spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

البكالوريا: إيروس والانتصار للحياة

بقلم: نورة عبيد – كاتبة تونسيّة-

يشتغل الكاتب الأديب عبد المجيد يوسف، منذ أعماله الأولى على ما يسمّيه النّقد العربيّ “بالأدب اليوميّ” أي ذلك الأدب الذي يعنى باليوميّ البسيط العادي. فيجعله مدار بحثه السرديّ والشعريّ وحتّى في ترجماته، وعلينا – كقرّاء- أن نتقصّى ما هو أدبيّ تخييليّ يثير الدهشة ويمعن في الالتفات إليها..

الباكالوريا؛ سرديّة خفيضة الصوت، – وإن علا – تستثمر المفردات السيارة والأحداث اليوميّة، وكلّ ما ينتسب إلى العادي والمألوف، كلّ ما يقبل التجاوز انتصارا للغد.

“الباكالوريا” نوفيلا لفقيد السّاحة الثقافيّة التّونسيّة عبد المجيد يوسف – رحمة الله عليه- صدرت عن دار الفردوس للنشر أفريل 2024 بعد وفاة كاتبها. الباكالوريا اختارت لها من الأجناس الأدبية “النوفيلا”. وأميل إلى اعتبارها “نوفيلا” لما توفّر عليه القصّ من خصائص تجعله خارج دائرة الرواية والقصّة. وأستند في هذا التصنيف إلى قول روبرت شولز” إنّ القراءة والكتابة كلتيهما عمليّة نوعيّة. فالكاتب لا يتصوّر فكرته إلاّ في سياق ما تمّ فعلا.” فهذه السرديّة جرعة، لا تنقسم إلى فصول، تقرأ في جلسة، تركّز على حدث مركزيّ. تتخيّر له شخوص “عاديّة” تدور في فلك الأحداث العاديّة القائمة على وحدة الزّمان والمكان.  هي نوفيلا تتسم بمركزيّة حدث، يضغط على بقيّة الأحداث ويتلاعب بتعاقبها. تضيّق الحدث وتعدّد روافده. تكثّف وتوسّع بتبئير حاد ودائم للحدث المركزي.  كلّ هذه التّيمات متوفّرة في “الباكالوريا” لأجل البكالوريا الحدث المنتظر في طبربة، في حيّ بئر الزيتون

بين منزلين، أحدهما بطابق سفليّ والآخر بطابق علويّ مجاور لمقهى النسيم. كلّ الحكاية من السّبت إلى السّبت. يومان من أسبوعين تمّ فيه الامتحان؛ امتحان الباكالوريا. وما تمّ إلى أن طلعت أرواح وهبطت، وظهر خنار وتحلّت الخبيلة. ودار سعد المخّ تستقبل وفود المهنّئين المباركين لابنته البكر أفراح بالنجاح في الباكالوريا في زمن الكورونا والعاقبة لأماني الأخيّة الجميلة.  نوفيلا منحوتة نحتا مخصوصا. مسرودة بحبكة لا تقبل الزيادة والنقصان. لغتها تلتصق بجلدة الحياة المكسوّة بتعب الأيّام وتقلّب الأحوال. تروي بتفصيل بهيج حياة الجاريْن؛ فرحات بن عيسى وهنيدة، وسعد المخّ، ولطيفة، وأفراح، وأماني. وتنقل في احتفاليّة الصّخب ما يدور على بوابة مقهى النسيم؛ ركوة أصوات تكتشفها تباعا المولدي شهيب النّادل والكونتواريست الناصر غوّار. سيّدا المقهى والعباد من الروّاد؛ الحاج مصطفى البرّاني وفتحي الحرّازي والحاج محمد وحسن بن جامع والناجي التاجوري وعلي ولد اللّبة والمولدي الحرّازي وعمر كميشه وزوجته اليامنة والسبوعي البوليس والهادي بن صالحه.  أسماء من صميم الأحياء الشعبيّة تتنفّس الحياة وهي تغلي غليان الباحث عن فسحة للحياة. تمتدّ الأسماء وتخرج لسانها وتتجاسر بلغتها الصّميمة من قلبها، وعقلها، وفورتها، وصخبها. بعراكها ووداعتها تقول نفسها وكأنّنا غير موجودين. لا تقيّة ولا مواربة. لغة جسورة حاكها الكاتب على لسان سارد عليم يحايث النّاس ويتعاطف معهم. فلا يهملهم ولا يردعهم. يقدّمهم إليك عراة من الزّيف.                                               لغة تحتفل باللّسان العربيّ احتفالا مخصوصا. عربيّة فصيحة قحّة بمقدار ولغة عاميّة دارجة بمقادير. أوراد وأوتار هي اللغة تحتفل بالنّاس وهم يتطهّرون بماء الماجل أو البئر ليكشطوا باحة المنزل والمقهى ليصفو العصر من شهر جوان السّاخن بطبربة إحدى الضّواحي الغربيّة للحاضرة تونس. لغة تعلو وتخفت، تضيق وتتسّع، ترغو وتزهو، تشني وتتغزّل، تشكّك وتقرّر، أعمالها تكشفها اللغة في كساء البشر من لحم ودم، تستخدم الألفاظ الدّارجة والعاميّة واليوميّة والأغاني الشعبيّة. لغة تتوسّل بها النوفيلا يديرها السّارد، يخلقها الكاتب بقصديّة لأنّ تلك الألفاظ هي الوحيدة القادرة على نقل الصور التي قصد إليها الكاتب. النوفيلا حفلة وصف ساحرة شائقة. لوحة بلوحة نظامها قائم على التّوازي. من الدّاخل إلى الخارج، من الخاص إلى العام ينقل الحدث الرئيسيّ مغلّفا بالأحداث التي تتوالد منه وتتفرّع. فالنوفيلا والأدب عموما لا قاموس له. لغة عفيفة تقدّم النّاس مخلصة لجوهرهم السّاخط، وفي حفلة النّجاح في الباكالوريا تصوّر جوهرهم الرّاضي، وعلى باب الأرزاق تتفنّن في رسم جوهرهم اللاّهث.

تنطق اللّغة على أفواه السابلة – كما أزمع الكاتب. وأبدع في استعمال هذا اللفظ – لذلك كان القصّ في النوفيلا مبذولا على التّفاصيل، والكاتب عابر سبيل يرصد الأذهان قبل الأبدان، ويتعاطف مع الأرواح دون مدح ونواح. ولكلّ امرئ من دهره ما تعوّد كما قال السّارد! سياق النّوع الأدبيّ خلق مخلوقاته في تمام الأسماء والأفعال. وحركة النّفس والوجدان وتقلّبات اللّهيط خلف الخبزة والعيش وغصراته. حكاية من زمن الكورونا. النّاس بالبيوت تقتل الوقت قبل أن يقتلهم. فها هي هنيدة ترتّب لفرحات قعدة أنس معتّقة بنسائم العصر لباحة بيت مكشوطة بالماء، معطّرة بحبّ الزوجين للتبّرج والتمتّع والتحرّر.

هو أدّى الفرض. وهي سوّت الأرض. وما ضرّ لو نقبا الممنوع وكسرا المسطور؟ رأسان لا ثالث لهما غير التغنّج والتدلّل والتخفّف من ثقل اللباس والعادات و”إلي يجي وما يجيش”. قعدة تستهل “بِمُصْ”! مُصْ النارجيلة المعدّة بافتتان وإتقان لتدار الصبوات بين هنيدة وفرحات على النّغمات الصّفويّة منها والشّعبيّة؛ عودت عيني على رؤياك وعلى الجبين عصابه. تخميرة في الرّوح وأخرى للبدن. خمر ورقص وشجن. أدّى الفرض وانقب الأرض. قانون حياة فرحات وهنيدة. حياة لفوق وعيش لتحت. “فتشرقع” الموسيقى، فيجنّ سَعْدْ المخّ ويطلّ من علٍ .فيرى هنيدة وقد تعرّت مخمورة مأخوذة، جرى على لسانها الكلام وقد تعرّى من زيف التنميق والتخفّي. ويحلو لفرحات أن تبذأ هنيدة وقليلا ما تفعل. رأس حرام يطلّ من السّطح يسبّ و”يجيب ويجلّب” ويحلّل ويحرّم. يهيج ويكشكش ريقه. جاره الأقرب من أخيه، يرقص ويغنّي وابنته أفراح تراجع للباكالوريا. راهي أفراح تحضّر للباكالوريا.

فيثور فرحات وتقوى الصيحات بدعوة سعد المخ “كانك راجل اخرج لي لبرة”. ولولا هنيدة لخرج. ولكن هيهات اخفت المفتاح في صدارها. ومن خوفها على الحياة فأغمي عليها. فهبّت لطيفة زوجة سعد المخ. تعيد الحيويّ للروح والجسد. وخرج السار “لبرة”. ومن الخارج تنهال مشاهد العركات الكبرى. سعد المخ يتقصّى الجميع يطالبهم يكضم أصواتهم وبلعها إن لزم الأمر. فأفراح ستجتاز امتحان الباكالوريا. باب الحيّ مقهى النّسيم، في محيطه وباحته يدار أمر البلاد والعباد؛ رامي ودومنو وسياسة وكورونا ونجاح ورسوب ورجال ونسا، تجارة ودين، شراب وقرآن، خمر وميسر، سبّ وشتم، الكلّ يفشّخ الكلّ كما فشّخ المولدي الحرّازي عشرة دلاّعات وجرى الأحمر كما يجري الدمّ، وهناك السّبوعي البوليس يسرّح السّيارات والموترات والسياقان بعد أن تقول “طقْ” فيقول “بنْ”! ركوة كغلوة، دِينٌ ودَيْنُ، غفوة ولهوة حتّى أطلقت لطيفة الزغاريد ونجحت الطُفْلة أفراح! نجحت! السكايب تنجِحْ وبامتياز زاده! الشّارع يهجم على دار سعد المخ ولطيفة والأوراق النقديّة تسبق الأرجل والألسن وتسكن كفّ أفراح ووحدها تعرف المحصول.

من العصر إلى الليل تقاوم الحفلة. ولطيفة وهنيدة من المطبخ إلى مطبخ يتبادلان المستور. هنيدة تنهل من الحياة أقصاها سجائر وكأس، وكأسين، وثلاث، وخامس.. ولطيفة تثغو فسي سعد المخ منذ 2011 تقلب. وتركها هملا. فأكلها الغبن. وما ضرّ لو تقتات بجمال هنيدة حين أخلّ سي سعد المخ بالمخيخ! الحياة جوع للحبّ والجنس، واللهو، والسلوى والنسيان. هكذا تحدّث النوفيلا. ترقص الكلمات والأجساد وقد كساها السارد وربّها ثوب السابلة. تقول الكلام في كفّه الغار أو في كفّه العدم. خصام تلاه سماح، وحفلة الباكالوريا في دار لطيفة يدخلها القاصي والداني، السوكارجي والحاج، لكبير والصغير، العارك والمعروك. في دار سعد المخ اعتراف واغتراف من طهارة الإنسان، يطير ويهبط وما يبقى في الواد كان حجرو؛ القلب اللّطيف والظلّ الخفيف. ذاك الإنسان لسان ما فيه عظم! هنيدة ملكة الحسّ والشبق ولطيفة سيّدة الذهول. امرأتان من زريعة الشيطان لا تقبلان بأجساد لا حسّ فيها.

تضامن عاطفي بين هنيدة ولطيفة. فالحياة دوم ماء تذبل وتذوي!  وتطول ليلة الاحتفال بالباكالوريا، تطول في خير الحاضرين وشرّهم. الهادي بن صالحه وعلي ولد اللبه يفسدان الحفلة بخصامهما… وللخصام طوران؛ طور التذكير والفورة وطور المناورة والفوره. والناّس في سبات وهياج، وخوف وتخوّف ينتظرون فكّ العركة. وفُكّت لأنّها يجب أن تفكّ. ففي بئر الزيتون يثمر الماء والملح، ولا يخون غصن السّلام؛ الزيتون! تهدأ النّفوس وتغيب الصور عدا صورة علي ولد اللّبه المسحور بأفراح! أفراح في هودج السرور ترقص وتهزّ المتع جميعها وعلى رأسها النجاح في الباكالوريا. بديعة هذه النوفيلا. على نهج سيدي البشير خريف يراقص الأديب عبد المجيد يوسف -رحمة الله عليه – الحياة. فيتحدّث بأفواه السّابلة عن السياسيين والمخمورين والمغلوبين والمكورنين والرّاسبين والنّاجحين. ويفهم في الغشّ باستعمال التكنولوجيا الذكيّة والكلمة الأذيّة. يخطئ السّابلة في كلّ شيء إلاّ في الحبّ والعشق والصبوات! 

يخلع عبد المجيد يوسف الشاعريّة على تناقضات الحياة اليوميّة. فيحدّث عن أسرار الحياة البشريّة. تستثمر التفاصيل وتنشر برمزيّة وقصديّة أهميّة الحياة التحتيّة القائمة على مصّ عنف الحياة الفوقيّة. سرديّة تتغذّى على توسيع خصومة سعد المخ مع العالم لتنجح أفراح في امتحان من أهمّ الامتحانات في حياة المتعلّم. امتحان تتجنّد له الدّولة والمجتمع، والعائلة والجيران، والمتخاصمين والمتناحرين. فمع الباكالوريا تتبدّل الأحوال. فترقّ النفوس وتمتدّ اليد للفلوس. فتغدق دون حسبان. هكذا سبق فرحات جميع المهنئين. فمدّ مائة دينار أوراقا لهنيدة تضعها في صدارها، لتقدّمها لأفراح إذا نجحت. ولم يخطئ فرحات ونجحت.  نجح السارد في قصّ حكاية مركزيّة مستخدما تقنيات سينمائيّة. وتطعيمها باليوميّ السائد. حتّى لكأنّه فصّح اللغة الدّارجة! فما يبدو مبتذلا مهملا بات مركزيّا مشتهى! لغة البسطاء تصنع بطولتها. وتظفر بجدارة الحسّ والشعور. تنطق بمصاعبهم ورغائبهم في صور صادمة وألفاظ فجّة وأحكام مسبقة. لغة تستجمع تعبيرات المرأة والرّجل، والحاج والسّكير، والباهي والدوني.  لغة تثير الإيروس وتصوّره كنشيد الحياة بحبّ وقلب ذكيّ. تلك هي الباكالوريا جرعة سلوى في زمن البلايا.

spot_imgspot_img