
د. نعيمة الرياحي
لن أقرأ الفضاء الافتراضي باعتباره واقعا يعبر عن الحقيقة، بل سأقرؤه باعتباره يمثل الحقيقة عينها فصور الناس الملتقطة ليست صورا خيالية مفترضة، بل تمثل واقعات عينية تم التقاطها وعرضها على أعين العالم. لا يهم من بث تلك الصور، ولكن الأهم هو أنه لم يكن من الممكن منعها أو معاقبة من بثها حتى وإن كان الأمر كذلك في البداية.
كانت الصور تعرض على الشاشات، وفي واقع الأمر تبث من الطرفين المتنازعين المحتل والأهلي صاحب الأرض، ولكن الإستراتيجيات التي كان يشتغل من خلالها كل طرف كانت مغايرة في حين أنّ الهدف واحد: كيف يتم إقناع المشاهد بالموقف الذي يتخذه من يبث الصور؟ فالحرب لم تعد تقتصر على الميدان، بل امتدت إلى العالم الإفتراضي وربما هذا العالم، هو جانبها الأكثر شراسة وتأثيرا.
لم يعد الخطاب أوالحجج العقلية هي التي تحدد الحقيقة بل الواقع المصور بطريقة ما هو ما يحددها. ولم تعد الحقيقة عقلية خالصة بحيث تقنع الجميع سيما إذا كانت منطقية برهانية على الشاكلة الأرسطية.
هذه الوضعية تحتم علينا أن نقرأ هذه الصور من جهة الاستراتيجيات التي تستعملها والطرق التي تنتقى بها صور الحرب وتأثيراتها على المشاهد. وسيكون هذا المقال مقسما إلى ثلاثة عناصر أساسية:
استراتيجيات الصور وحدودها
تغيرت ثنائة الصّمت والكلام وعوضتها ثنائية الصورة والواقع وهذا يعني أن الإفتراضي لا يقدم كل الواقع، بل ينتقي منه بعض الصور ويقدمها ويسكت عن الواقع في كلّيته أي الذي لا يلتقطه المصور. لذلك فالبحث ها هنا لا يتعلّق بالصور المعروضة بقدرما سيتعلق بانتقائية الصور أعني بما يبث فقط وهذا الإقتصار على بعض صور الواقع العيني وليس كله، أي تبكيت الجزء الأكبر ربما من الواقع هو ما يمكن اعتباره استراتيجية الصور في واقع الحرب على غزة.
إننا حين نقتني أو ننتخب أو نمتنع عن تصوير كل شيء إنما نحن ندخل في عالم مركب مصطنع وندخل عالم الاستراتيجيات إذ لماذا نختار صورا بعينها ولا نختار غيرها ؟ فرغم كثافة الصّور وبثّها على الشاشات فإننا لا نستطيع أن نجزم بأننا رأينا واقع غزة كلّه أثناء هذه الحرب التي ابتدأت منذ 7 أكتوبر2023.
مثلما كانت السياسة الكلاسيكية تستعمل استراتجية الصمت أصبحت الممارسة السياسيّة، سيما أثناء الحرب، تستعمل استراتيجية انتقاء صور بعينها والامتناع عن غيرها من الواقع البشع. ولا يتعلّق الأمر باستراتيجيا سياسية فحسب ، بل باستراتيجيا سياسية حربية.
وليست هنالك معايير ثابتة أو غايات مستقرة لهذه الإنتقائية ، إذ الإستراتجيات وانتقاء الصور تفرضها ظروف تطور الحرب. إنّ الضرورة التي تحدّد موضوعيا شروط التصوير هي ضرورة تفرضها الحرب ومن يمتلك التكنولوجيا. وقد أثبتت هذه التجربة الحربية في غزة لأوّل مرّة، أنّ كلا الطرفين المتنازعين يملك من القدرات التكنولوجية ما يسمح له بقدرة مهمة على استعمال استراتيجيا الصوربالتالي لا نجد صورا تبث من جانب واحد بل كل من الطرفين يبث صوره التي ينتقيها.
فلم يعد المحتل وحده هو الذي يفرض ما يجب أن يبث وما يجب ألاّ يبث فالافتراضي سمح بالتحرر من هذه الهيمنة التقليدية التي لا تعلي إلا صوت المهيمن والصورة أصبحت ملكا للجميع مشاعا بين الناس في العالم.
إنّ انتقائيّة الصّور اليوم في الحرب على غزّة هي شأن حربيّ سياسيّ أو هي كما يقول فوكو “جملة من تلاعبات السّلطة وهو ما يجب أن ندرسه في لغة التكتيكات أو الاستراتيجيات أوفي عبارة القاعدة والصّدفة وفي عبارات الرهان والهدف أيضا87”
استراتيجيّة الصّور تعني أنّنا نعرف جيّدا أنّه ليس غرضنا أن نصوّر كل شيء، وأنّنا لا يجب أن نتحدّث عن كل الواقع في كل ظرف، ونعرف أيضا ألاّ أحد يمكنه أن يتحدث عن كلّ الواقع. هنالك ما تجوزه الحرب وهناك طقوس خاصة بكل ظرف، وهي طقوس تعدّل باستمرار.
إن استراتيجيّة التّصوير وانتقاء الصّور تطرح العديد من المراجعات لكونِها تتجاوز السّياسي/الحربي وتؤثر فيه في نفس الوقت وذلك يظهر من خلال العنصرين التاليين:
أ- حرية التعبير: في هذه النّقطة نعلم أن الإعلاميين الذين صوروا وفضحوا الواقع المحضور البشع من قبل المحتل تم التنكيل بهم وتعذيبهم واغتيالهم دون مراعاة أي قدسيّة لهذا الحق في التعبير الذي تأسّس منذ كانط واسبينوزا وكامل عصر التنوير واعتبره الغرب حقا إنسانيّا لا تراجع عنه، بل تفاخروا به وتباهوا ضد الحضارات التي لم تسمح به واعتبرت غير ديمقراطية. لقد ميّز كانط واسبينوزا بين حرية التعبير والقول وحرية الفعل وكان أنذاك القصد أن يقول الإنسان ما يريد دون تغيير النظام الحاصل فالضابط /العالم في الثكنة له الحقّ في التّعبير عن الإجحاف في دفع الضرائب، ولكن ليس له الحقّ في الإمتناع عن دفعها بوصفه مواطنا وموظّفا داخل الدّولة. لكن حريّة التعبير اليوم تغيّرت إذ الواقع الإعلامي أصبح هو نفسه جزءا من الحرب وأن تكون حرا في التعبير عن كل الواقع فذلك سيؤثر في واقع الحرب ويجعل الناس يتحمسون ويعم الخبر في العالم دون أي حدود. إن حريّة التعبير تطابقت اليوم مع حرية الفعل. وهذا ما شهادناه من مظاهرات في كل أنحاء العالم بشكل مكثف ودور ومستمر خاصة في العالم الغربي.
ب- حرية التصوير الفني
ليس لحرب الصّور دائما وجها سلبيا، بل ثمة جانب إبداعي يجب التنويه به فقد ألهمت هذه الحرب الأخيرة على غزة العديد من الفنانين نذكر من بينهم الفنان التونسي الذي صور *صرخة غزة[1]* وهي تعبيرة عميقة لرسم معاناة الشعب الغزاوي في واقع الحرب وهي الصورة الأكثر تعبيرية مقارنة بالصورة الإعلامية. وهي ليست صورة سياسية أو حربية، بل هي قبل كل شيء صورة رمزيّة وهي الأخطر لأنها الأكثر نفاذا لنفوس الناس. إن حقيقة الفن أصبحت اليوم كيف نؤثر في المشاهد لا كيف نقدم له شيئا جميلا فالأشياء الجميلة هي فقط ما يجعلنا ننفعل بشدة وننبهر إزاء القصيدة أو اللوحة أو دراجة في معرض يقدمها فنان مثل مارسيل دي شان.
نحن نعلم جميعا أنّ القبح و البشاعة مفاهيم دخلت عالم الجماليات منذ نيتشه الذي كسّر ثنائيات العقل كالجمال والقبح، فالفن لم يعد يصوّر لنا الجميل فقط بل يصور أيضا القبح ويجعل منه شيئا جميلا، فالحرب صورت من قبل بشكل جميل. إذ يقول كانط : *ليس الفن هو التصوير الأشياء الجميلة بل التصوير الجميل للأشياء*. وبالفعل فقد تغير مفهوم الجميل ليأخذ دلالة التأثير والإستفزاز. وكم استفزت صورة *صرخة غزة* الملايين في العالم الإفتراضي. لقد لعبت دورا سياسيا وتجاوزت حتى أفق الإستراتيجيا
وفي الحقيقة تصوير الأشياء القبيحة لم يبدأ مع هذه اللوحة *صرخة غزة* ، فقد صور بيكاسو من قبل لوحة غارنيكا.[2] وتبيننا كيف تمارس الصورة الفنية التي توثق لواقع الحرب بشكل مستفز ومثير خارج السياسي وهي بذلك تلعب استراتيجيا دون أن تكون قاصدة قصدا سياسيا بعينه. كما أن المشاهد يتقبلها بعيدا عن حرية التعبير وعن الإعلام. الصورة الفنية يمكنها أن تؤسس لنمط جديد من التعبير يكون أبلغ .
2- استراتيجيات الصور لدى المحتل
عديدة هي الصور التي يستعملها المحتل لكنني سأقتصر على بعضها مبينة ثلاثة أبعاد وثلاثة استراتيجيات ولن أزعم أنني سأستوفي كل استراتيجيات الاحتلال من بثه لصور الحرب التي يقوم بها على غزة


- الضرب الأول من الصور هو صور للأطفال المشردين
لن أدرس ها هنا مضامين هذه الصور بل سأقتصر على من بثها وما القصد من بثها ولماذا كانت صورا للبث. حقيقي أن هذه الصور مؤثرة جدا ولكن من بثها هو من قصد ذلك التأثير على المشاهد لغايات أعمق.
قد تسأل لماذا هذا الإلحاح على إظهار هذه الصوروإظهار القدرة على العنف ؟ إن الغاية بسيطة وواضحة للعيان لكن بالنسبة لمن يريد أن يراها. إن من يراها قد يأسف أو يحزن لها لكن من يعلم الغاية أو الغايات هو الذي سيفهم القصد الإستراتيجي الأعمق.
إن المحتل يريد أولا أن يقضي على الأطفال لأنهم هم صانعوا المستقبل والذين سيحفظون أرض الجدود وأرضهم الدائمة كذلك يريد أن يبين مدى قدرته على الإبادة وترويع المتساكنين وكل من يتعاطف معهم وقدرته على إتيان الشراسة في أجلى معانيها. فهو ليس بالعاجز أوذلك الذي انطلت عليه أحداث 7 أكتوبر. أنه الأقوى.
- الصور الثانية هي صور للأطباء وللطاقم الطبي
الصورتان الأولتان لطاقم طبي ينكل به المحتل فيعريه في الساحة العمومية كما فعل بداميان في القرن الثامن عشر حين لم نزل نكتشف بعد سلطة المراقبة . وتذكرنا الصورة بسجن أبو غريب وغوانتانمو. ثم أن المنكل بهم هم من صنف العلماء وأكبر فئات المجتمع ثقافة وذكاءكما أنهم، وخاصة، ينقذون حياة الناس فيداوونهم ويلملمون جراحهم.
ج- الضرب الثالث هو صور الإعدام[3] و التهجير


خاتمة
مما لا ريب فيه أننا اليوم أصبحنا نعيش تراكبا بين واقعين يسيطر فيه الواقع الافتراضي الرقمي الذي يركب على الواقع العيني. فهذا الأخير ليس له معنى في ذاته وليس له وقعا إلا بما هو مصوّر مجزّأ مضخم مؤثر غايته ترويع المشاهد أينما حل ولا سيما المشاهد العربي. أن الصورة الافتراضية والمعلوماتية الرقمية أصبحت تلعب دورا استراتيجيا وسياسيا لا يهم فيه التطابق او عدم التطابق مع الواقع بقدرما يهم التأثير بسطت هذه التكنولوجيا الرقمية تأثيرها في الآن نفسه على الصورة والصوت والنص، ليتوحد بذلك المهندس و الباحث و الكاتب التقني والفنان ضمن نظام مشترك. فالصورة ، مع الفوتوغرافيا وبفضل نظام المعلوماتية، لم تعد أبدا نسخة ثانوية لشيء سابق وإنما العكس ، إن الصورة المعلوماتية بمراوغتها للتعارض بين الوجود والمظهر والشبه والواقعي، لم تعد بحاجة لمحاكاة الواقع الخارجي بما أن المنتوج الواقعي بل هي تصنع الواقع وتصطنعه حيث يختار الباث صورا بعينها يكبرها و يجملها بألوان مؤثرة ويقلص من حجمها إذا شاء إلخ…
هكذا انقلبت معطيات العلاقة بين الحقيقة والواقع لتأخذ شكل الصّورة والتأثير الاستراتيجي
فأصبحت كل المشاريع، وكل الاستراتيجيات السياسيّة، كلّها تمر عبر هذا الوسيط المهيمن وهو الصورة، فقد اخترقت الصورة اليوم جدران السجون والمعتقلات لتبشر بأركيولوجيا جديدة –كان فوكو قد وضع أسسها. فإن كان المشهد قد اختفى حينا، فالصورة قادرة على رفع الستار لتكشف عن مشاهد مروّعة هي فنون التعذيب داخل الأرض السّليبة.
[1] الفنان التونسي عمر الستار: لوحة بعنوان * صرخة غزة *
غارنيكا (بالإسبانية: Guernica) هي لوحة جدارية للفنان بابلو بيكاسو استوحاها من قصف غرنيكا، الباسك حين قامت طائرة حربية ألمانية وإيطالية مساندة لقوات القوميين الإسبان بقصف المدينة في 26 أبريل 1937 خلال الحرب الأهلية الإسبانية كانت حكومة الجمهورية الإسبانية الثانية (1931-1939) قد كلفت بابلو بيكاسو بابداع لوحة جدارية لتعرض في الجناح الإسباني في المعرض الدولي للتقنيات والفنون في الحياة المعاصرة “Exposition Internationale des Arts et Techniques dans la Vie Moderne” الذي أقيم في باريس عام 1937. وكان بيكاسو قد انتهى من اللوحة في أواسط يونيو 1937.
غرنيكا تعرض مأساة الحرب والمعاناة التي تسببها للأفراد، وقد صارت معلماً أثرياً، لتصبح مذكراً دائماً بمآسي الحروب، إضافة لاعتبارها رمزا مضاداً للحرب وتجسيداً للسلام. بعد الانتهاء منها طافت اللوحة في جولة عالمية موجزة العالم لتصبح من اللوحات الأكثر شهرة كما أن جولتها تلك ساهمت في لفت أنظار العالم للحرب الأهلية الإسبانية.
اللوحة تمت بأسلوب التصوير الزيتي تتكون من الألوان الأزرق الداكن، الأسود والأبيض بطول يبلغ 3.5 أمتار وعرض يبلغ 7.8 أمتار. وهي معروضة في متحف مركز الملكة صوفيا الوطني للفنون “Museo Nacional Centro de Arte Regina Sofia” في مدريد
[3] هذا ليس إعداما أو قتلا هذا إشلاء البشر