spot_img

ذات صلة

جمع

خواطر حول “ديسمبر”..

شاهين السّافي في ديسمبر لا يقف المرء أمام شهر يعلن...

” إشراقات الوجد” للشاعر تهامي الجوادي: …الكتابة بطعم القيروان وعطرها

بقلم: رياض خليف نشأ تهامي الجوادي في ذلك المناخ الذي...

أشرف أبو اليزيد: الإنسان خارج وطنه يعيد اكتشاف ذاته

حاوره: طارق العمراوي، كاتب وناقد من تونس كيف تقدمون الروائي...

توفيق الجبالي مسرحي “لا ينسي ولم يسأَم”

الكاتب: حسني عبد الرحيم الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيمعندما نتحدث...

ما الجامعة: كتاب للأستاذ محمّد الحدّاد نشأة العلم والتعلّم وآفاقه

سعدية بنسالم أصدر المعهد العالي للغات بتونس، كتابا للأستاذ محمّد...

” إشراقات الوجد” للشاعر تهامي الجوادي: …الكتابة بطعم القيروان وعطرها

بقلم: رياض خليف

نشأ تهامي الجوادي في ذلك المناخ الذي أتاحه موقع والده الأديب الراحل[1] في المشهد الثقافي، مطّلعا على الحراك الشّعري وعارفا بمفاتيح القيروان الشّعريّة. وقد ظهر في الساحة الشعرية منذ سنوات، وفيّا لهذه المناخات. فجاءت نصوصه منسجمة مع مناخات شعراء القيروان وتقاليدهم. وقد جاءت هذه المجموعة الثانية في تجربته (والتي تلتها لاحقا مجموعة ثالثة) لتؤكّد هذا التّوجّه ولتكرس اسمه ضمن قائمة شعراء القيروان وعشّاقها، ممن في نفسهم الشعري تاريخها وعبقها الاستثنائي، وأسوارها وأزقتها، يطوفون بها طوافا شعريا، جاعلين الكتابة طقس وفاء وتعبد لها. فهو يبدو غارقا في هذا الهوى القيرواني، مستمدّا من شعراء القيروان تلك النزعة الصّوفيّة التي توحّدهم بالمحبوب وبالمدينة وبالكتابة، ومحتفيا بالشّعر الذي يعدّ جزء من كيانه. فلعلّ الصلة بالشعر ترتقي بدورها إلى هذه الصّوفيّة. فأيّ حضور للخطاب الصّوفي في هذا العمل؟ وكيف يكتب الشاعر قيروانه؟ وما هي مظاهر التفاته إلى شعره؟

مناخات الصّوفيّة:

تتفاعل القصيدة العربية مع الخطاب الصوفي مستفيدة من مصطلحاته ومعانيه التي تجسّد شكلا عميقا من الحب والتواصل وتتيح تصوير العلاقات الكبيرة. وقد كان لشعراء القيروان باع كبير في هذه النوعيّة من الكتابة الشعريّة، التي لا تخفى في أغلب نصوصهم وقصائدهم. فهذا المناخ الصوفي اجتاح قصائد محمد الغزي ومنصف الوهايبي وجميلة الماجري وغيرهم من شعراء القيروان[1]. ولعلّ تهامي الجوّادي يبدو في هذا العمل مولعا بهذه التجربة التي سبقه إليها شعراء مدرسة القيروان. لذلك تتصدّر ملامح الصّوفيّة العتبات التي خيّم عليها نفس صوفي يتشكّل مما فيها من مصطلحات.

فنحن أمام عمل تشكّل المصطلحات الصوفيّة عناوينه، ففي العنوان الرئيس تحضر لفظتي الإشراق والوجد وهما مصطلحان صوفيان ونرصد أيضا مفردات صوفية في العناوين الفرعية من قبيل إشراقة، رقص على السراب، تيه الخطى، طيف توارى…فمنطقة العنوان بوصفها منطقة إيحاء وذات وظيفة تلخيصية استباقيّة توحي بحضور منتظر للغة الصوفيين ومعاجمهم ومشاعرهم وعشقهم.

ولعلّ عتبة التصدير تؤكد هذا الأمر وتزيد هذا المشهد الصّوفي وضوحا. فليس استدعاء مقولات الصوفيين استدعاء مجانيا بل هو محاولة لدعم هذا المناخ الصوفي. فالشاعر يستدعي جلال الدين الرومي ومقولته عن الحب وهي المقولة التي تماهي بين الحياة والموت والحب وتجعلهما في مزيج واحد كتابة للوحدة والتوحّد مع المحبوب:

” لا تكن بلا حب كي لا تشعر بأنك ميت

مت في الحب وابق حيا للأبد “

هذه الاحتمالات الصوفية نجد لها أصداء كثيرة في هذه القصائد التي وضعها الشاعر في هذه المجموعة. فهو يكتب الأشواق ويتغنّى بها، مطية إلى التوحد بالمحبوب و إعطاء حبه قداسة. فيستعيد صورة السكر بالعشق والاعتكاف به.

” القلب

من قدح الأشواق قد سكرا[2]

ويمتزج العشق بمفردات ذات طابع ديني مثل التعبد والاعتكاف، محيلا بذلك على قوة العلاقة بالمحبوب.

إني بمحراب هذا الحب معتكف[3]

وهو بذلك يحتفي بالأشواق ذات المعنى الصوفي العميق. فهي النار التي تلتهب داخل القلب:

أهزّ بجذع الشوق أغنيتي

من نخلتي

تورق الأشواق والقبل…”[4]

و تبدو صورة العشق حاملة للكثير من القدسية والمهابة، شبيهة بطقوس العبادة والولاء:

وقفت في حضرة العشاق

أبتهل

ناديت مولاي

إني في الهوى كلف…[5]

هذا الخطاب الصوفي يأخذ بأيدينا إلى أبواب القيروان التي تبدو محور العشق والغرام لدى الشاعر. فهي الفضاء الحميمي والطفولي الذي نشأ الشاعر في أركانه وزواياه. لذلك أدمنها وعشقها. فهي الحبيبة المعشوقة ومالكة القلب:

القيروان حبيبتي

بل أكثر

عشقي لها

كل يوم يكبر[6]

يصوّر الشاعر صلته بالقيروان عبر تشابيه عديدة ، راسما عشقه لها، مستعيدا لها تشبيها من التراث العربي العميق:

“القيروان/ كعبلة أدمنتها/ وأنا كأني في هواها عنتر”[7]

ويمطر الشاعر القيروان بجملة من التشابيه التي ترسم علاقة الحب معها. فهي كالأم وكالغيمة.

تبدو العلاقة بالقيروان علاقة أمومة وحنين فهي ” كالأم تحنو دائما/ وتضمّني /

بحنينها أتعطّر”[8]

وتأخذ العلاقة بهذه المدينة شكلا صوفيا يقوم على التّوحّد بين العاشق والمعشوق وامتزاجهما:

لون المدائن

والقباب مزجته بدمي

فهل دمي

المعتق أخضر؟ [9]

ولكن العلاقة بين الشاعر ومدينته تصبح علاقة اغتراب فيصرخ الشاعر صرخة الأنا:

إني أنا القيرواني الذي جهلوا

إني أنا القيرواني الذي انتظروا” [10]

ولعل الشاعر هنا يعلي صوت الفخر بالانتماء إلى هذه المدينة والانتساب لها:

” قيرواني نعم/ طائر فوق القمم/ وسليل للقلم “[11]

لكن الجوادي يلتفت إلى شعره، ممارسا خطابا واصفا، يتناول عشقا آخر، هو عشقه للشّعر وصلته به. فهو جناحه الثاني بعد القيروان.

التفات الشّاعر إلى شعره:

يبدو الشعر معشوقا ثانيا في هذه التجربة. فالشّاعر يعلن توحّده بالشّعر وامتزاج روحه به. ولكنّ هذا الالتفات الذي يعتبر اشتغالا لصوت التعليق الداخلي الذي ينتج الخطاب الواصف ويلقيه في ثنايا العمل ، يبدو طارحا لأسئلة كثيرة متناولا سنن الكتابة وعذاباتها وهمومها.

ولعلنا نسجل في هذا المجال انتصاره للقصيدة الخليلية ولتفعيلاتها معلنا انتسابه إلى القصيدة العربية:

أتلو قصائد عشقي

كلها سورا

مستفعلن فاعلن

مستفعلن فعلن[12]

ويكتب الشاعر همومه وقلقه. فيتحدث عن حالة الاغتراب :

ناديت يا شعر

مالي صرت مغتربا

بين القوافي

وحرفي بالأسى ثمل.[13]

ويمكن القول إنّ علاقة الشاعر بالقصيدة تأخذ بدورها ذلك البعد الصوفي.وهو ما يمكن أن نفهمه من لفظة ثمل التي ترحل بعلاقة الشاعر بالقصيدة ألى تلك اللحظة العشقية الكبيرة.

هذا التوحّد الصوفي هو ما أقام عليه الشاعر علاقته بالشعر. فهي علاقة اندماج تظهر في صور شعرية أخرى مثل قوله:

“الشعر أشرعتي.أنا ربانها”

تصل هذه العلاقة ذروتها. فالشاعر مندمج في القصيدة منهمك في إنتاجها.

” أبكي حروفي

أبيت الليل أرتقها

قصيدة

لست أدري هل ستكتمل؟”

لا ينقطع الخطاب الواصف عند هذه الناحية بل يأخذ طابعا ساخرا في بعض الأحيان. سخرية من المشهد الشعري أحيانا وهو ما يظهر في القصائد القصيرة من هذا الديوان.

“شاعر

يجري وراء القافية

ذاب حذاؤه فبدت أفكاره حافية…

فهذا الالتفات يبدو في مجمله متوترا. وهو يعبر في نهاية المطاف عن قلق الشاعر. ولعلها أسئلة التأرجح بين جيلين تراود الشاعر: جيل سابق يؤمن بالقصيدة ومقوماتها وجيل جديد ينفر من التقاليد الشعرية العربية بمجملها ويفتك صفة الشاعر. ولعلّ مردّ هذا التوتر انتماء الجوادي إلى أقلية في المشهد الجديد مازالت تؤمن بالأسس الشعرية العربية مقابل مجموعات كثيرة ذات حضور ولكنها تميل إلى التحرّر وتهجر التقعيد. فهذا الخطاب الواصف ينقل لنا ضجيج الشعر داخل ذات الشاعر تهامي الجوادي.

[1] كان والده الراحل ناجي الجوادي شاعرا وقاصا هائما بحب القيروان وترك قصائد كثيرة لم تجمع بعد إلى جانب مجموعتيه القصصيتين…وأعمال مختلفة للأطفال.

[1]  يعتبر محمد صالح بن عمر في مقاله المنشور بمجلته الألكترونية مشارف أن هذا الاتجاه ” أسسه  شاعران هما محمد الغزي و محمد المنصف الوهايبي. ” وكانت بواكره “.في قصيدة “البستان” لمحمد الغزي الواردة ضمن مجموعته كتاب الجمر كتاب الماء(1982) …فمحمد الغزي يطوع لغة المتصوفة لإحداث ألوان مربكة من العدول كتمثيل الأرض بالحانة والبشر على أديمها بالأكواب أو تشبيه القلب بالشحاذ. وهو ما قد يؤكد أن البنية العميقة لقصيدة الغزي بنية نفسية واقعية وأن الصوفية فيها جو شاعري و أسلوب ليس إلا…”.ومن بواكير هذا الشعر في تونس حسب محمد الصالح بن عمر قصيدة ”في منزل السهر وردي” التي أودعها مجموعته ألواح (1982) حيث يقحم القارئ منذ البداية في جو  صوفي باتخاذه محورا للقصيدة شخصية الفيلسوف السهروردي صاحب كتابي حكمة الإشراق و هياكل النور الذي أعدم في القرن السادس الهجري بتهمة الخروج على الدين.

محمد الصالح بت عمر: الشّعرُ التّونسيُّ في قرنٍ ونصفٍ (1861 – 2011) ، ماي 2021

http://www.masharif.com/ar/2020/05/21

[2] المرجع نفسه ص11

[3] م ن ص17

م ن ص24[4]

م ن ص23[5]

م ت ص35[6]

م ن ص38[7]

م ن ص38[8]

م ن ص40[9]

م ن ص59[10]

م ن ص117[11]

م ن ص13[12]

[13] م ن ص21

spot_imgspot_img