ترجمة المنتصر الحملي
على الرّغم من التّأثيرات النّاجمة عن التّوسّع التّعليميّ وتكاثر قنوات نشر منتجات صناعة الثّقافة الجماهيريّة وصناعة التّرفيه، والّتي ربّما تكون قد ساهمت في توحيد معيَّن لأنماط الحياة والمواقف والتّمثّلات، تظلّ الثّقافة علامة قويّة على تنوّع الحالات والهويّات. وعن هذا التّنوّع، تقدّم المفاهيم الأنتروبولوجيّة والسّوسيولوجيّة للثّقافة مقاربة مختلفة. فالمقاربة الأنتروبولوجيّة للثّقافة تشكّلت تاريخيّا ضدّ نوع من المركزيّة العرقيّة للتّقليد العالميّ للعلوم الإنسانيّة، تلك الّتي مثّلها ماثيو أرنولد Matthew Arnold الّذي عرّف الثّقافة بأنّها «أفضلُ ما فُكِّرَ فيه وعُبِّرَ عنه في العالم1»، والّتي يعارضها توجّه نسبيّ ثقافيّ متسامح يؤسّس لمقاربة تقوم على التّعامل المتكافئ مع الاختلافات الثّقافية. أمّا المقاربة السّوسيولوجيّة، وإن تتبنّى جزئيّا الموقف النّسبيّ لعلماء الأنتروبولوجيا، فهي أكثر انتباها للفوارق وعلاقات القوّة الكامنة وراء الوقائع الثّقافيّة. فإذا لم تكن الوقائع الثقافيّة قائمة على الهرميّة من خلال خصائصها الجوهريّة، فهي كذلك، في المقابل، من خلال الخصائص الاجتماعيّة للمجموعات الّتي تنبثق منها.
في الواقع، إنّ الحياة الثّقافيّة للمجتمعات المعاصرة، حتّى بمفهومها الضّيق المرتبط بعالم الفنون والآداب، تخترقها من جميع الجوانب مسألة الفوارق. في فرنسا، تُظهِر الدّراسات الاستقصائيّة المتتالية حول الممارسات الثّقافيّة للفرنسيين ثباتا قويّا في عدم تكافؤ فرص النّفاذ إلى الثّقافة، على الأقلّ في أكثر أشكالها مشروعيّة2. ويبقى علم اجتماع الممارسات الثّقافيّة إلى حدّ كبير علم اجتماع الفوارق الثّقافيّة3، وذلك على الرّغم من أنّ موضوعي التّنوّع والطّابع العرَضيّ للهويّات والمواقف يبدوان أكثر بروزًا بشكل متزايد4. وبدورها، توصف عوالم الإنتاج الثقافيّ بشكل عام وأكبر بأنّها تتقاطع مع ديناميّات عدم مساواة قويّة5. ولذلك، فإنّ مسألة الفوارق هي أيضا في صميم تعريف السّياسات العامّة المتعلّقة بالثّقافة، الّتي يهيمن عليها إلى حدّ كبير التّطلّعُ إلى دَمقرطة النّفاذ إلى الفنون والثّقافة.
يبحث هذا الفصل على نطاق أوسع في دور الثّقافة، بمعناها الأكثر شمولا، والّذي يشمل جميع الإنتاجات والمعايير والتّمثيلات الرّمزيّة لمجتمع أو مجموعة ما، كما يبحث في أصل الفوارق واستدامتها، من خلال التّركيز أوّلا على الصّعوبات المفاهيميّة والمنهجيّة الّتي يثيرها تعريف الفوارق الثّقافية، ثمّ من خلال التّساؤل عن المكانة الّتي تمنحها للوقائع الثقافية النظريّاتُ المعاصرةُ المتعلّقة بعدم المساواة.
ما معنى عدم المساواة الثقافية؟
إنّ مفردات الثّقافة ومفردات عدم المساواة لا تتوافق بالضّرورة بشكل جيّد. يدعونا التّقليد الأنتروبولوجيّ الّذي تأسّس في القرن الماضي استمرارا لأعمال حركة «الثقافة والشّخصيّة» الّتي حدّدت لنفسها موضوع دراسة تنوّع الأنظمة الرّمزيّة والتّمثيلات والاستخدامات المرتبطة بتنوّع المجموعات والمجتمعات البشريّة، إلى عدم التّسوية بين الاختلاف الثّقافيّ وعدم المساواة6. ومع ذلك، هناك نوعان من الوضعيّات الّتي يكون فيها الاختلاف الثّقافي جزءًا من علاقة غير متكافئة.
الوضعيّة الأولى تتوافق مع الحالة الّتي تضع فيها المعاييرُ والتّصورات والعادات الخاصّة بمجموعات معيّنة أو فئات معيّنة من النّاس أعضاءها في حالة تبعيّة أو استبعاد. وبسبب السّمات الثّقافيّة الّتي يحملونها، فإنّ هؤلاء يجدون أنفسهم محرومين بشكل دائم من الوصول إلى عدد معيّن من الموارد والفرص، وخاضعين وغير قادرين إلى حدّ ما على المسك بزمام وجودهم. وفي هذه الوضعيّة، يكون الاختلاف الثّقافيّ هو أصل عدم المساواة.
الوضعيّة الثّانية هي تلك الّتي يتنافس فيها أفراد أو جماعات على الوصول إلى الخيرات الثّقافيّة أو الرّمزيّة الّتي يتّفقون، عن حقّ أو باطل، على اعتبارها مرغوبا فيها. وفي هذه الحالة، فإنّ عدم المساواة هو نتاج هذا التّنافس.
هذان النّوعان من الوضعيّات يغذّيان مطلبين مختلفين. أوّلهما المساواة في النّفاذ إلى الموارد الثقافيّة المفيدة و/أو المرغوب فيها، وثانيهما معاملة الأنواع المختلفة من الموارد أو الممتلكات الثقافيّة على قدم المساواة.
– من النّزعة النّسبيّة إلى الثّقافويّة CULTURALISME
تصطدم المقاربة النّسبيّة للوقائع الثقافيّة بفكرة أنّ المجموعة المتنوّعة من المواقف والمعايير والتّمثيلات السّائدة داخل مجتمع ما تتلاءم بشكل متفاوت مع تحقيق الذّات والتّماسك الاجتماعيّ. فبعض التّصرّفات والسّلوكيات والمواقف والسّمات الشّخصيّة من شأنها أن تعزّز الاندماج أو النّجاح الاجتماعيّ، بينما قد يقف البعض الآخر عائقا أمامهما. هذا النّوع من الاستدلال غالبا ما استُخدم لتحليل وضعيّات عدم المساواة الدّائم والممنهَج الّذي تعاني منه مجموعات معيّنة. ففي الولايات المتّحدة الأمريكيّة، تمّ تطبيق هذه الحجة بشكل شائع منذ ستّينيات القرن المنصرم على مصير الأقلّيات العرقيّة وفئات مختلفة من السّكان المهمَّشين إلى هذا الحدّ أو ذاك. إنّ الأعمال الّتي تنتسب لهذا التّوجّه الموصوف بالثّقافويّ تشترك في أنّها تلقي الضّوء على بنية المجتمع غير القائمة على المساواة عَبر دراسة التّصرّفات الثقافيّة لأعضائها. وتشكّل فكرة ثقافة الفقر، الّتي اشتهرت من خلال عمل أوسكار لويس Oscar Lewis الّذي يحمل نفس الاسم، المثالَ الرّمزيّ7 على هذا التّوجّه. يغطّي هذا المصطلح بالنّسبة إلى لويس، في دراسة استقصائيّة أحاديّة أجراها على عائلة بورتوريكيّة تقيم في نيويورك، مجموعةً متماسكة من المعايير والمواقف (كالانكفاء على الحاضر، وخفض سقف التّطلعات إلى المستقبل) الّتي تشكل ثقافة فرعيّة على نحو يؤدّي إلى حبس الأفراد داخل ما تشكّلَ في الأصل كردّ فعل على ظروف خارجيّة غير مواتية (مثل صعوبات الوصول إلى العمل أو ندرة فرص التّقدّم الاجتماعيّ)، ويديم حالة الفقر من خلال انتقالها من جيل إلى جيل حسب الظّروف8.
يجد هذا الميل الثّقافويّ صدى معيّنًا في النّقاش العامّ. ففي فرنسا، شهد حشد الحجج القائمة على الأسباب الثقافية للجنوح أو السّلوك الإدمانيّ أو الفشل المدرسيّ، نوعًا من الانتعاش في بداية العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين. ويعود الفضل في ذلك بالخصوص إلى نشر عمل هيوغز لاغرانج Hugues Lagrange «إنكار الثّقافات le Déni des cultures» الّذي يميل إلى ربط حدوث حالات الانحراف بين المراهقين من أصل جنوب الصّحراء الكبرى بالأساليب التّعليميّة المرتبطة بالأسرة متعدّدة الزّوجات9. كما تتجلى شعبيّة الحُجج الثّقافويّة على صعيد المسائل الجيوسياسيّة، عندما تُتَناوَلُ هذه الأخيرة من وجهة نظر المواجهة بين النّماذج الثقافية غير القابلة للاختزال وفقا لنموذج «صراع الحضارات» لصامويل هنتنغتون10.
على المستوى السياسيّ، غالبا ما تُستخدَم هذه الحجج بشكل شائع في الدّوائر المحافظة للغاية، في أمريكا الشّمالية وكذلك في أوروبّا. ومن هذا المنطلق، يرتبط وصم هذه المقاربة الثّقافويّة في الأوساط الأكاديميّة في فرنسا بالانجراف الهوويّ والعنصريّ الصريح أحيانًا الّذي أدّى إليه حشد الحُجج الثقافيّة على مدى حوالي أربعين عاما في مختلف مراكز الفكر اليمينيّة المتطرّفة، مثل «مجمع البحث والدّراسات في الحضارة الأوروبّيّة (Groupement de recherche et d’études pour la civilisation européenne (Grece)) الّذي شكّله آلان دي بينوا Alain de Benoist في فرنسا منذ سبعينيّات القرن العشرين حول فكرة الثقافة «الهنديّة الأوروبّية» و»العرق الأبيض» بوصفهما ناقليْن للهويّة الكاملة للمجتمعات الأوروبّية11.
لقد أثارت هذه المقاربات الكثير من الجدل. إذ يُؤخَذ عليها أوّلا تصوّرها المتطرّف للغاية للفرد باعتباره سجينا داخل منظومات معياريّة مدمَجة، ويكون سلوكه من ثمّة محدَّدا بالكامل من خلال السّمات الثّقافيّة لمجموعته الّتي ينتمي إليها، وهو تصوّر في نهاية المطاف غير واقعيّ للغاية، بالنّظر إلى تعدّديّة تجارب التّنشئة الاجتماعيّة الّتي تشكّل السّمات الثّقافيّة للأشخاص الواقعيين وتعقيدها. كما يُؤخذ بشدّة على التّوجّه الثقافويّ لتفسير الوقائع الاجتماعيّة مَيله إلى إضفاء الطّابع الجوهريّ l’essentialisation على خصوصيّات ثقافيّة يتمّ فصلها عن أيّ سياق اجتماعيّ وتاريخيّ. والنّتيجة الطّبيعيّة لذلك هي الميل إلى تطبيع الفوارق الّتي يميل هذا التّوجّه إلى إلقاء المسؤوليّة عنها على تصرّفات أولئك الّذين يتحمّلون وطأتها في المقام الأوّل ومواقفهم، وذلك في توافق مع الميل إلى «إلقاء اللّوم على الضّحايا» الّذي يميّز نوعا من الخطاب المحافظ12.
المرغوبيّة والمشروعيّة
تتعارض المقاربة السّوسيولوجيّة للفوارق الثّقافيّة مع النّزعة الجوهريّة للمقاربة الثّقافويّة. فهي لا تختزل الفرد في هذا الكائن المفرط في اجتماعيّته، الّذي تحدّده كلّيّا خصائصُ المجموعة ويُختزَل في مجموعة من السّمات الثّابتة. ولكنّها تأخذ بعين الاعتبار تعدّديّة شبكات التّنشئة الاجتماعيّة والمؤثّرات الّتي تمارَس على الفرد. وهي تُدرِج الوقائع الثّقافيّة ضمن علاقات التّعاون والتّنافس والقوّة الّتي تجري في الحياة الاجتماعيّة حيث تعمل بمثابة علامات للهويّة الاجتماعيّة والجيليّة والعرقيّة والدّينية والجنسيّة وغيرها الّتي تتجلّى في نظام طرائق التّحدّث (كالمفردات، والصّيغ التّعبيريّة النّحوية، واللّهجات)، وعادات الأكل أو اللّباس، والقيم والمعتقدات الأخلاقيّة، والأذواق والمعايير الجماليّة.
وهكذا فإنّ المقاربة السّوسيولوجيّة للفوارق الثّقافيّة تلقي الضّوء على الطّابع الهرميّ للوقائع الثّقافيّة التي تنتجها العلاقات بين المجموعات الّتي تحمل أذواقا وطرق عمل وتفكير وقيما وسجلاّت تعبير وأنماط حياة غير متجانسة. ووفقا لهذه المقاربة، فإنّ عدم المساواة ليس متأصّلا في الخصائص الملازمة للسّمات الثّقافيّة لفرد أو مجموعة ما، بل هو تعبير عن علاقة قوّة تؤدّي إلى أن تكون بعض الموارد الثّقافية مرغوبا فيها وأكثر مشروعيّة اجتماعيّا من غيرها. بعبارة أخرى، إنّ عدم المساواة ليس نتاجا للثّقافة والاختلافات الثّقافيّة، بل نتاج للتّنافس المزدوج على تعريف الموارد الثّقافية المرغوب فيها وعلى الوصول إلى هذه الموارد. وبسبب هذا التّنافس المزدوج، فإنّ قياس الفوارق الثّقافية يواجه عدم استقرار في معاييره. ففي حين أنّ قياس الفوارق في الثّروة يمكن أن يستند إلى معايير مستقرّة وعالميّة نسبيّا، وإن كان ذلك بالتّأكيد بفضل عمليّات تحويل وتحيين متفاوتة التّعقيد، فإنّ قياس الفوارق الثّقافيّة يجب أن يتعامل مع الطّابع المتغيّر جوهريّا لمعايير المشروعيّة والمرغوبيّة الاجتماعيّة في الخيرات الثّقافية الّتي تختلف من مجتمع إلى آخر ومن عصر إلى آخر. وكما سنرى خلال مناقشة المسألة في الجزء الثّالث من الكتاب، فإنّ الحقبة المعاصرة تتميّز جزئيّا بمَحْوٍ معيّن لمعيار المشروعيّة الثّقافيّة المرتبط بمعارضة الثّقافة العالِمة والعلوم الإنسانيّة، من ناحية، وبالثّقافة الشّعبيّة وصناعات الثّقافة الجماهيريّة، من ناحية أخرى، لصالح معيار جديد يعتمد بشكل أكبر على الانفتاح على التّنوّع الثّقافيّ وعلى الغيريّة.
تنقسم المقاربة السّوسيولوجيّة للفوارق الثّقافيّة أيضا إلى فرعين رئيسيين يميّزهما الاهتمام المشترك بالتّنافس المزدوج الّذي تناولناه قبل قليل. قسم كبير من الأعمال والتّأمّلات حول مسائل عدم المساواة الثّقافيّة يركّز على قياس عدم المساواة في النّفاذ إلى الموارد الثّقافيّة، وتحليل أسبابه وعواقبه، ولكن دون البحث في أصل المرغوبيّة الاجتماعيّة في الموارد المعنيّة. في حين تشكّل دراسة البناء الاجتماعيّ لنطاق الموارد المنظور إليها على أنّها مرغوب فيها ومشروعة الفرعَ الثّاني من المقاربة السّوسيولوجيّة للفوارق الثّقافيّة. إنّ هذه الدّراسة هي من صميم علم اجتماع الثّقافة والتّعليم «النّقديّ» الّذي بُني في سياق متابعة أعمال بيير بورديو Pierre Bourdieu وجان كلود باسيرون Jean-Claude Passeron، اللّذين كان هدفهما تفكيك التّعسّف الاجتماعيّ للمعايير الثّقافية والتّعليميّة النّابع من قدرة الطّبقات المهيمنة على فرض الاعتقاد على بقيّة المجتمع برفعة الموارد الثّقافيّة الّتي تتمتّع هذه الطّبقات بامتياز الوصول إليها13. إنّ الارتباط الإشكاليّ في كثير من الأحيان بين هذين الفرعين من المقاربة السّوسيولوجيّة للفوارق الثّقافيّة هو في قلب التّفكير الجاري في هذا العمل وسيتم الرّجوع إليه باستمرار في الفصول التّالية.
عدم المساواة في النّفاذ وعدم المساواة في المعاملة
إنّ نوعيْ المقاربة السّوسيولوجية للفوارق الثّقافيّة اللّذين ناقشناهما للتو يغذّيان سجلّين متميزيّن ومتعارضين في بعض النّواحي لردود الفعل على الفوارق وآثارها. ويتجلّى التّوتّر بين هذين السّجلّين في مطالب الفئات المعرَّضة لهذه الفوارق وفي بلورة تدابير السّياسة العامّة المكرّسة للحدّ منها.
إنّ إبراز التّوزيع غير العادل للموارد الثّقافيّة أو التّعليميّة يغذّي منطقيّا المطالبة بالمساواة في النّفاذ. وهذه المطالبة تعبّر عن نفسها من خلال سياسات تكون فعاليّتها مشروطة بشكل رئيسيّ بالتّحديد المناسب للمسارات الّتي تشكّل مصدر التّفاوتات الملحوظة. ففي مجال التّعليم، يغذّي منطقُ عدم المساواة في النّفاذ إليه عددا كبيرا من المذاهب السّياسيّة والبيداغوجيّة الّتي تركّز بشكل خاصّ على اختيار أدوات التّدريس ومناهجه. كما يثير منطق عدم المساواة في النّفاذ هذا مسألة الوسائل المخصّصة للتّعليم وتوزيعها، الّتي تشكّل، في فرنسا على سبيل المثال، مصدر سياسات التّعليم ذي الأولويّة، («مناطق» ثم «شبكة» التّعليم ذي الأولويّة – ZEP وREP) أو التّدابير الّتي تهدف إلى تعديل حجم الفصول أو المؤسّسات التّعليميّة، والموارد المادّية الموضوعة على ذمّتها، ولكن كذلك أساليب توظيف المعلّمين وتكوينهم. أمّا في المجال الثّقافيّ، فإنّ منطق عدم المساواة في النّفاذ إلى الثّقافة يُلهم إلى حدّ كبير خيارات سياسة التّسعير لمؤسّسات نشر الثّقافة، واختيارات مواقع المعدّات وتوزيعها الإقليميّ، وبلورة سياسات الوساطة الثّقافيّة أو التّوعية الّتي تستهدف السّكّان الأكثر ابتعادا عن العروض الثّقافيّة وتنفيذها.
في مواجهة المُطالبات والتّدابير القائمة على منطق المساواة في النّفاذ، تقف المطالبات والتّدابير القائمة على المساواة في المعاملة. هنا، لم يعد يُنظر إلى عدم المساواة من زاوية التّفاوتات في توزيع الموارد الثّقافيّة، بل من زاوية المعاملة الممنوحة لأكثرها مرغوبيّة ومشروعيّة، على حساب الموارد الأخرى الّتي تُعتَبر أقلّ مرغوبيّة ومشروعيّة. إنّ منطق المساواة في المعاملة يشكّك في التّعسّف الاجتماعيّ لنطاق الموارد الثّقافيّة المثمَّنة، وتطالب بتوسيع هذا النّطاق ليشمل فئات أخرى من الموارد. وفي المجال الثّقافيّ، يُلهم منطقُ المساواة في المعاملة هذا السّياسات الّتي تركّز على توسيع نطاق الذّخيرة الفنّيّة والثّقافيّة المدعَّمة والمدعومة بما يتجاوز المجال الوحيد للفنون المكرَّسة والثّقافة العالمة، وذلك من خلال تثمين الثّقافات الشّعبية وتعبير الأقلّيات الثّقافيّ، على وجه الخصوص14. وفي الميدان التّعليميّ، يتحدّث هذا المنطق عن توجهات تعليميّة معيَّنة تتمحور حول التّلميذ وبناء المعارف والمهارات انطلاقا من تجارب التّلميذ الخاصّة، وهو ما يتعارض مع الأساليب التّربوية الّتي تتمحور حول نقل المعرفة من قِبل المعلِّم15.
الفصل الأوّل من كتاب Culture de masse et société de classes، منشورات بيف، 2021.