعلم والمثقف رغم تغير سلم القيم والأولويات وطغيان الجانب المادي في هذا الظرف الصعب الانتقالي والمثقف حسب رأيي هو الذي يحمل الهمّ الوطني في داخله وينشغل بمصير المجموعة التي يعيش معها ويحلم لنفسه ولها بالكلمة الطيبة والتبشير بالتغيير المستمر رغم المعوّقات والاحباطات وهو بكلمة بسيطة من لا يرمي المنديل مطلقا ويمثل ذلك العنصر الكيميائي المهاجم للرداءة والنزعة المحافظة في عقلية المواطن والإنسان، فيساهم في تهرئتهما شيئا فشيئا…. ويهيء لبروز إنسان جديد أكثر مرونة مع إملاءات الحاضر المتجدد.
وقد يرى المواطن العادي في المثقف الإنسان الغريب والخارج من السرب والدونكيشوتي الحالم بالمستحيل، ولكن هذه النظرة لن تحول دون مواصلة المثقف لدوره الاستفزازي في دوائره القريبة والبعيدة وجوهر وظيفة المثقف هو في هذا الإصرار وفي هذا المنهج المثور والثائر…..
* أنت كاتب وباحث ومحقق وقصاص وفي نفس الوقت رجل سياسة ومناضل في الجبهة الشعبية، إلى أي مدى استطعت أن تحافظ طوال مسيرتك على خصوصية المثقف فيك دون أن تضحي بها لفائدة السياسي أو الحزبي ؟
– يُشتمُّ من السؤال، أن السياسة والاشتغال فيها قد يفرضان تنازلا عن المباديء وهذا فهم شائع – للأسف – لدى البعض في بلادنا وهو فهم لا يستقيم… هناك فهم أسمى وأنبل وهو أن تكون السياسة نضالاً من أجل المصلحة العامة أولا وأخيرا والفهم بأن مردود ذلك النضال سيعود بالفائدة المشتركة على الجميع – على البلاد وعلى المناضل نفسه – ومن ذلك ثراء النسيج الجمعياتي ببلادنا والثراء الحزبي الذي ينطلق من دفع اشتراك سنوي في المنظمة أو الحزب والمشاركة في الأنشطة والحضور فيها والمساهمة ماديا ومعنويا عند الاقتضاء من أجل إنجاح حملات دورية وتحقيق أهداف آنية أو آجلة.
كنت منذ طفولتي أحمل هذا التصور الواضح في ذهني لضرورة المساهمة في الشأن العام وأنا أنتمي إلى عائلة دستورية كان أبي وأخوايَ الكبيران يحرصون على تجديد اشتراكاتهم في الحزب الاشتراكي ويحضرون أغلب أنشطته زمن الاستعمار الفرنسي وقد تلقيت درسا عميقا جدا ومباشرا في آخر جانفي 1952 حين اعتقلت فرنسا – في نفس اليوم- خالي «عضو المجلس الملي للحزب – اللجنة المركزية-» وأخي الأكبر ومدير مدرستي ومعلّمي للغة الفرنسية وزوج أختي وزوج خالتي ضمن أكثر من خمسين من المناضلين من منزل تميم، ثم رأيتهم يُطلق سراحهم ويعودون بالزغاريد والإنشاد، بعد أقل من سنتين، فتلقيت الدرس الكبير «النضال ايجيبْ»، كان عمري عندها عشر سنوات، وبقيت تلك القناعة راسخة في أعماقي الى اليوم – وقد تجاوزت السبعين – وأنا في نشاطي السياسي والثقافي أومن بالعطاء، دون حسابات سياسية ضيقة وآنية.
كنت أعتقد ومازلت أن النضال في أي ميدان منها النقابي وقد تحملت عضوية المكتب الوطني لنقابة التعليم العالي زمن أحداث الخميس الأسود 26 جانفي 1978، ومنها الثقافي والسياسي وهو التشبث بالمبادئ وعدم الحياد عنها – رغم إكراهات المرحلة – وأن تبقى الروح النضالية هي السائدة أذكر نفسي بها كل حين تجنبا للانزلاقات وخوف الانحرافات والإغراءات وهي كثيرة، من السلط أو من العائلة… فحاولت – وقد أكون نجحت في ذلك – أن تبقى حيرة المثقف حية في داخلي فمن ذلك :
أ: وأنا أرأس تحرير جريدة الوحدة من 1981 إلى 1988 لسان حزب الوحدة الشعبية – الذي ساهمت في تأسيسه – حاولت أن أفرض على زملائي أعضاء المكتب السياسي تخصيص ملحق ثقافي بالجريدة وهذا ما تمّ فعلا.
ب: تخصيص فضاء ثقافي في الصفحة الأولى للجريدة ومن ذلك إصدار مقتطفات مهمة من قصيدة المرحوم «محمد الصغير أولاد أحمد» سنة 1984 – نشيد الأيام الستة – وذلك بُعيْد مصادرة ديوان الشاعر الحامل لنفس عنوان القصيدة تعبيرًا منا عن رفض مصادرة الإبداع ومساندة للشاعر وقد بقي الديوان مصادرا من 1984 الى سنة 1988.
ج: محاولة أن يكون للحزب الشعبي للحرية والتقدم برنامج ثقافي – بعد الثورة – وذلك في شكل محاضرات ولقاءات ثقافية في كامل تراب الجمهورية ومحاولة أن يكون للجبهة الشعبية حضورها الثقافي بتنظيم ندوات وموائد مستديرة والإستعانة بالخبراء ومساندتها للمبدعين والمثقفين وفضح ممارسات الظلاميين والتصدي لهم فيما حصل من تهجمات على «النوري بوزيد، حمادي الرديسي، زياد كريشان، آمال قرامي، سينما أفريكا، العبدلية… ألفة يوسف، رجاء بن سلامة، يوسف الصديق، محمد الطالبي…».
د: وفي نطاق رابطة الكتاب الأحرار حاولنا بعث هيكل جامع مع المسرحيين «عز الدين قنون» ومع التشكيليين «عمر الغدامسي» والسنمائيين الهواة منهم والمحترفين ونقابة الموسيقيين ونقابة كتاب تونس «لسعد بن حسين»… ورغم أن هذه المحاولة لم تنجح – لا قبل الثورة ولا بعدها – فإن الأمل لم يفقد وسنواصل المحاولة…
وبكلمة موجزة فإن الحفاظ على الثبات – كمثقف يحمل الهمّ الجماعي- ليس بأمر سهل على مناضل سياسي لذلك إن الجمع بين الحقلين يدفعني دائما إلى اليقظة حتى لا يطغى الواجب الآني والتزاماته على الحلم الكبير للمثقف الذي يسكنني وهو الارتقاء بالحلم الجماعي – ولو كان ذلك على مراحل -.
* يتحدث بعض المفكرين الغربيين، منذ ظهور العولمة وانتشارها على موت المثقف بالمفهوم الكلاسيكي الذي ترك مكانه للخبير أو التقني… هل مازالت مقولة المثقف العضوي صالحة للمرحلة التاريخية التي تمرّ بها الإنسانية اليوم ؟
– نحتاج دائما إلى خبرة الخبراء وتخصص التقنيين اليوم أكثر من أي وقت مضى، بحكم تشعب الحياة وتعقيداتها وتطور العلوم والتقنيات، فنحن في حاجة باعتبارنا سياسيين ومثقفين لاستيعاب – ولو جزء – من هذه المكتسبات المستحدثة من ذلك مثلا لابد لنا من درس وتأهيل في تعاملنا مع الإعلام واستعماله وكذلك عند ضبط البرامج السياسية والثقافية لا بد من اللجوء إلى الخبراء أصحاب التخصص الدقيق وهو ما نلجأ إليه بانتظام في الجبهة الشعبية مثلا عند إعدادنا الخطوطَ العريضةَ للتصدي للمديونية أو الجباية وكيفية ضبطها وإدخال جرعة من الديمقراطية والعدالة فيها أو عند محاولة ضبط الطرق السليمة للتنمية الجهوية أو عند اقتراح مشاريع قوانين فلا بد من الاستعانة بالخبراء…
الشيء نفسه بالنسبة إلى الثقافة، فالرجوع لأهل الاختصاص في ميادين التنشيط أو التسويق أو الصناعة الثقافية أو ضبط حقوق المؤلفين أو النشر والتوزيع… ومع كل هذا فإن دور المثف لا يمكن أن يُلغى لأن المثقف العضوي يتجدد فيعتمد ما يضيفه إليه التقني والخبير من زاد ضروري لكنه يبقى الحامل للحلم والمستشرف للآفاق الجديدة والمتجاوز للممكن يبقى ذلك الانسان القلق المهووس بالآتي والفيلسوف الحائر المقلب للأسئلة الأزلية الحارقة والمستجدة: من أنا، إلى أين، مالعمل؟ ما مصير البشرية؟ وأي طريق أسلم لتحقيق الأحلام؟ وكيف نقلص الأضرار وكيف نسعى إلى تحقيق السعادة للإنسان الآن وهنا؟
* يتهم البعض المثقف التونسي خصوصا والعربي عموما بأنه منبتٌّ عن واقعه وغير فاعل فيه، ويستدلّون عن ذلك بضعف مشاركته فيما سُمّي بالربيع العربي إبان الثورة وخلال المسار الثوري، الى أي مدى يصح هذا الاتهام؟ وما هي الأسباب حسب رأيك؟
– إن المفهوم العادي والشائع للمثقف ينطبق على ما ذهب إليه السؤال وهو توصيف الانبتات وذلك تماشيا مع المفهوم الماركسي للمثقف البرجوازي، ذلك الخائن لطبقته والساعي إلى الالتحاق بالطبقات المحظوظة حتى يتمتع بالجاه والمنزلة الاجتماعية والنفوذ السياسي والاقتصادي فيتنكر المثقف بهذا المعنى لأصله الشعبي الفقير ويطمح إلى اللحاق بمن هم أعلى منه طبقيا ويتناسى دوره الأصلي في الارتقاء بمواطنيه والدفاع عن قضايا العمال والفلاحين والطلبة فيصيب نظره الحول لأنه لم يعد ينظر إلى الأسفل بل إلى ما ليس بحوزته فيعشى بصرُه ويضَلَّ الطريق إلى نفسه وشعبه… وهذا عشناه في تونس خاصة قبل الثورة، ويكفي أن نتذكر صائفة 1910 والقائمات الألفية المناشدة لبن علي للترشح مجددا لانتخابات 2014 وهو مازال خارجا لتوّه من انتخابات 2009، انتخابات ضد الدستور الذي مكنه من ثلاث ترشحات فقط 89/94/99 وكان عليه أن لا يترشح من جديد سنة 2004 ولكنه حوّر الدستور على مقاسه وكذلك فعل سنة 2009 وقد حوت تلك القائمات عددا كبيرا من المثقفين والإطارات العليا في الدولة وأذكر هنا بالخصوص قائمات الكتاب والأدباء والجامعيين وهي أكبر القائمات نسبيا مقارنة بالقطاعات الأخرى من فلاحين وصناعيين ومحامين وتجار…
وهذا أكبر دليل على تورط المثقف مع السلطة القائمة. ولكن هذا التعميم يجب أن يُنسَّب فإن كان أغلب المثقفين قد اختاروا السلامة والمهادنة فإن أسماء أخرى قد ناضلت ضد الدكتاتورية زمن بورقيبة وبن علي وحتى زمن الترويكا فمن الكتاب لا بد من ذكر «فاتح والي» صاحب رواية مولد البطل الذي سجن في عهد بورقيبة، والشاعر منور صمادح وعز الدين المدني صاحب الإنسان الصفر وحسن بن عثمان صاحب عبّاس يفقد الصواب وهشام القروي صاحب رواية نون وآدم فتحي صاحب ديوان «نشيد النقابي الفصيح» «وقد صُودرت هذه الكتب زمن بورقيبة» وبعدها استفحلت ظاهرة حجز الكتب ومنع المسرحيات والأفلام زمن بن علي وبلغت العشرات «راجع كتابينا الحرية أولا… الحرية دائما… ضد الرقابة على الإبداع دار سحر 2013 – وعار الرقابة – دار سحر 2015» وفيهما قائمة الكتب المحجوزة ومقالات ودراسات تعريفية بأغلب تلك الكتب كتبتها زمن بن علي ونشرتها في الجرائد التالية الموقف /مواطنون/ الطريق الجديد. وهنا لا بد من ذكر توفيق بن بريك وإيقافه ومحاكمته واضطراره إلى نشر كتبه خارج تونس… ونذكر بدور رابطة الكتاب الأحرار وبأدوار كل من جلول عزونة والشهيد الشاعر شكري بلعيد والشهيد الشاعر الفاضل ساسي والدكتور الكاتب المنصف المرزوقي ومن المحامين ما قام به كل من فوزي بن مراد وراضية النصراوي وعبدالناصر العويني وفاضل محفوط والبشير الصيد ومحمد عبو وجلال الزغلامي… وغيرهم يُعدّون بالعشرات.
ولا ننسى دور السياسيين المثقفين والكتاب منهم بالخصوص: حمة الهمامي وعبدالرزاق الكيلاني ومحمد الكيلاني وأحمد ابراهيم وعبدالرزاق الهمامي وعبداللطيف عبيد وأحمد الخصخوصي والشاعر بوجمعة الدنداني وعبدالجبار المدوري وخيري الصوابني والشاعر سمير طعم الله والشاعر المناضل الطاهر الهمامي…
وكذلك المثقفون الذين عمروا الجمعيات والنقابات ونذكر منهم محمد الجابلّي ونورالدين الشمنقي وعلالة حواشي… «في رابطة الكتاب الأحرار» وخالد الكريشي وعادل معيزي «في هيأة الحقيقة والكرامة» وشكري لطيف…» جمعية مناهضة التعذيب»… والقائمة طويلة دون شك.
وهذا ما جعل من بلادنا تونس العزيزة في طليعة الدول العربية التي عرفت التعددية السياسية والحيوية الاجتماعية المبكرة منذ أواخر القرن التاسع عشر «بعهد الأمان» ودستور 1861 وبعث «مجلة الحاضرة» و«الجمعية الخلدونية» وإلغاء الرّقّ والعبودية 1846 وبعث أول منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان في البلاد العربية والإفريقية…
ومع كل هذا، فإن على المثقف التونسي والعربي الانغراس أكثر في واقعه والعمل على تغيير مجتمعاتنا – المحافظة جدا – والدفع بها نحو عقلانية أكبر ونحو التنوير الفكري والتربية على تطوير الملكة النقدية لدى المواطن العادي حتى تصبح خبزا يوميا.
* منذ نشأة الدّولة الوطنيّة في تونس كانت العلاقة بين السّلطة والمثقّف على مرّ العقود متوتّرة. انطلاقا من تجربتك الطّويلة في المجالين الثّقافيّ والسّياسيّ ما هي مآلات ذاك الصّراع على واقع الثّقافة والمثقّف؟
– هناك محطّات مهمّة في هذا الصّراع الأزليّ بين المثقّف والسّلطة في بلادي كما في بلاد العالم. وأذكّر هنا بمصادرة مجلّة L’Action بعد مقال عن حكم بورقيبة الفرديّ (محمّد المصمودي والبشير بن يحمد)، وبطرد الدّكتور هشام جعيّط من كلّيّة الشّريعة وأصول الدّين بعد مقال له بعنوان Les arrivistes sont arrivés وبحلّ الشبكة الجمعيات المستقلّة الّتي لعبت أدوارا مهمّة زمن الاستعمار، وكلّ الجمعيات الأخرى في تونس (الثّقافيّة والأدبيّة والخيريّة والطّالبيّة…) عند إحداث وزارة الثّقافة أوائلَ ستّينات القرن الماضي، وما تبع ذلك من إحداث لجان ثقافيّة وطنيّة وجهويّة ومحلّيّة معيّنة ومنصّبة وتابعة وبالتّالي الإبعاد التّامّ للأصوات المستقلّة والمعارضة وتدجين المشهد الجمعياتيّ والحزبيّ لفائدة الحزب الواحد الأوحد.
ولابدّ من التّذكير هنا بتجنّد عدد قليل من المثقّفين والنّقابيين ضدّ محاولة هيمنة الدّولة على الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل بعد 26 جانفي 1978 (بيان المثقّفين الصّادر بجريدة الرّأي والممضى من عشرة جامعيين نذكر منهم بالخصوص المرحوم صالح القرمادي والمرحوم صالح المغيربي ود. حمّادي الشّريف وتوفيق بكّار وعبد المجيد الشّرفي…)، وبصمود نقابة التّعليم العالي والبحث العلمي ضدّ «الشّرفاء» المنصّبين على رأس قيادة الاتّحاد… كما لا ننسى دور رابطة الكتّاب الأحرار ونقابة كتّاب تونس منذ انبعاثهما سنة 2001 و2010 في التّصدّي لهيمنة السّلطة ولإرادة فرضها لصوت واحد هو صوتها. ولا ننسى أيضا صمود السّينمائيين والمسرحيين وخصوصا الصّحافيين التّونسيين الأحرار ضدّ محاولات السّلطة المتواصلة لتركيعهم وتدجينهم.
كلّ هذه المحطّات النّضاليّة المشرّفة كان لا بدّ من التّذكير بها لنستنتج أمرين مهمّين:
أوّلهما أنّ السّلطة بقمعها وسياساتها الجامعة بين العصا والجزرة وبين التّرغيب والتّرهيب قد استطاعت دون شكّ لجمَ عديد الأصوات وترويضها لفائدتها فغنمت تبعيّتها لها واستغلالها في دعايتها في شتّى المجالات. من ذلك مثلا ترويض عشرات المؤرّخين الجامعيين التّونسيين وغيرهم لكتابة تاريخ تونس الممتدّ على أكثر من ثلاثة آلاف سنة في كتاب صدر أوائلَ الألفيّة بتونس نشره مركز الدّراسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة في أربعة أجزاء، خصّصت الأجزاء الثّلاثة الأولى منها لتأريخ ألف سنة بينما خصّص الجزء الرّابع بأكمله لتأريخ عشر سنوات فحسب من حكم زين العابدين بن علي. وهذا أبلغ مثال على تزوير تاريخ الشّعوب وتزييفها، وكانت فضيحة كبرى لتملّق «المؤرّخين الرّسميين» وخيانتهم لدورهم ورسالتهم.
ثانيهما أنّ الصّمود والنّضال والوفاء للمبادئ هي الحصيلة الإيجابيّة لكلّ نفس مثقّف، و«ما يْدوم في الوادْ كان حَجْرو» كما يقول مثلنا الشّعبيّ العميق والأصيل. وقد ثبت مرّة أخرى ما جُرّب منذ قرون: أنّ أرض تونس، بحسّها الشّعبيّ المنغرس في تربتها، عصيّة على كلّ جبّار. يقول الشّاعر والكاتب والعالم الصّوفيّ سيدي أحمد زرّوق، دفين ليبيا متحدّثا عن تونس: «…وكلّ جبّار بها يُقصَفُ».
* يتّفق جميع الخابرين بالمشهد الثّقافيّ التّونسيّ أنّه لم يشهد بعد الثّورة تغييرا جذريّا إن على مستوى تعاطي المثقّفين مع الواقع الاجتماعيّ أو على مستوى الإنتاج كمّا ونوعا. إلام يُعزى ذلك حسب رأيك؟
– لقد تميّز المشهد الثّقافيّ التّونسيّ خلال أكثر من عشريّتين قبل الثّورة بالتّنوّع في الإنتاج والثّراء كمّا وكيفا، رغم الرّقابة ومحاولة السّلطة تدجين المثقّفين. فاستطاع التّونسيّ، داخل البلاد وأحيانا خارجها اضطرارا، إنتاج كمّ مهمّ نسبيّا في كافّة الميادين، مسرحا وفنّا تشكيليّا وسينمائيّا ودراسات وإبداعا خصوصا في الرّواية والقصّة والشّعر، وهو ما جعل عديد الأسماء تشعّ وطنيّا وعربيّا ودوليّا. وتقلّص الإنتاج ربّما نوعيّا بعد الثّورة، بسبب دخول البلاد والمواطنين رهانات جديدة تتمثّل في تجربة الدّيمقراطيّة الجنينيّة وغلبة الهمّ السّياسيّ والمعيشيّ على ما سواهما، ولكن بكلّ تأكيد لتقلّص ميزانيّة وزارة الثّقافة (قرابة 80% منها تخصّص للأجور). هذا ما جعل رابطة الكتّاب الأحرار تتجنّد في سلسلة من الوقفات للتّنديد بهذا التّمشّي في التّقليص بدلاً عن التّرفيع.
وقد لاحظنا ومازلنا ارتجالا مخجلا في تنظيم التّظاهرات الثّقافيّة (العدول مثلا عن اللّجنة الاستشاريّة الوطنيّة لمعرض الكتاب الّتي رأت النّور بعد الثّورة، والعودة إلى الانغلاق داخل الدّوائر الإداريّة للوزارة، ممّا جعل الرّابطة تقاطع المشاركة في ورشات المعرض، وكذلك معرض جينيف للكتاب وعودة الوجوه القديمة والممارسات الّتي بان فشلها أكثر من مرّة)، وبالخصوص غياب استراتيجيا محدّدة الملامح والتّركيبة لمقاومة الإرهاب بالثّقافة ولجعل الثّقافة خبزا يوميّا لكلّ مواطن (من الرّوضة إلى الجامعة وداخل كلّ الوزارات وكلّ الشّركات الوطنيّة وكلّ القرى والأرياف، ومن المهد إلى اللّحد، ببعث الورشات الثّقافيّة والفكريّة والرّياضيّة في كلّ حيّ وداخل كلّ البيوت.). هكذا فقط يمكن لنا أن نغيّر واقعنا الثّقافيّ في العمق، بتشريك كافّة المثقّفين في التّصوّر والتّخطيط والتّنفيذ للسّياسة الثّقافيّة للبلاد. ولن يتسنّى ذلك إلاّ بمبدأ حرّيّة التّنظّم على أساس الانتخاب في كلّ الهياكل محلّيّا وجهويّا ووطنيّا، حسب روح دستور الثّورة.
* لماذا لم تقع حسب رأيك الثّورة الثّقافيّة المنشودة؟
– عندما وقع الالتفاف على مجلس حماية الثّورة منذ أواسط سنة 2011، بل بعد أقلّ من ثلاثة أشهر من فرار بن علي، وذلك ببعث ما يسمّى «الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثّورة..» (انظر كتاب شكري لطيف «مجلس حماية الثّورة – دار سحر – 2014)، انقسم المجلس واعترى الفتورُ نشاطَه وتجاهلته وسائل الإعلام المدعومة من قُوًى خفيّة ومعلومة، داخليّة وخارجيّة، تمثّل القوى الرّجعيّة والرّأسماليّة المرتبطة مصالحها بالخارج، وتساندها بخفْية في أوّل الأمر وعلنًا فيما بعْدُ قوى التّهريب والتّهرّب الجبائيّ والإرهاب والتّجمّعيون الدّستوريون، بمباركة من تنظيم الإخوان العالميّ بدعم قطريّ تركيّ، التقت كلّ تلك القوى لإجهاض الثّورة ولمنع الثّورة الثّقافيّة الّتي أطلّت برأسها وبشّرت بها القوى المؤمنة بالتّغيير والتّطوّر.
ولكنّ البذرة الثّوريّة الثّقافيّة – حسب رأينا – قد زرعت في تربة بلادنا وفي أفئدة شبابنا. وأنا أزعم أنّ جذوتها لن تنطفئ، وأنّ سلسلة التّحرّكات الاحتجاجيّة الّتي لم تنقطع يوما ستتواصل إلى أن يحين موعدها. فالأفئدة، وقد ذاقت حلاوة الحرّيّة وقد تراءت لها إمكانيّة تحقيق الحلم في غد أكثر عدالة في توزيع الثّروة الوطنيّة وفي تساوي الحظوظ للجميع، لن تستكين مطلقا بعد اليوم لتلعب دور الضّحيّة وترضى بالدّون.
فالثّورة الثّقافيّة تتطلّب لتنجح وقتا لتتغيّر العقليات ولتتعوّد على كسر الممنوعات أو ما يبدو كذلك إلى حين.
* لماذا ظلّ الجامعيون – وهم نخبة المجتمع – حتّى بعد الثّورة حبيسي جدران الجامعة؟
– لقد سبق أن تحدّثت عن خيانة المثقّفين La trahison des clercs من وجهة نظر ماركسيّة وغيرها. وكأنّ ذلك قانون سرمديّ عرفته كلّ الحضارات في كلّ الأزمنة.
وكان صديقي ورفيق دربي الأستاذ الجامعيّ في مادّة الفيزياء، المناضل منير كشّوخ، يستنكف تقديمه لمن لا يعرفه بكونه أستاذا جامعيّا، وكان يغضب عليّ صارخا: «لماذا تريد إهانتي بتقديمي جامعيًّا والأغلبيّة السّاحقة من جامعيينا لا تشرّف لا الجامعة ولا الوطن ولا عموم المواطنين، أنا لا أرضى بتقديمي إلاّ مناضلاً وكفى». وفعلا، فأغلب جامعيينا إمّا ممّن ناشد بن علي وتذلّل وانبطح وسال لعابه أمام إغراءات نظام بن عليّ للحصول على بعض الامتيازات الماليّة أو المعنويّة من مناصب ومسؤوليات سياسيّة.. أو ممّن تعالى على المواطنين العاديين معتبرا نفسه، بفضل ما لديه من شهائد جامعيّة، فوق مستوى بقيّة البشر، وغرقوا في تخصّصهم التّقنيّ الجافّ والمحدود، متقوقعين حول ذواتهم المتضخّمة مرضيّا، وانزووا في جدران الجامعة.
* عديدة هي الجمعيات والمنظّمات المهتمّة بالشّأن الثّقافيّ والمثقّفين في تونس، ونذكر على سبيل المثال رابطة الكتّاب الأحرار الّتي تترأسُ هيئتها. لماذا، رغم ذلك، ظلّ حال الكتّاب والمبدعين في غالبيتهم مزريا؟
– رغم وجود وزارة الثّقافة منذ أوائل ستّينات القرن الماضي وبقائها أفقر وزارة من حيث الميزانيّة، فإنّ غياب النّصوص القانونيّة الكافية والواضحة المعترفة بدور المثقّف في بلادنا وحقّه في العيش الكريم ورعايته الصّحّيّة المضمونة اجتماعيّا، قد أبقى الوضع العامّ للكتّاب والمبدعين في أسوأ حال. ولن يتغيّر الوضع إلاّ بتجميع هؤلاء في هياكل أقوى وأحسن تنظيما لمواصلة التّجنّد من أجل فرض إصدار تلك النّصوص وتطويرها وخصوصا العمل على تغيير النّظرة الاجتماعيّة للمبدع ومكانته ودوره.
* هل تشاطر الرّأي القائل إنّ المثقّف العربيّ التّقدّميّ عموما واليساريّ خصوصا عاجز عن فهم مجتمعه وعن الفعل فيه بسبب استناده إلى نظريات ومرجعيات مستوردة وعلى غير صلة بثقافة شعبه ووجدانه؟
– إنّ هذا الرّأي فيه جانب كبير من الصّحّة خصوصا إذا ما علمنا بأنّ مجتمعنا التّونسيّ والعربيّ غير مدروس بالقدر الكافي من جانب اجتماعيّ وبالمقاربات المعلومة العلميّة العالميّة. ونحن نعرف أنّ أصغر الأقسام في جامعتنا هو قسم علم الاجتماع (أساتذةً وطلاّبا) ولنا قسم وحيد فقط في كامل الجامعات التّونسيّة.
لهذا، ليس غريبا أن نركن إلى تدريس تجارب غيرنا من الأمم وإحصائيّاتهم ولغاتهم وفنونهم وآدابهم وعقائدهم ونفسياتهم وعقلياتهم بالأساليب والمناهج التّي ابتدعوها هم. فشعوبنا هي إذن كالعجين «غير المعروك وغير المحكوك» كفايةً وهو أمر ضروريّ لإنتاج حلويات ممتازة. فمجتمعاتنا بدائيّة من النّاحية الدّراسيّة، نجهل جوهرها وخصوصياتها ونقائصها وممييّزاتها. فلا تنجح فيها استنباطاتنا في كافّة الميادين ولا مقترحاتنا ولا تصوّراتنا لإصلاح أعطابها الكثيرة. فتكون حلولنا شبه علميّة، مسقطة على واقع غير متحكّم فيه، فلا هي بالحلول الناجعة ولا هي تسهّل عمليّات الانتقال من طور إلى آخر، بل ربّما تتفاقم الأعطاب بسبب ذلك القصور.
ومع هذا، فإنّ الاستنارة بتجارب غيرنا من الشّعوب وبنتائج أبحاثها وعلومها ضروريّة لنا لأنّنا في آخر الأمر جزء من البشريّة، ويكون تفتّحنا عليها أمرا حتميّا بما أنّ مصيرها هو مصيرنا.
* ما تفسيرك وأنت الباحث والمحقّق لعودة الإسلام السّياسيّ بقوّة خلال العقدين الأخيرين في تونس وفي الوطن العربيّ؟
– باعتبارنا مثقّفين، لا بدّ لنا من نظرة أشمل ما يمكن لهذه الظّاهرة، وهي عودة الإسلام السّياسيّ، وكذلك توسيع معارفنا بما طرأ على شعوب أخرى غيرنا سبق أن عاشت هذه المرحلة من تاريخها.
من ذلك ما تمّ في أوروبّا طيلة أكثر من قرن، من آخر القرن الخامس عشر حتّى القرن السّادس عشر ممّا سمّي بالحروب الدّينيّة، بين الكاثوليك والبروتستانت… وما شاب تاريخ بلداننا العربيّة والإسلاميّة وما دار من حروب دمويّة فيها بين الشّيعة والسّنّة (في تونس دور سيدي محرز بن خلف زمن الدّولة الفاطميّة) وما بين السّنّة والخوارج (ظهور دولة تاهرت بالجزائر، الدّولة الرّستميّة) وحرب القرامطة وثورة صاحب الحمار بديارنا ضدّ الدّولة الشّيعيّة بالمهديّة وحروب الإماميّة الزّيديّة باليمن ضدّ السّلطة العثمانيّة وحرب هذه ضدّ شيعة فارس…
وربّما ما تمّ في بلداننا من محاولات تحديثيّة لمجتمعاتنا بصفة فوقيّة مسقطة وقد تكون متسرّعة، ممّا دفع بفئات عريضة إلى ردّ الفعل القويّ والعاطفيّ وانتهاج السّبل الدّمويّة لفرض تصوّراتهم. كلّ هذا يدفعنا إلى الانكباب على واقعنا المعقّد جدّا بالدّرس والتّحليل ومحاولة تشريك كافّة النّاس في نقد هذا الواقع وتفكيك جميع عناصره ومحاولة فهمه الفهم الأعمق واقتراح الحلول لدائه بصفة جماعيّة.
ولا ننسى، دون السّقوط في نظريّة المؤامرات الخارجيّة، دور القوى الخارجيّة للدّول الكبرى وللتّيّارات الدّينيّة العالميّة المتطرّفة من تصدير تصوّراتها خدمة لما تعتقده «الحقّ المطلق» ولما تكون قد رضيت بأن تلعبه من دور لفائدة تلك القوى ومصالحها. ومع هذا الوعي الدّقيق بكلّ هذه الممارسات يمكننا اجتياز المرحلة الرّاهنة بأخفّ الأضرار الممكنة دون تسرّع أو تشنّج ولكن ليس من دون اليقظة والحزم الضّروريين.
* لماذا حسب رأيك لم تنجح اللاّئكيّة في فرض نفسها في المجتمعات العربيّة؟
– حين أمضينا – ضمن ما سمّي بهيئة 18 أكتوبر (من 2005 إلى 2011) وكنّا عديد الجمعيات (بما فيها رابطة الكتّاب الأحرار) والأحزاب على ثلاثة نصوص أساسيّة:
أ – اعتبار مجلّة الأحوال الشّخصيّة بتونس أمرا إيجابيّا ينبغي تطويره إلى ما هو أحسن
ب – فصل الدّين عن الدّولة
ج – حرّيّة الضّمير والمعتقد…
مع عديد البيانات الأخرى، تراجعت حركة النّهضة بعد الثّورة على ما أمضت عليه باعتبار أنّ أغلب قواعدها غير موافقين على ما رضيت به القيادة تكتيكيّا في مرحلة النّضال المشترك والصّعب. وهذا المثال دليل قاطع على أن جزءا كبيرا من المجتمع التّونسيّ الّذي تطغى فيه الأمّيّة الفعليّة وشبه الأمّيّة لم يبلغ بعْدُ من الوعي ما يجعله يفرّق بين ما هو مدنيّ جمهوريّ وما هو عقائديّ وإيمانيّ. لذلك تلزمنا مراحل أخرى طويلة حتّى تصير اللاّئكيّة مفهومة ومقبولة.
* أخيرا، من وجهة نظرك مثقّفًا وليس رجلَ سياسة، لماذا لم تحقّق الثّورة التّونسيّة حتّى الآن أهدافها؟
– تلزمنا أعوام وأعوام من التّغلغل المعرفيّ والفكريّ والعلميّ وخصوصا الأدبيّ في ضمائر أفراد شعبنا وفي عقليّته، بتحبيبنا إيّاه لإبداعاتنا وآدابنا (مسرح وغناء ورقص وفنون تشكيليّة وموسيقى ورواية وقصّة ودراسات في كافّة الاختصاصات).
فعقل المواطن التّونسيّ، وهو أحسن حالا من عقول غيره من مواطني الشّعوب العربيّة – أو هكذا نزعم – كالأعشى بين العميان. فهو مازال خامًا أو يكاد، وتربة بلادنا مازالت بورا. وعلينا بالعمل الجادّ والمتواصل لأجيال وبحرث تلك التّربة وإعادة الحرث إلى ما لا نهاية. Labourez, prenez de la peine.. كما يقول الشّاعر الفرنسيّ لافونتان.