
الكاتب والشاعر: شاهين السّافي
معاوية بن أبي سفيان شخصيّة تاريخيّة مهمّة ضمن السياق الذي درج المؤرخون على تسميته بـ “الإسلام المبكّر”. هو شخصيّة مهمّة لأنه كان موجودا في قلب الحدث التاريخي وفاعلا فيه ومؤثرا في مجرياته، وهذا بغض النّظر عن الرأي والموقف الذي قد نحمله من معاوية وحزبه أو خصومه أحزابهم وشيعهم، وبغضّ النّظر أيضا -وهذا في تقديرنا أهمّ- عن الزاوية التي ننطلق منها في إبداء الرأي (علميّة تاريخيّة/سرديّة دينيّة) ومدى أهليّتنا للتصدي لمثل هذا الأمر الذي يستوجب معارف علميّة ودقّةَ اطلاع وابتعادًا عن العواطف والأهواء.
تحوّلت شخصيّة معاوية إلى مسلسل تلفزيوني رمضانيّ، وهو يبثّ الآن في بعض القنوات الفضائيّة، وككلّ مرة تتحوّل فيها شخصيّة تاريخيّة إلى عمل فنيّ، يكثر الحديث ويسيل حبر كثير وقد تسيل دماء أكثر، وكلّما كانت الشخصيّة التاريخيّة محاطة أكثر بهالة من التقديس، كلّما اتسعت رقعة الصخب، وضاعت أصوات العقل والحكمة في زحام الصراخ.
******
يلعب الفنّ في هذا السياق دورا مركّبا وخطيرا في آن معا، فهو ينقل الشخصيّة من سياقها الأصلي الذي وجدت فيه وهو “التاريخ”، إلى سياق جديد مختلف في الطبيعة وهو “الفن” أين يتحوّل السياق الأصلي إلى عنصر فني يدرس ضمن الجانب المرجعي فيه. وهذا النّقل قد يكون أحيانا سلسا مرنا مستساغا إلى حدّ تضيع معه الفوارق بين الشخصيّة كما هي، أي كما وجدت في التاريخ، أو بصورة أكثر دقّة، كما تذكرها كتب التاريخ وكما قدّمها الباحثون فيه بعد انكبابهم على دراستها، دون أن ننكر اختلافاتهم، وبين الشخصيّة الفنيّة المرتكزة على التخييل، وهي مهما بلغت درجة تقاربها مع المرجع لا يمكن أن تكون هي، فهي شبيهتها في عالم الفنّ الذي يصوغها وفق منطقه ومتطلباته، ويمكن أن نجد للشخصيّة التاريخيّة الواحدة أكثر من شبيه لها في عالم الفن، وكلّ شبيه له ما يجمعه بالمرجع وما يفرقه عنه، بل أكثر من ذلك له ما يجمعه بباقي الأشباه وما يفرقه عنهم أيضا.
لنضرب لذلك مثلا.
استلهمت العديد من الأعمال الفنيّة الدراميّة أو السنيمائيّة، شرقا وغربا، من الحروب الصليبيّة مادتها السرديّة، وكانت شخصيّة صلاح الدين الأيوبي حاضرة فيها بأشكال متعدّدة، وفي هذا السياق نذكر فيلم “الناصر صلاح الدين” للراحل يوسف شاهين (إنتاج 1963) وقد أدى الشخصيّة الفنان أحمد مظهر، ومسلسل “نسر الشرق” (إنتاج 1999) وقد قام بأداء الدور الفنان حلمي فودة، ومسلسل “صلاح الدين الأيوبي” (إنتاج 2001) وأسندت فيه البطولة للفنان جمال سليمان، والفيلم الأمريكي “ملكوت السماء” (Kingdom of Heaven) وفيه لعب الفنان السوري غسان مسعود دور صلاح الدين الأيوبي..
نزعم أنّ كل من شاهد هذه الأعمال، مهما كانت درجة ارتباطه العاطفي بسياق الأحداث وبشخصيّة صلاح الدين تحديدا، سيقرّ أنّنا بصدد مجموعة من “الأشباه” لهذه الشخصيّة لا تشبه بعضها، ليس فقط في مستوى الهيأة والشكل والملامح، ولكن أيضا في مستوى أحداث الحكاية، جزئيّا أو كليّة، وفي مستوى الأفكار التي تتسرّب من خلال عمليّة سرد الأحداث، أي في مستوى الخلفيّة الفكريّة وارتباطها بواقع اللحظة وتناقضاتها، فالفن هنا لا يقوم بعمليّة بلهاء تكتفي بنقل الماضي، بـ”حياديّة” كاميرا المراقبة، إلى متلقٍّ يعيش اليوم، وإنّما هو ينقل الحاضر -بشكل ما- من خلال استدعاء الماضي ليقدّمه إلى متلقّ متلهّف إلى إقامة الدليل على صحة فكرته -مهما كان سخفها أو وجاهتها- وذلك من خلال دغدغة الشعور أنّ لتلك الفكرة جذورا في الماضي وامتدادا في الحاضر.
******
يبدو أنّنا أمام إشكاليّتين، أو ربما أمام إشكاليّة ذات وجهين، الأولى تتعلق بكيفيّة صياغة عمل فني يستلهم من أحداث التاريخ مادّته السرديّة، وقد خضنا في بعض جوانبها آنفا، والثانية تهمّ كيفيّة تلقي هذا العمل وهي تطرح أسئلة كثيرة مدارها علاقة الفنّ بالمرجع (التاريخ)، وفي ذلك فليختلف المختلفون، ولكن من المهمّ -في سياقنا هذا- أن نضع ضمن دائرة الضوء ذلك الضّرب من التلقّي المتشنّج المشحون دينيا وسياسيا الذي لا يكشف فقط عن جهل بالفنّ وطبيعته والتاريخ وتفاصيله، وإنّما يكشف أيضا عن ذلك التوثّب والجاهزيّة لكلّ أشكال ردود الفعل، حتى الأكثر عنفا، في مواجهة عمل فني درامي قد يراه البعض تخطى عتبة المحظور في عملية استلهامه من التاريخ.
بعد بثّ الحلقة الأولى من مسلسل معاوية، تعالت صيحات من الجانب الآخر المعادي، وقالت إنّها ستردّ على هذا “الاستفزاز” بإعداد عمل فني عن شخصيّة أبي لؤلؤة، وهو كما هو معلوم مجرم في السرديّة السنيّة، فهو قاتل عمر بن الخطاب، ولكنه بطل في السرديّة الشيعيّة فهو من خيرة المؤمنين وصفوة أتباع علي بن أبي طالب، فكأنّنا بالحروب الطاحنة التي دارت رحاها في الأزمنة الغابرة قد بعثت من جديد وبأدوات جديدة (الفنّ/الدراما/ السينما)، لتكون الصورة كالآتي: تصوّرات غابرة أنتجتها بنى اجتماعيّة قديمة تقليديّة تمتطي صهوة منجز الحداثة (الفنّ/الدراما/ السينما)، ليس فقط للتعبير عن استمرار وجودها إلى اليوم، بل لتثبت أنها براء من كل ما أنتجته الحداثة من “رجس”.
معاوية بن أبي سفيان قد مات. ودولة بني اميّة التي أسسها انتهت هي الأخرى، وخصومه كذلك وخصوم دولته كلهم باتوا في ذمّة التاريخ. ولكن جهالة البعض تكره أن يكون للتاريخ ذمّة، وأن يبلغ صوت العلم كلّ قمّة. ومن هؤلاء من يحترف النّفخ في الهويات الميّتة بغاية إعادتها إلى الحياة، أو الإيهام بعودتها إلى الحياة، أو بالأحرى بغاية الاتكاء على أشباحها وخيالاتها في تبرير ما تقترفه الأيادي من جرائم وفظاعات، وقد رأينا مؤخرا ما ارتكبه المقاتلون المنتسبون إلى السلطة الحالية في سوريّة من مجازر في المدن والقرى العلويّة، أحفاد أتباع علي بن أبي طالب، وسمعنا بعضهم يصيح بهياج كبير: “نحن بنو أميّة جئناكم بالموت إلخ…”
بنو أميّة؟ هل ثمّة بنو أميّة اليوم؟
اختلط الأمر على من يشاهد تلك الفيديوهات، هل نحن أمام مشهد واقعي أم مشهد سينمائي يصور حياةً من الماضي؟ أم هي لحظة حلول انصهر فيها الماضي بالحاضر داخل بعض الأذهان المختلّة فكان ذلك المشهد وليدا لذاك الاختلال؟
ينظر بعض علماء التاريخ والباحثين فيه إلى ما يسمى بـ”تاريخ الزمن الراهن” أو “تاريخ اللحظة” بنوع من الحذر وقد يصل حدّ الارتياب، والحجة -وهي ذات وجاهة- مفادها أنّ الحدث مازال غير مكتمل، أو مازال ساخنا، وهو ما يفتح الباب أمام كلّ ضروب المطبات في البحث، وبالتالي من المفيد أن تفصل الباحثَ عن الحدث موضوع بحثه مسافةٌ زمنيّةٌ، هي مسافة الأمان، حتى يتجنّب الوقوع في المحظور.
ولكنّ من الواضح والجليّ أنّ بعض الوقائع التي حصلت في فترة “الإسلام المبكّر”، منذ أربعة عشر قرنا مضت، مازال الحديث عنها، إلى اليوم، يصيب بعض الأقوام بالجنون.