
الكاتب: حسني عبد الرحيم
شهدت السنوات الأخيرة صعود وانتشار مصطلح “الحروب الثقافية” في الخطاب السياسي والاجتماعي وهو أمر يكشف جزءا جوهريّا من حقيقة العالم الذي نعيش فيه فالعالم ليس منقسما فقط لمستغِلين ومُستغَلين بيض وملونين أو لامبراليين وخاضعين وإنّما العالم منقسم لثقافات بينها تزاحم وصراعات وعمليات هيمنة! وربما ظهر في النطاق الدولي تشغيل هذا المصطلح بعد صدور كتاب “صمويل هتنجتون” (صراع الحضارات) وقبله كان العمل التاريخي لـ”ادوارد سعيد”(الثقافة والإمبريالية)! هذا لا يعني أن المسألة لم تكن مطروحة من قبل لكن هذه هي المرحلة التي يعمل على أن يهيمن فيها على النطاق العالمي فالعديد من الكتابات خرجت من بلاد مستعمرة سابقا حول الميراث الثقافي في ما بعد الاستعمار وخلال ما سمّيّ بالتحرّر الوطني وبناء جهاز دولة ما بعد الاستقلال وبالتوازي مع النطاق الثقافي الوطني ومع طرح مسألة الهوية في مركزه والتي يتبعها بالضرورة التعليم والإعلام ويتكيف معها الإنتاج الفني والأدبي والإذاعات والصحف الورقية والمتاحف والاحتفالات والأعياد الوطنية سواء عبر المنح والوظائف والجوائز أو عبر الإكراه كعملية تنظيم للتوجه الثقافي الوطني المهين داخل بلد معين كمحدد للاستجابات المختلفة للأوامر والنواهي الاجتماعية.
في الدول المركزية كانت هناك مناقشة لهويتها الثقافية كبريطانيا بعد الإمبراطورية حيث قام “تيري ايجلتون” في “كيف تكونت الانجليزية” وجادله آخرون أنّ هذه الإشكالية ليست مركزية قبل العشرينات والثلاثينات! في ألمانيا كانت العلاقة الافتراضية بالتراث الإغريقي عبر الفلسفة هي حجر الأساس لهوية عقلانية ثقافية جرمانية افتراضية بدأت الأحياء من “ اللوثرية” و”غوته” حتى جاءت الثلاثينات مع الشمولية الهتلرية لتطيح بهذه الافتراضات وردّ الفعل عليها لتعيد “مدرسة فرانكفورت” النظر في المسألة الثقافية الألمانية بمجملها!
في المشرق المتوسطي كانت مساهمة طه حسين في “مستقبل الثقافة في مصر” مقدمة لمناظرات من اليمين (محمود شاكر) واليسار الثقافي (محمود العالم وعبد العظيم أنيس) وكذلك في المغرب (عبدالله العروي وآخرون) وكانت الجزائر حالة خاصة جدّا إذ كان مهمة ما بعد الاستقلال هي تعريف الشعب الجزائري نفسه (عرب-أمازيغ-مستوطنين) نفسه وتعريف البلاد التي كانت مقاطعة فرنسية تتحدث أساسا الفرنسية تتعلم بآدابها حتى الاستقلال وكانت العقيدة الدينية (الإسلام) هي ما بقي خارج نطاق المحو الهوياتي وشكلت مصدّة للهيمنة وقوة محرّكة للمقاومة وللتحرر الوطني وحجر أساس التعريف اللاّحق للدولة والثقافة الوطنيين.
الحروب الثقافية ليس لها بداية ولا نهاية (كان نطاقها محصورا وأصبح كونيّا ) وربما بدأت بداية من أفول جمع الثمار والرعي وبداية الزراعة فكل مجموعة بشرية تتشكل حول طريقة حياة وتبدأ تكوين ثقافتها بشكل متلازم مع تطور وسائل معيشتها والزراعة والاستقرار كانتا عنصرين جوهريين في تأسيس الثقافة المحلية (culture-agriculture) التي بقيت عضوية ولكن تأتيها الغزوات من المحيط الخارجي دوما وتبدأ عملية السيطرة والتهجين الثقافيين متلازمة مع الخضوع الحربي مسماه “عبد الرحمن أبن خلدون” ميل الشعوب المغلوبة لتقليد ثقافة وقيم الغالبين و هو ما حدث في المرحلة الاستعمارية لدى شرائح مختلفة من شعوب الشرق والغرب !في العالم الجديد (الأمريكيّتين وأستراليا) لم تكن هناك ضرورة للهيمنة الثقافية على الشعوب الأصلية لأن عملية إفنائهم هي ما تم بالتذرع بمقولات دينية وعرقية. لم يكونوا بحاجة لهم فاستجلاب العبيد من أفريقيا كان كافيا لمزارع القصب والقطن حتى أتت الصناعة لتحرر العمل ويصبح مأجورا في نظام استغلال وتراكم أكثر فاعلية وأكثر اغترابا للعاملين داخله وفي حوافه.
الديانات التوحيدية (اليهودية المسيحية الإسلام) كانت عمليات عالمية لتهجين الثقافات في ظل الإمبراطوريات القديمة-العبودية والإقطاعية والأسيوية- (الرومانية العثمانية الهنغارية الروسية.. الخ)ولم تكن الإمبراطورية الاستعمارية لديها أولية سوى للجوانب الاقتصادية والتجارية عكس الهيمنة الفرنسية التي عملت على التغيير الثقافي اللغوي والتبشير وحتى عبر إنشاء مجتمعات من مستعمرين أوربيين.
الرأسمالية هي نظام مركزي عالمي لم يتطور إلا عبر إخضاع مجتمعات طرفية لتكوين التراكم الأولي وعبر نهب الفلاحين في الداخل والمستعمرات في الخارج وهي المجتمعات التي لم تكن قد توصلت بعد لمرحلة الإنتاج السلعي المعمم وكان ذلك عبر الجيوش المسلحة بوسائل عصرية أنتجتها المصانع الحديثة وحققت بها تلك الجيوش والأراماد البحرية التفوق على الجيوش الجرارة لإمبراطوريات قبل رأسمالية لم تتوصل للتسليح الحديث ولا للتنظيم الحربي المستجد! ربما سيطرتها الحربية والاقتصادية وتمكنها كما لاحظ “كارل ماركس” :” تمكنها من تدمير أبنية اجتماعية رجعية قديمة ولم تسع لبناء جديد ومتماسك “ والمثالان الساطعان عن ذلك هو الهند ومصر فقد بقيت الهياكل القديمة تعمل مع الأنظمة الادارية والتعليمية والعسكرية المستحدثة(cohabitation) وبالتالي بقيت الثقافة المروجة تحتفظ بقاعدة اجتماعية وتتوالد أساسا في الريف وفي النشاطات الهامشية وهي بمجملها تشمل غالبية السكّان في أشباه المدن في محيط المدن الإدارية ومراكز السلطة.
لم تتوفر لإمبريالية المرحلة الوسيطة الوسائل والأدوات لتعميم طابعه الثقافي والذي يتعرض لمعوقات داخلية بفعل الهجرة فضواحي لندن وباريس صارت مهجنة عرقيا وثقافيا ولغة التواصل في قطاع كبير من سكان نيويورك هو الاسبانية- اللاتينية حتى ان المرشحين في الانتخابات المحلية والفيدرالية يستخدمون في دعايتهم بجانب الإنجليزية اللغة الإسبانية ومؤخرا في نيويورك بعض العربية! هذا مع توسع استخدام الإنجليزية في المجالات التقنية والعلمية التي أصبحت تشكل تهديد للغات عالمية اخرى كالفرنسية وللغات وطنية كالسلافية والسامية والهندو-أوربية” المختلفة ومن بينها العربية! هذا تغير نوعي فالرأسمالية المتأخرة ما بعد الصناعية تستحوذ على وسائل اتصال وبنوك معلومات حديثة حاسمة في المجال الرقمي والسحابي والمنصات الاتصالية والعامل الأهم هو الإنترنت والتلفون الذكي الدي يتيح الاتصال والتأثير الثقافي حتى في تجمعات جبلية نائية! وعندما يكتب “توماس فريدمان” في النيويورك تايمز” في نهاية العام 2025 الآتي (لم أعد أتوجه للبنتاغون للتعرف على موازين القوى في العالم، بل أذهب لوادي السليكون)
أواخر القرن الماضي كان أحد أهم كُهان ومنظري الحداثة الرأسمالية البروفسير ومدير معهد فرانكفورت للعلوم الاجتماعية سابقا، قد صرح بأن( يظل المدى الذي لا يمكننا تخطيه هو المسيحية) ثم يتوسع الحديث عن حضارة وثقافة “يهودية- مسيحية” مؤخرا على لسان “بنيامين نتانياهو” لتسويغ تصفية عرقية وهو نفس خطاب المستشار الألماني “فريدريش ميرتس” وهي لحد كبير الغطاء الأيديلوجية لما يسمى “الحرب على الإرهاب” وفي نفس اتجاه “صراع الحضارات ” لهتنجتون و”الحلول الكبير” لرينو كامو! وهي إعلانات حرب تتبناها حركات وأحزاب سياسيّة ودول كبرى تمتلك من الوسائل التدميرية ما يهدّد الوجود وليست مجرد أطروحات جامعية نمت تحت مظلتها اليمين القومي المتطرف الجديد في أوربا وأمريكا .
شبه القارة الهندية بهندوسها ومسلميها مع الصين ليستا بمنأى عن خطر التصفية الثقافية، ولكنهما تمتلكان بفعل الوزن الاقتصادي والعلمي والديموغرافي (أربعة مليارات) إمكانيات كبيرة لتعطيل هذه الشمولية الثقافية ولكنهما لا يمكنهما تقديم بديل إنساني عالمي بفعل ارتباط صعودهما الحالي بنزعة قومية أصولية متشددة.
بعد نهاية الإيديولوجية الغربية لحقوق الإنسان وبعد انهيار اشتراكية واقعية قمعية وراكدة لا تقدم الإمبريالية السحابية بلسان ممثليها الكبار إلا صورة لمستقبل روبوتي وحتى إمكانية لهجر كبارها للأرض واستعمار كوكب آخر وترك البشرية لكارثة مناخية أو حتى نووية أبوكاليبتية (أيلون ماسك وجيف بيزوس والتمان وآخرين)
كثير من المقولات العولمية كان موجودة بشكل أولي من قديم في الديانات التوحيدية وبعض الفلسفات الغربية( فردريش هيجل و إيمانويل كانت) لكنها كانت على الأكثر رؤى تبشيرية ولم تتحقق إلا جزئيا وبشكل متناقض أتاح لثقافات إنسانية كبرى أن تبقى وتتواصل مع بعض التهجين ..لكن فيما نظن أن الرأسمالية بعد الصناعية قد توصلت لوسائل تقنية وعلمية تجعلها قابلة للتحقق وهو ربما يشكل كارثة وجودية للثقافات العضوية المتجذرة في طبيعة الوجود البشري ذاته وهى ما تشكل مخزون للتجربة الإنسانية لآلاف السنين هذا لأننا نعتبر الوجود الإنساني وجود تاريخي وليس وليد الرأسمالية المتأخرة إلا إذا أصبح هناك تعريف وحشي للإنسانية ما بعد الصناعية بحسب” أيلون ماسك” وأشباهه ولا يمكننا تصور تحوير مقولة ديكارت لتصبح “أنا بروتستانتي و أتكلم بالإنجليزية…إذآ فأنا موجود”!
خاتمه: العجالة الأولية المكتوبة أعلاه ليست تحليل عميق للمشكلة التي نواجهها ولكنها طرح للأسئلة بلا إجابه!
نظن أن طفرة علم-التقانة الرقمية قد مكن عدد من السوبر مليارديرات في الغرب وفي أودية السيلكون من وضعية التحكم الشمولي في حياة وعقول ومستقبل مليارات البشر الحاليين ربما يهدد بسيطرة أوليجاركية متحكمة في مدخلات ومخرجات العقول وإمبريالية ثقافية بربرية على الصعيد العالمي.



