spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

الأيدولوجيا الأمريكية

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم

عشية انتخاب “دونالد ترامب” كرئيس للقوة الوحيدة المهيمنة في العالم والتي بإمكانها تدميره لو تصادف أن هناك مجنون في البيض الأبيض! لكن دونالد ترامب لم يخف شيئا عن الناخبين الأمريكيين وحياته الشخصية معروفة للسكان! وعندما أختار أعضاء حكومته وهم خارجين عن التيار الرئيسي الثقافي للأمريكيين منذ الستينات تأكد بأن اختيارات الإدارة الجديدة ساكنة في نسيج المجتمع ذاته وليست وافيه علية! وهذا يستدعي منا النظر في ظروف التأسيس وملابساته لنتعرف على القلب الصلب للإيدلوجية الأمريكية ونستخدم مفهوم الإيدلوجية هنا بتصرف كما استخدمه كارل ماركس في كتابه” الإيدلوجية الألمانية”!

عديد من التحليلات اعتبرت الرئيس 45-47 نشازا في تاريخ الولايات المتحدة، ولكن بالنظر إلى الإدارة الجديدة التي عينها ووافق عليها مجلس الشيوخ المنتخب بأغلبية جمهورية فإن التبسيط في الحالة الترامبية واعتبارها ظاهرة شخصية هو أمر كتشخيص هتلر باعتباره مجنونا خارج التاريخ الألماني او ستالين كنقيض للواقع الروسي آنذاك! لا يصعد أشخاص لقمة السلطة دون وجود واقع إجماعي في ظهرهم محبذ ومستفيد!

التاريخ الأمريكي لا يشبه تاريخ البلاد الرأسمالية الإمبريالية في القارة العجوز، فالمهاجرون هربا من نير الاضطهاد الديني في القارة أو بحثا عن المغامرة والثراء السّريع قد شكلوا تاريخا، يوجد بينه وبين التاريخ الأوربي، بون شاسع وعلاقات استمرارية.

هكذا يبدأ الدستور الأمريكي”we are the peuple”وهي بداية ميثولوجيه تستدعي الفحص بعد مرور حوالي قرنين من الزمان فمن هم “نحن” وما هو هذا “الشعب” لماذا الفحص؟ ذلك لإن هذه الأمة التي بدأت بمهاجرين احتلوا الساحل الشرقي وكونوا ثلاثة عشر ولاية تمردت على التاج البريطاني وكونت الجيش القاري من ميليشيات ومتطوعين وحدهم جورج واشنطون في جيش قاري وخاضت حرب الاستقلال بعد رفضها لضريبة الشاي وحققت الانتصار على جيش الإمبراطورية البريطانية التي آثرت في النهاية الانسحاب من القارة العذراء والتركيز على تجارة الهندبة وشرق آسيا والصين (شركة الهند الشرقية).

هذه الامة الوليدة قد أضحت خلال القرنين سيدة العالم اقتصاديا وعسكريا وثقافيا وخاضت حروبا متوحشة في الداخل والخارج تحت دعاوى شتى كثير منها أيديولوجي: تارة العالم الحر وتارة محاربة الشيوعية وتارة الديموقراطية وحقوق الإنسان ومؤخرا تحت دعاوى وعد إلهي لآخرين يملكون مقدرات ضخمة في صلب هذه الأمة وهم “الواسب ” WASP! (أمريكي أبيض بروتستانت)

يعود الألمان دائما للفيلسوف المؤسس” عمانويل كانت” والشاعر الدرامي “فولغانغ فون جوته” (فاوست وآلام ڤيرنر) ويعود الفرنسيين لـ” رينيه ديكارت” الكاثوليكي الهولندي الأصل وللأسطورة المُحررة المتدينة “جان دارك” بينما يعود الانجليز لـ”چون لوك” البروتستانتي و”توماس هوبز “مؤلف اللڤيثيان (وحش الدولة)! هؤلاء المؤلفون ليسوا خالقين لروحية (أيديلوجية) شعوبهم التي خلقتها عوامل متعددة أغلبها أسطوري لكنهم من زاوية معينة هم أولئك اللذين صاغوها في مؤلفات مشهورة تربي عليها المتعلمون الذين كتبوا الصحف وقاموا بالتدريس وألّفوا المسرحيّات والأغنيات والأفلام! لكن السّؤال لمن يعود الأمريكان؟

أيعودون إلى “توماس بن” الإنجليزي / الفرنسي/ الامريكي المُلحد ومؤلف “common sese ” وإلى “توماس چيفرسون” البروتستانتي والذي أصبح الرئيس الثالث للجمهورية الأمريكية؟ وكلاهما ممن يسمونهم الآباء المؤسسيين وكلاهما ترك بصمة واضحة على دستور الولايات المتحدة والذي أخذ مع الوقت طابعا مقدسا يشبه الكُتب المنزلة!! لم يحضر في جنازة الأوّل سوى خادمه وكلبه الوفي!

في القرن الماضي كان الأمريكان المتعلمون يرجعون أحيانا إلى الإنجليزي “إدموند بيرك ” المحافظ الإنجليزي، وخلال القرن العشرين كانوا يرجعون إلى الأمريكي “جون ديوي” المُلحد والبرجماتي وذلك مع اتساع الفارق الزمني بينهما (القرن السابع عشر والقرن العشرين) فالأول نبيّ للمحافظيّة والثاني وليّ للنزعة البرجماتية التقدمية!

قد لا تتطابق تواريخ وعوامل التكوين الايديولوجي النفسي التي مرت بها الرأسماليات الكلاسيكية مع ما حدث بأمريكا! فألمانيا مثلا استدركت تأخرها عبر “بسمارك” وجهاز بيروقراطي حديث ومعقلن وجد من ينظّر له في ما بعد في صورة “فردريك هـيجل” ثم “الاشتراكية الديموقراطية” وحتى “كارل شميت “.. وفرنسا في القرن التاسع عشر تراوحت بعد الثورة السّياسية البرجوازية والإصلاحات السياسية والبنوباترية السياسية خلال الجمهوريات الخمس مع وجود مجال استعماري آخذ في التقلص لكن عبر مؤسّسات بيروقراطية نافذة! بريطانيا والتي قامت بثورتها في القرن السّادس عشر، انتهت بصفقة ((compromise ووصلت لملكية دستورية تحكمها مؤسّسات مع ضمان ذلك بصناعة رائدة وامبراطوريّة نهب استعماري قام بتمويل استقرارها السّياسيّ المحافظ!

تركزت الأيدلوجيا الشعبية الأمريكية على موضوعين تاريخيين صاغهم خلال ذلك كتّاب وصحافيون في صياغات مؤثرة

التخوم (Border) أو الحدود المتحرك

نَظّر المؤرخ” فردريك جاكسون تيرنر” في “أطروحة التخوم” (1893) أن التّخوم كانت عملية تحويل الأوروبيين إلى شعب جديد، الأمريكيين، الذين تركّزت قيمهم على المساواة والديموقراطية وكذلك الفردانية والاعتماد على الذات، وحتى العنف، وهو يَزعم بأن الحدود الغربية المتحركة قد شكلت الصيرورة التي كوّنت العقل الأمريكي، وهكذا أعلنت أطروحة التخوم الغربية لتكون عمليّة محدِّدة للتاريخ الأمريكي.

تحركت الحدود الأمريكية عبر الزمن فبعد “صفقة لويزيانا” وإبادة القبائل الهندية الحمراء التي كانت تعيش وترعى في هذه البقاع الواسعة! والتي تضاعفت بها مساحة الولايات المتّحدة ثم الاستيلاء بالعنف على نيو مكسيكو والسّيادة على جزر المحيط الهادي ومنها جزر هاواي والسوما الطى صارت ولايات أمريكية مختلطة الأعراق بعد هزيمة اسبانيا في الحرب الأمريكية الإسبانية ثم صفقة شراء ألاسكا من القيصرية الروسية.

القدر المتجلي (الوعد الإلهي-أرض الميعاد)

————-

وبالإشارة إلى أصول الصّراع الاستحواذ الإقليمي، كما تُبيّنه خريطة كانتينو الخاصّة بنصف الكرة الأرضية فإنه يمكن تمديدها على أصول الاتجاه الذي يحدده البيان، وقد ظهرت لأول مرة في مقالة (انيكسيون) للصحفي جون ل. أوسوليفان، التي تم نشرها في مجلة المراجعة الديموقراطية في نيويورك، في عدد يوليو- أغسطس في 1845.الذي ذكر فيها:

“تحقيق القدر المتجلي يتطلب انتشارنا في جميع أنحاء القارة التي حددتها لنا السماء من أجل تطوير تجربة الحرية والحكم الذاتي وهو الحق في وجود شجرة للحصول على الهواء والأرض اللاّزمين لتطوير كامل لقدراتنا المشابهة”

بل ربما التطابق بين الأيدلوجية الأمريكية والصهيونية ليس مجرد توافق عرضي فكلاهما أتى من أصول توراتية وحتى المسيحية الصهيونية هي عودة لنصوص العهد القديم! لكن أمريكا توافد عليها هجرات من منابع ثقافية ودينية عديدة فالأقلية السوداء قبل وبعد تحرير العبيد كان لها تفسيرات مختلفة لأرض الميعاد والوعد الإلهي الذي لم ينكره تماما محررون عظام في حركة الحقوق المدنية كالقسيس “مارتن لوثر كينج ” و”باراك حسين أوباما” صدر له كتاب مؤخرا بعنوان “الأرض الموعودة “! وحتى كتاب وشعراء امريكيين كبار” هيرمان ميلڤيل”(موبي ديك) و”جون شتاينبك”(عناقيد الغضب) والشاعر الأشهر” والت ويتمان” (أوراق العشب) تحتوي كتابتهم هذا التأثير.

بالنظر لما سبق فإن حديث ترامب عن ضم كندا وقناة بنما وحتى جرينلاند ليس خارج السياق الايديولوجي التاريخي للولايات المتحدة ويشكل جزءا هامّا من التكوين النفسي وكما كتب الكاتب “ديفيد بروكس” لهو تكرار لما في كتاب المدرسة للسنة التاسعة ابتدائي!

طبعا القرن التاسع عشر غير القرن الواحد والعشرين لكن تجربة العقدين الأخيرين لصعود القوميات اليمينية المتطرفة في كل القارات وقبلها صعود النازية ( التفوق العرقي الجرماني) تعلّمنا أن العودة للتكوينات الأيدلوجية العرقيّة والعنصرية القديمة هو أمر ليس مستبعدا بل أحيانا لصيق بالتيارات الشعبوية في الشرق والغرب ومن ضمنه العودة لنصوص دينية قديمة جدّا كما الأصل الإبراهيمي للدّيانات الشرق -أوسطية وإعادة تفسيرها وهي مناقشة تدخل فيها مؤخرا المؤرّخ الفلسطيني الكبير “رشيد خالدي” وهى محكيّات أسطورية يمكن فهمها أنثروبولجيا وتشكلت في أوقات لم يكن هناك سوى قبائل تعيش في ترحال تبحث عن مصادر المياه ومراعي للأغنام وتتنازع على موارد شحيحة للمياه وتنشئ أساطيرها المؤسّسة.

تبعا لذلك، شهدت الولايات المتحدة صعود نزعة شعبيّة مدمّرة في بدايات الحرب الباردة بين القطبين آنذاك تمثلت في” المكارثية” التى قادها سيناتور في مجلس الشيوخ المنتخب في قلب حملة هستيرية للتحقيق والبحث داخل المجتمع الأمريكي عن عملاء للشيوعية معادين للولايات المتحدة وشملت هذه الحملة العديد من المثقفين والفنانين المشهورين ومن بينهم “مارلون براندو” والمسرحي الأشهر “آرثر ميللر” وشهد عليهم السينمائي “إيليا كازان” حتى “أوبنهايمر “مدير المشروع النووي(مانهاتن) طاله التحقيق.

الإيدلوجيا الأمريكية أيضا تشكلت قبل”هنري فورد” و”كارينجي” و”روكفلر” وتايلور و”البارونات اللّصوص” الصناعيين الكبار اللذين كانوا ومازال ورثتهم يعملون ويربحون ضمن أُطر تمثيلية ومفاهيم ليبرالية! لكن، قلب أمريكا في الأرياف الممتدة من حدود الساحل الشرقي لحدود الساحل الغربي بقيت محافظة وحافظة للميراث الإيديولوجي في صورة مسيحية ألفية (أصولية) وصهيونية مثل سفير أمريكا في إسرائيل الواعظ الكريزماتي “هوكابي”!

أحدث انتخاب أول رئيس ديموقراطي اسود (باراك اوباما) هزة في المجتمع الابيض التقليدي وسط مؤشرات تشير إلى تقلص نسبة السكان “الواسب” في الولايات مع هجرات واسعة للاتينيين من الحدود الجنوبية وزيادة الإنجاب في مجموعات إثنية غير بيضاء. الطبقة العاملة البيضاء في الصناعات التقليدية والمناجم (أوهايو وميتشجان وبنسلفانيا) صوتت لترامب لإنها تعاني من البطالة بعد انتقال العديد من الصناعات لآسيا بفعل العولمة والتسهيلات الضريبية هناك!

في ظل هذا الوضع بدأ صعود التيار الشّعبوي اليميني المتطرف ولم يكن لديه ايديولوجيا سوى القديم المرتكز على الحدود المتحركة والوعود الإلهية والتعبئة الشعبية التي تكفلت بها أزمة التضخم ورحيل فرص الشغل في الصناعات القديمة!

العودة للحمائية الديوانية والتدخل العسكري والعنف في الداخل والخارج والوطنية المفرطة هي الإجراءات السياسية والتي ترتكز في وعى ولا وعي الأمريكي المتوسط على معطيات أيديولوجية مؤسّسة تم ترويجها عبر الكتب المدرسية، الأدب والفن وخاصة أفلام الويسترن (چون وين وهنري فوندا وكلينت استوود)، حتى إن أحد الرؤساء اليمينيين (ريجان) كان قد أتى من هذا القطاع الذي غمر العالم أجمع وبالطّبع الولايات المتحدة الأمريكية بولاياتها الخمسين اللائي قد يزداد عددهم!

spot_imgspot_img