spot_img

ذات صلة

جمع

“أوجات وطقس الفم المفتوح” لمِنّة الله سامي

سعدية بنسالم العمل مجموعة قصصية للكاتبة المصرية المتميّزة منّة الله...

نافلة الفجر

الأديبة: بسمة الشوالي أدرك أن هذا أوان الرُجْعى إلى ربّه....

إنشائية الموت في ديوان “شباك ميرا” لسمير العبدلي

رياض خليف يبدو صوت سمير العبدلي مميزا في الشعر التونسي،...

شاكر والخولي والرحباني… والصّورَةُ وما يشبهُهَا…

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي  تعتبر مسألة "اعتزال الفنّ" من...

“أوجات وطقس الفم المفتوح” لمِنّة الله سامي

سعدية بنسالم

العمل مجموعة قصصية للكاتبة المصرية المتميّزة منّة الله سامي، اختارت له من العناوين “أوجات وطقس فتح الفم”، وهو عنوان ملغز بالنسبة إلى القارئ الذي لا ينتمي إلى الثقافة التي تنحدر منها الكاتبة، وهو عنوان دافع للبحث والنبش في التاريخ والأساطير المصريّة القديمة منذ البداية، فتكتشف أنّ “الأوجات” هي ذاتها عين حورس ابن الملك أوزوريس، وهي عين سحريّة، تمثّل رمزا وشعارا مصريّا قديما، ارتبط باستعادة حورس للبصر الذي فقده في صراعه المميت مع عمّه “ست” واعتمدت عين حورس تميمة توضع في الفجوات التي توجد في الجثث المحنطة حتى إذا استعادت الحياة التأمت جروحها واستعادت سلامتها. ومازالت عين حورس تعتمد تميمة، في الثقافة الشعبيّة، وتحمل بعدا أسطوريا وقدرة على إبعاد الشرور في اللاوعي الثقافي الجمعي.

إلى جانب “الأوجات” حمل العنون التركيبَ “وطقس فتح الفم”، وبالعودة إلى المراجع تبينا أنّ طقس فتح الفم يعود إلى عصر ما قبل الأسر في مصر القديمة، وله بعد روحيّ استقرّ على مراحل زمنيّة، وبعد أن كان الطقس يجري على تماثيل الآلهة قبل وضعها في مكانها في المعابر، شمل الملوك بداية من الأسرة الأولى ليشمل كبار الدولة بعد ذلك، ويتمثّل الطقس، أو الشعيرة، في فتح فم المومياء بعد إتمام التحنيط حتى تكون قادرة على الكلام والأكل عندما تعود إلى الحياة بعد الموت.

في هذا الإطار الأسطوري العالق بين الحياة والموت تلقي بنا منّة الله سامي، وتضيف إلى ذلك، تدرجات اللون الترابي الرملي في الغلاف، وهي ألوان طاغية في الحضارة الفرعونية القديمة، ومُلاحظة لمن تقع عينيه على الآثار القديمة للمرّة الأولى.

تتكوّن المجموعة من أربع وعشرين قصّة، تعيد بعث الحياة لعالم بعيد بشخصياته وعلاقاتها بطقوسه ومعتقداته كأنّ الحياة تدب فيه الآن وتعيد صوغه من جديد. فتعج المجموعة بأنوبيس، ونفتس، وحورس ونفر-كا- بتاح، وتحوت، وغيرها من الشخصيات التي تؤثث الميثولوجيا المصرية القديمة.

ما يلفت الانتباه في نصوص منّة الله سامي، ذاك اللقاء بين مرجعيات فكرية ودينيّة مختلفة، فهي تحرص في أغلب سردها أن تستحضر نصّا من خارج السرد ليدعم السرد نفسه إما بعقد مقارنة بين مرجعيات دينية مختلفة أو بتثبيت الفكرة بالرجوع إلى مرجع يسرد الواقعة في الزمن القديم،

ونأخذ مثالين على ذلك، ففي قصّة “من أجل المجد قتلت أخي”، تسرد منّة فتقول: “بين أحراش الدلتا تقعي “إيزيس/إيزة” تهدهد الوليد ودموعها مازالت تترك أخاديد الحزن على صفحة وجهها الإلهي… ترضعه لبنا مشوبا بنيران الانتقام التي تحرق أحشاءها.

تنثر بين خصلات شعره تعاويذ الحماية المقدّسة. تحيط به “حتحور”.. “نيت”.. “نبت حت”.. “سرقت”.. “سخت حر”، تلتقطه “حتحور” تلقمه ثديها في صبر وهدوء.” (ص53)

تدعم منّة سامي، سردها بمقتطف من نصّ أحمد خلف الله سفينة، “مردة خاتيو من نصوص معبد ادفو”، يقول: “يا سخمت، يا ملتهبة اللهب، التي تسبب الاشتعال عندما تأخذ عصا اللهب، تأتي لصورة الصقر الحيّة حورس الحيّ لتحميه من كلّ سوء.. إنّه رع، لا يسير (يساق) لمردة.” (ص53) ثمّ تدعم ذلك بمقتطف من سفر أشعياء (7:14) “يعطيكم السيّد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل”

وتعود منّة إلى السّرد، فتسرد عثور “ست” على التابوت الذي يضم جسد “أوزير” المسجّى..، وكيف شقّ جسده إلى أربع عشرة قطعة يبعثرها على برّ مصر، وكيف طارت “إيزيس” تجمع الأشلاء و”كلّما تجد قطعة تتظاهر بأنها تدفنها وتضع فوق موقعها مقصورة… ولكنها في الحقيقة تحتفظ بها وتصنع بديلا شمعيّا تعطيه للكاهن المحلّي” (ص54).. “ويأمر رع حورس وأنوبيس وتحوت بالعمل على جمع أجزاء “أوزير” المتفرقة ووضعه ملفوفا بالكتان الأبيض في معبد أبيدوس إلى حين ينتصر الحقّ وتعود المملكة إلى حاكمها الحقيقي..” (ص54).

تعيد الحكاية إلى الذهن بعضا من قصّة النبيّ إبراهيم حين سأل ربّه أن يريه كيف يحيي الموتى ليطمئنّ قلبه، يقول تعالى: ﴿وإذ قال إبراهيم أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي، قال فخذ أربعة من الطير فصرّهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءا ثمّ ادعهنّ يأتينك سعيا واعلم أنّ الله عزيز حكيم﴾ [القرة:160]

تستحضر النصوص بعضها البعض، فمنها ما تذكره منّة سامي درج سردها ومنها وما يستحضره ذهن المتلقي عاقدا صلات بين الذاكرة الإنسانيّة المشتركة البعيدة منها والقريبة.

في قصّة “ماعت” تعيد منّة صوغ قصّة الحقيقة والباطل والصراع بينهما، مستحضرة مقطعا من كتاب “الأدب المصري القديم” لمريام لشتهايم ترجمة طارق فرج ويقول: “كلّ النحاس في جبل يل قد صاغ شفرته.. وكلّ الخشب في بستان فقط قد صنع مقبضه.. وقبر الإله غمده.. وماشية كال قد صنعت حزامه” (ص 107)، وتذكر، بعد ذلك، الآية التاسعة من سورة يوسف: ﴿اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخلُ لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين﴾

تراوح منة في هذه القصّة بين سردها التخييلي المستمدّة عوالمه من البرديات القديمة، ومقتبسات من كتاب الأدب المصري القديم وسورة يوف (الآيات 30-31-32)، ويستحضر المتلقي صورة الحقية وهي تخرج من البئر عارية وقد سرق الباطل ثوبها بعد أن ائتمنته عليه مثلما يظهر في لوحة الفنان التشكيلي جان ليون جيروم “الحقيقة العارية”. وأبت منّة سامي في سردها أن تترك للباطل الغلبة فقفلت قصّتها بالقول: “تسقط المفاجأة على رأس الكذب كطيور جارحة تدقّ جمجمته بعنف… تزوغ نظراته… يكاد يقع مغشيا عليه. لتفتح خمسة جروح في بدن الباطل وتُعمَى عيناه كي يصبح عبرة وعظة لكلّ من يتحايل على المجمع المقدّس ويتلاعب بالعدالة المبجّلة” (ص112).

أوجات وطقس الفم المفتوح الصادرة عن ديير للنشر والتوزيع- القاهرة 2020، ليست المجموعة الأولى لمنة سامي، فقد سبقتها ستّ مجموعات هي على التوالي: القرص الذهبي، كتاب المواهب، فلول وأنوف، كِمت، إنوما إليش… شفة على الأرض والأخرى في السماء” إضافة إلى عدد من القصص في المجلاّت المتخصّصة والصحف. ولعلّ جمع منّة سامي بين التكوين الأدبي والتكوين العلمي وهي الحاصلة على الدكتوراه في اختصاص المناعة، إضافة إلى التكوين الإعلامي وهي المحرّرة في قناة تلفزية معروفة يجعل لكتاباتها طابعا خاصّا لنهلها من مصادر معرفية مختلفة، ثمّ إنها اختارت أن تنحت في عالم سرديّ خاصّ بها، ينحدر من التراث السردي والفكري والثقافي والعقائدي لمصر القديمة، بل إنه يحاول أن يكون مِنهُ، ولذلك يقول الأستاذ عبد البديع عبد الله في تقديمه للمجموعة “ولكن الكاتبة اختارت أن يكون نصّها معادلا للنصّ المصري القديم الذي وصل إليها من “كتاب الموتى” أو “الخروج إلى النهار” وفي ما نقله الدارسون للحضارة من نصوص مثل أناشيد بردية “رند” وأنشودة آمون” ومؤلفات أخرى كثيرة عن آلهة مصر القديمة بالإضافة إلى نصوص من الكتب المقدّسة من العهد القديم والجديد وأيضا من النصّ القرآني وكأنّ الكاتبة أرادت أن تجعل نصّها معادلا للنصّ القديم الذي استخدم الإشارات والرّمز والتلميح تاركة لقارئها أن يملأ فراغ ما بينهما وأن يبحث عن المسكوت عنه في هذه الاستدعاءات الأدبية لحياة كانت قائمة قبل آلاف السنين ولم يبق منها إلاّ علامات يهتدي بها من يبحث عن حقيقتها” (ص14)

مجموعة مِنّة الله سامي “أوجات وطقس فتح الفم”، يمكن أن تمنح مدخلا جديدا للكتابة الأدبية، يندرج ضمن التخييل العقائدي أو التخييل الأسطوري دون أن يفقد جمالياته الأدبية بل لعلّه يؤسّس لجماليات خاصّة به.

spot_imgspot_img