
شاهين السّافي
لا حديث في هذه الأيام إلاّ عن “الأسطول”. الكل بات يستعمل هذه الكلمة، كما هي، معرّفة بالألف واللام، وخلوا من كلّ تركيب إضافي، للتعبير عن أسطول بعينه، كما لو أنّ هذه الكلمة قد حقّقت انزياحا -وإن كان جزئيّا- في المعنى تنأى به عن التعميم ومُقْبلة على التخصيص. فحين يذكر القوم كلمة “الأسطول”، في سياق الحديث، فهم يقصدون تحديدا “أسطول الصمود” البحريّ الذي انطلق من الحوض الغربي للمتوسط قاصدا حوضه الشرقيّ، كما كان يفعل الأسلاف في الأزمنة الغابرة، ولكن ليس بغاية التجارة أو الاستكشاف أو الحملات العسكريّة، وإنما بغاية أكثر بساطة، ولكنها بساطة تصطدم بتعقيدات الواقع الجيوسياسي في المنطقة وإكراهاته.
الغاية هي الوصول إلى شواطئ غزّة المحاصرة بحريّا منذ عقد ونيف، والمحاصرة كليّة منذ سنتين عرفت خلالهما حرب إبادة وحشيّة شنّها العدوّ الصهيوني على القطاع وأهله. إلاّ أنّ هذه الغاية ذات رأسَيْن، أو بصورة أخرى تخرج من صلبها غايتان تطرحان إشكاليّة ما في ترتيبهما تفاضليّا حسب الأولويّة، والغايتان هما: إيصال المساعدات التي يحملها الأسطول إلى غزّة، وكسر الحصار البحري الجائر المضروب عليها.
قد نختلف في الترتيب، وهذا وارد، ولكن ستفقد هذه الإشكاليّة ألقها حين نقول إنّ عدم تحقّق إحدى الغايتين يعني فشل الأسطول برمته. فمن الممكن أن يرى البعض أنّ إيصال المساعدات يأتي في المرتبة الأولى، وحجّته على ذلك ما يعانيه أهل القطاع من تجويع ممنهج طال الجميع وخاصّة الأطفال، ولكن إن رَبَطَ بين إيصال المساعدات ونجاح الأسطول أو إخفاقه فإنه يكون قد أخفق في تقدير الموقف، لأنّ هذا الرأي يخفي استخفافا بالغاية الأخرى من الأسطول وهي: كسر الحصار البحري.
رأينا مثل هذا الاستخفاف في شكل تصريحات وتدوينات على شبكات التواصل الاجتماعي، صدرت عن أناس بعضهم من أهل الفن والثقافة، وبعضهم من أهل السياسة والمجتمع المدني، وبعضهم من أهل الجامعة والبحث الأكاديمي، والمهمّ هو أنّ أقوالهم تصبّ في خانة واحدة: مادامت المساعدات لم تصل إلى أهل غزّة فإنّ الأسطول قد فشل فشلا وذريعا، بل إنّ البعض وصل إلى حدّ المطالبة بمحاسبة قيادة الأسطول لأنها قدّمت للعدوّ غنيمة ثمينة متمثلة في أكثر من أربعين سفينة بكل ما فيها من حمولة.
ثمّة خلل ما في التفكير. هذا الخلل هو الذي جعل هؤلاء يحوّلون الضحيّة إلى جلاد متغافلين عن الجلاّد الحقيقي. فالأمر هنا لم يعد مجرّد اختلاف في تحديد الأولويات، وإنّما تخطى ذلك بكثير لنكون أمام عقول مشوّهة مولعة بالتشويه. لقد نسي هؤلاء -والأصح تناسوا- أنّ الأسطول قد تعرّض إلى عمليّة قرصنة ليس بالمعنى القانوني فقط، وفق القانون الدولي، ولكن أيضا بالمعنى الأخلاقي.
قد تغافل هؤلاء عن حقيقة أنّ قوات العدوّ البحريّة التي هاجمت سفائن الأسطول قد قامت بهذه العمليّة ضمن المياه الدّوليّة التي هي ملك للجميع، ولا يحقّ لأي طرف من أطراف النزاع السيطرة عليها ومنع الملاحة فيها، فما بالك باعتراض الأسطول، والسيطرة عليه واعتقال المشاركين فيه، واقتيادهم إلى وجهة غير وجهتهم المقصودة، ثمّ سجنهم والتحقيق معهم تمهيدا لترحيلهم إلى بلدانهم.
هذه العربدة المنافية لأيّ قيمة إنسانيّة يفترض أن تكون هي محلّ إدانة الجميع، ولكن ما رأيناه عند هؤلاء هو التهجّم على المشاركين، ضحايا القرصنة، والصمت -وإن بدرجات- عن إدانة المعتدي الذي حال دونهم والوصول إلى مبتغاهم النبيل.
حين نتحدّث عن تونس وعن المشاركة التونسيّة في هذا الأسطول، فمن الضروريّ أن نشير إلى أنّ عمليّة التشويه قد طالت قيادة الأسطول من التوانسة وعموم المشاركين منذ التحضيرات الأولى، وقد تحدّث البعض عن فسادٍ في صفقة اقتناء السفن، وتحدّث البعض الآخر عن “نوايا خبيثة” تقف خلف انطلاقه من تونس وإنه لن ينطلق أبدا، وذلك تعليقا على تأجيل موعد انطلاقه لأسباب تقنيّة أو لسوء الأحوال الجويّة وعدم ملاءمتها للملاحة، وحتى حين تعرّضت بعض سفن الأسطول إلى اعتداء أثناء رسوّها في ميناء سيدي بوسعيد، سارع هؤلاء إلى إدانة المشاركين في الأسطول زاعمين أنّ ما حدث مفتعل، وله غايات دنيئة تمس من تونس واستقرارها.
انطلق الأسطول في نهاية المطاف، وكان يمثّل صورة من صور الملاحم البحريّة تعيدنا إلى مغامرات الأسلاف في المتوسّط، يسطرها أناس تعلّقت همّتهم بتحقيق أنبل الغايات وأسماها، جاؤوا من كافّة أصقاع الدّنيا ومن ثقافات مختلفة ومسارات فكريّة وسياسيّة مختلفة، ولكنّها كان مؤتلفة في تحقيق هذه الغاية: كسر الحصار الجائر الذي يرزح تحت نيره القطاع.
كان يفترض أن تمثّل لحظة الانطلاق، بروحها الملحميّة، لحظة صمت وتأنٍّ لدى جمهور المشككين في الأسطول، خاصّة بعد تقدّمه في مساره وقطعه لمسافات طويلة في البحر متنقلا بين مختلف المحطّات، حيث التحقت به سفن أخرى، كما كان مبرمجا، لتعزّز صفوفه وتحقق اتساعا في رقعة التضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيّته العادلة، وتقول للعالم: إنّ الإنسان مازال بخير، مازال صامدا في وجه كلّ ما يحول دون تحقيق إنسانيّته.
لكن يبدو أنّ “الإنسان” في ربوعنا ليس بخير، أو ربّما لم يعد يخير -لا فرق- فما يفترض أن يكون لحظة للمراجعة وربّما التراجع عن بعض التشكيكات الواهية، استحال إلى لحظة استغراق في التهجّم على الأسطول طالت المشاركين التوانسة وغيرهم من باقي الجنسيّات، وقد صادف أن التحقت بالأسطول -الذي يضمّ حوالي خمسمائة مشارك- بعض العناصر المنتسبة إلى التيار الكويري، وهو تيار -بغض النظر عن رأينا فيه- منتشر في كلّ أنحاء العالم وفيه مؤيدون للقضيّة الفلسطينيّة، ولكنّ الألسن التي دأبت فقط على التشكيك والتهجّم، استغلت وجود هذه العناصر لتبثّ سمومها وتهزأ من الأسطول، زاعمة أنه عبارة عن جيش من “الشواذ” ذاهب ليحرّر فلسطين.
نحن أمام أزمة قيميّة وأخرى فكريّة ومعرفيّة. لا نتحدّث هنا عن النقد فهو براء من كلّ ما قيل في سياق التهجّم على الأسطول، فالنقد ينطلق دائما من قيمة مهمّة وهي تبيان الغث من السمين، وهو ما يعني تثمين ما هو سليم والإشارة إلى مواطن الخطأ بغاية التجاوز لا التنابز، والنقد هو أيضا معرفة في مواجهة معرفة أخرى، وهو ما يستوجب من الناقد توسيع دائرة معارفه حتى تكون الممارسة النقديّة سويّة خلوا من الشوائب، ولكن أغلب ما يقوله هؤلاء وما يسطرونه على صفحاتهم أبعد ما يكون عن الأخلاق وعن المعرفة، حتى أنّ بعضه قد يجعلك تقف مشدوها لساعات بحثا عن نقطة منطقيّة واحدة يمكن أن تفتح من خلالها نافذة لحوار مفترض مع صاحبها، ولكنك في النهاية لا تعثر على شيء يذكر، فتجنح إمّا إلى الصمت أو إلى التندّر.
لا يمكن أن يقف الأمر عند هذا الحدّ، فالأفكار على رغمها وعلى رغم أصحابها لها تموقعها في سياق التناقضات. ببساطة نطرح السؤال الآتي: هل يخدم التهجّم على أسطول القضيّة الفلسطينيّة أم يخدم أعداءها؟
لقد لفت هذا الأسطول الأنظار في كلّ أنحاء الأرض، وأسهم في وضع معاناة أهل القطاع في دائرة الضوء أمام الجميع، كما أنه -في آن معا- أسهم في كشف الوجه الهمجي للكيان وجيشه حين رأى العالم عمليّة القرصنة الوحشيّة التي ارتكبها في عرض البحر، في المياه الدوليّة، وحين استمع إلى شهادات المشاركين الأسرى الذين تحدثوا عن ظروف إيقافهم وسجنهم في سجون العدوّ، ويكفي أن نذكر ما حصل للصهيوني المتطاوس بنغفير أمام الشاشات حين واجهَهُ أسرى الأسطول هاتفين بالحريّة لفلسطين، وإنّ لذلك وقع الرصاص.
إنّ الثورة الفلسطينيّة منذ انطلاقتها كانت على مرّ مراحلها ثورة ذكيّة، لذلك اعتبرت المقاومة أنّ “أسطول الصمود” يمثّل حركة إنسانيّة نبيلة تخدم القضيّة وتدعمها وتعريّ أعداءها وتكشف وجههم الحقيقي القبيح. ولكن يبدو أنّ البعض يرون أنفسهم دائما أذكى من الجميع، فكانوا على صفحاتهم يسطرون ما يسطرون، وهم لا يعلمون أنّهم بذلك يخدمون العدوّ لا القضيّة.
في المقابل، إنّ ما يسطره المشاركون في الأسطول من ملاحم من أجل فلسطين وشعبها وغزّتها الأبيّة المحاصرة، هو ممّا يدّونه التاريخ وتحفظه ذاكرة الإنسانيّة جيل بعد جيل.
الكلّ يَسْطُرُ ولكن ثمّة سطور ستبقى، وأخرى ستذروها الرياح.



