spot_img

ذات صلة

جمع

الرواية والمقاومة: الرواية هي الحياة

إعداد سعدية بنسالم المقدّمة:   يعرّف عادل الأسطة في كتابه "أدب...

الرّيحُ لا تَمْزَحُ

بقلم الشاعر: أسامة حمري الأُبابَةُ داءٌ بِلا أدْوِيهْأوْ طَبيبٍ يُعالِجُهُ-سأحْزَنُ...

“ترامْب” يواصل بأسلوبه استراتيجية أسلافه بنهب ثروات شعوب المنطقة وحماية “إسرائيل”

الشاعر: هادي دانيال يُشاعُ منذ تمكين "دونالد ترامب" مِن دخول...

شعرية الكثافة والزخم الدلالي للقصيدة

بقلم: الشاعر والنقاد المصري" عبد الله السمطي تنتظمُ شعرية...

لعبة “كرة القدم” كصيرورة تَشَكُل “ديانة عالمية”

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم "يا لها من مفارقةٍ عجيبة:...

“الحوماني” المثير للجدل..

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي

بعض الشخصيّات تثير الجدل في حياتها وتظلّ تثيره بعد الممات.

بغض النّظر عن كلّ شيء، من المفيد أن ننظر إلى الجدل وإثارته كأمر إيجابي محمود. فقد تشوب الجدل هنات من طرف ما أو من كلا الطرفين، وقد تكون هذه الهنات معرفيّة أو علميّة أو منهجيّة أو أخلاقيّة إلخ.. وقد تكون عمليّة إثارة الجدل، في حد ذاتها، مثارا للجدل لأسباب عديدة، والمهمّ هو أن نخوضه وأن نسعى إلى اكتساب الآليات المناسبة الناجعة حين نخوضه، ليس بغاية الانتصار على “الخصم”، فالكل منتصر هنا طالما أنّ الجدل سيفضي إلى إنتاج أفكار جديدة.

حين أعلن عن وفاة الفنّان التونسي كافون -رحمه الله- اكتسحت شبكات التواصل الاجتماعي أمواج من التدوينات والتعليقات، بعضها يدور في فلك الترحّم على الفقيد، وبعضها وقف مؤبّنا ذاكرا مناقبه وذكرياته مع أغانيه، وبعضها راوح بين الترحّم والغمز واللّمز حول حياته الخاصّة، وبعضها راوح بين العلم (الطبّ) شارحا مرضه وأسباب الوفاة وبين الوعظ والإرشاد، وبعضه نصّب نفسه إلاها يملك مفاتيح أبواب الجنّة معلنا أنّ الفقيد من أهل النار ولا يجوز الترحّم عليه إلخ..

لحظة الإعلان عن وفاته كانت اللحظة التي اكتشف فيها أناس كثيرون -أنا واحد منهم- أنّ الفنّان كافون هو أحمد العبيدي، وذلك من خلال نصوص النعي التي نشرتها بعض الصفحات أو المواقع الرسميّة للمؤسسات الإعلاميّة، وذلك وفق صياغتين إمّا البدء بالكنية ثمّ الاسم كأن يقال: “وفاة الفنان كافون (أحمد العبيدي) بعد صراع مع المرض”، أو البدء بالاسم ثم الكنية: “وفاة الفنان أحمد العبيدي (المعروف بـ”كافون”) إلخ..”. قد تكون الصيغة الأولى هي الأصوب لأنّ الفنّان المعروف هو كافون وليس أحمد العبيدي وإن كان هو الاسم المثبت في الوثائق الرسميّة.

قضيّة الاسم هذه على غاية من الأهميّة في مستويين: الأوّل يتعلّق بالاختلاف (أو التمايز)، فاسم أحمد العبيدي متداول جدا، وقد نعثر في تونس على آلاف الأشخاص يحملون نفس الاسم واللقب حتى إن أضفنا إليهما اسم الأب والجد، ولكن يوجد في تونس كافون واحد، هو ذلك الفنّان المعروف الذي فقدناه مؤخّرا. والمستوى الثاني يتعلّق بالاختيار، فنحن حين نولد لا نختار أشياء كثيرة منها الاسم، والدّولة والمجتمع والعائلة تفرض علينا أن تكون لنا أسماء لحظة الولادة، قد يبدو الأمر بديهيّا، ولكنّه مخاتل، فنحن لا نختار أسماءنا، ولكنّنا قد نختار فيما بعد كنية ما تصبح أكثر رواجا من الاسم.

يختار الفنانون والكتاب والشعراء كنيات تسمى “أسماء فنيّة” أو “أسماء مستعارة” (مثل أدونيس وعمر الشريف وفارس فارس إلخ..) وتتحقق بها شهرتهم، ولكنّها تختلف في جرسها الصوتي وفي إحالاتها ومعانيها عما اختاره كافون وغيره ممن نهجوا نهجه في الفنّ والحياة. فالاختيار هنا مشحون بطاقة من الرفض والتمرّد، فيه ما فيه من غلظة وحدّة، وهو لا يأبه لما يسمى بـ”الذوق العام”، بل إنّه يعقد له محاكمة خفيّة من خلال اختيار “الكنية”، ثمّ يهرع إلى محاكمته في العلن من خلال الأغاني التي ينتجها، إذ نجد مثلا عبارةً من قبيل “الزبلة في البوبالة” وهي من العبارات التي لم يألفها “الذوق العام” في الأغاني، بل أكثر من ذلك هي من العبارات الصادمة التي تتخطّى ذلك المألوف وتضعه موضع تساؤل.

كافون. اسم لا يهمّ معناه. لا يهمّ أساسا إن كان حاملا لأي معنى. هو اسم له وقع الزلزال على الأذن حين نسمعه، ليس لغلظته أو لأنه ليس من مألوف الأسماء، بل لأنّ غلظته ألفناها في الكنيات التي يحملها بعض أبناء الأوساط الشعبيّة أو “أولاد الحومة” (خَشَمُون، طرباڨا، زربوع إلخ..)، فإذا به يغزو الشاشات ويدخل البيوت ويصبح جزءا من النسيج الثقافي الفني المتداول ومختلفا وحاملا للسان تلك الأوساط الشعبيّة، كما هي، بلا قفازات أو ماكياج، بأوجاعها وأنّاتها وصيحاتها وعباراتها النابية، بقيمها الجميلة (الرّجْلة مثلا) وعيوبها الكثيرة، ونستحضر في هذا السياق أشهر أغانيه “حوماني” وهي -كما يوحي عنوانها المشتق من كلمة “حومة” أي الحيّ الشعبي أو ما يعادلها في بعض بلدان المشرق “الحارة”- تقدّم لنا صورة مكثفة عن “ولد الحومة الشعبية”، ذلك “الحوماني” الذي يكابد ويعاني من اغتيال الأماني وقتل المعاني، فكانت الأغاني.

كافون ليس مثقفا بالمعنى التقليدي المتداول، فهو ليس من الذين” قطّعوا سراويلهم على مقاعد الدراسة”، وليس من الذين يستقون معارفهم وثقافتهم من قراءة الكتب والمجلات والقواميس والموسوعات، وهذا يبدو جليّا خاصّة حين يتكلّم عن موضوع ما، وهذا ما يجعله أحيانا في صورة الثائر على القديم، وأحيانا أخرى في صورة المنحاز لما هو محافظ في المجتمع، ولكنه في نفس الوقت يملك حسا فطريا متوثّبا للرفض والتمرّد على كلّ ما يراه منافيا لما يتبناه من قيم أو تصورات ولو رأيناها -بعضها أوكلها- خاطئة أو مبتسرة، ولكلّ هذا أثره في محتوى أغانيه التي تحمل كلّ هذه التناقضات، فلا يمكن وصفها بالتقدميّة ولا يمكن وصمها بالرجعيّة. هي حاملة لهذا وذاك في آن معا، وإن كان ميسمها الحلم والتمرّد.

لم ينهج كافون نهج الموسيقى الخاضعة للضوابط المعياريّة التي يعرفها الموسيقيون المختصون في كلّ مل يتّصل بالبنى الموسيقيّة، ولكنّها كانت موسيقى بنغماتها وإيقاعاتها، وفي هناتها أنّات المظلوم وفي نشازها نشاز عن المألوف في المجتمع، وهي قد لا تروق للبعض سواءً من زاوية ذوقيّة أو من زاوية علميّة تتصل بالعلوم التي نقارب بها بنية الموسيقى، ولكنّها في نفس الوقت لها جمهور واسع يستمع إليها باستمرار، ويترنّم بها، وينتظر الجديد منها بلهفة كبرى، ويطرب لها ويحلم معها، وهم في الغالب من “أولاد الحومة” الشعبيّة التونسيّة من المهمشين، ولكن من الإجحاف أن نغفل عن كون بعض أغانيه قد استرعت انتباه جانب من المثقفين والساسة وشباب المنظمات والأحزاب، ورأوا فيها تعبيرة ثقافيّة فنيّة متمرّدة تستحقّ الثناء.

من الواضح أنّه ثمة مفارقة بين أن تعلن العصيان وتأتي بما هو خارج عن المألوف وصادم من جهة، وبين أن تكون واسع الانتشار من جهة ثانية، فالمألوف ليس مجرّد فكرة وإنما هو بنية تحميها مؤسسات بعضها قديم (العائلة، القبيلة، العشيرة إلخ..) وبعضها عصري (المدرسة، الإعلام، الجمعيات، الأحزاب إلخ..)، وهو ما يجعل من سعة الانتشار -في هذه الحالة- موضع تساؤل: هل نحن أمام حالة من التمرّد بلغت مبلغا عظيما ففرضت على هذه المؤسسات أن تقبل بها كأمر واقع؟ هل هي الوسائط الجديدة التي باتت تنافس “القديمة” وتتغلب عليها فلم يعد بمقدورها تهميش تلك التعبيرات غير المألوفة؟ هل نجت تلك الوسائط الجديدة من أحابيل “السلعنة” أم هي ناجحة في استدراج تلك التعبيرات لإدخالها “بيت الطاعة”؟

كلّ هذه الأسئلة مع أسئلة أخرى يمكن طرحها حول هذا الموضوع، وهي لا تهمّ فقط كافون، وإنما تهمّ -بشكل عام- الظاهرة الثقافيّة الفنيّة التي يعتبر كافون واحدا من رموزها. أمّا ما يهمّنا في هذا السياق هو أنّ الفقيد، في ضوء كلّ ما أتينا على ذكره، يمثّل شخصيّة متمرّدة ومثيرة للجدل، بعضّ النظر عمّا إذا كان واعيا بذلك أم لا، قاصدا ذلك أم لا، ولكن المشكلة تكمن دائما، في ربوعنا، في القضايا التي يطرحها الجدل في المستوى المعرفي والعلمي، وفي كيفيّة خوض هذا الجدل في المستوى الإيتيقي، فقد نقبل -بشكل مبدئي- تحويل الفقيد إلى رمز بالنسبة إلى من يرونه كذلك، ولكن لا يمكن أن نقبل -بحال من الأحوال- أن توضع حياته الخاصة على قارعة الطريق بغاية تحويله إلى “عبرة”، كما فعل البعض.

spot_imgspot_img