spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف

تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر وهو يرتحل بنا في جغرافيا المدن والقرى القريبة والبعيدة، عاشقا لها ولتاريخها، باكيا على أطلالها، مضربا عن وصف عمله بالشعري مكتفيا بلفظة تأملات. وقد خلت منذ البداية أنني أمام عمل يتخذ صبغة دينية صوفية وهو ما توحي به لفظة أهيم المنحدرة من معاجم الصوفيين وتسمية أم القرى التي تحيل على مكة. ولكني اكتشفت أن الشاعر يطلقها على قريته أكودة، احدى قرى الساحل التونسي، وهي التي حظت بنصيب وافر في الأماكن التي اهتم بها جلال باباي لكتها لم تهيمن. وقد بدت لي نصوص هذه المجموعة مجموعة من المرثيات ـ فجلها بكاء وحزن على أكثر من مكان وتأملات في هذه المدن والقرى بمختلف أصنافها، مدن قريبة وبعيدة، منسية ومعاصرة، دارسة أو ما زالت أثارها، جريحة أو جارحة… فإذا جلال باباي يرثي الأمس الشخصي، ذاكرته الخاصة من جهة ويرثي مدن النكبات العربية والإسلامية الفديمة والجديدة، راسما خريطة حزينة يلفها السواد والحزن.

الفضاء الأمومي:

يظل المكان الأمومي منشودا ولطالما عاد إليه الشعراء لتصوير بهجة الأمس زمن البراءة والطفولة، ولكن كتابته اقترنت بالفقد وشعور الألم والفراغ. وهذا ما نسجله في هذا العمل فالشاعر يحتفي بقريته أكودة وقد تصدرت الاهتمام، وهو ما يبدو في العنوان وفي جملة من النصوص الداخلية، فهو يكتبها بحرارة الذكرى، مستعيدا أزمنته وأشخاص طفولته، عاشقا للمكان وحاملا إليه الكثير من الحنين، وهو بذلك يستعيد الفضاء الحميمي، فضاء الذاكرة الأولى الذي تحدث عنه بلاشار، فضاء البيت والحي والقرية ، تلك الفضاءات الأولى التي ترتبط بالبدايات وتظل ذاكرتنا ملتصقة بها.

” هي أمْ القرى فيها انتظرْنا

مواعيد الربيع

فيها عشقنا زقزقة الخطاطيف

وعنها كتبنا قصائدَ العشق

كنّـا نرفع سقف الأغاني

إذا ما ترنّحَ منتصفُ الليلِ

فيأتي إلينا السْقاةُ من كل فَج ّعميق…”

 

وهو ما نقرأه أيضا في نصوص مختلفة منها نصه عن حومة الرمل وهي موطنه ومكان مولده، وعاش فيها طفولته وشبابه. فتتراءى ذكريات الطفولة وبهجتها.

“ما زلت أرغب في رتق كرة القماش

أبدد الغيم عن أعشاش الحمام الرابضة فوق سطح عار

الآن أتذكر ليلة رصد النجمة القطبية مع أندادي فوق أكداس الرمل… “

لكن بهجة الذاكرة الصامدة سرعان ما تتبدد وتخترقها لحظة النهاية، لحظة الألم التي يشعر بها الفرد من رحيل الماضي فإذا جلال باباي يعلن بحزن ألم فقد أشياء الطفولة:

” فلم يبق لحومة الرمل شيء تملكه سوى بعض مقاطع “ياما القمر على الباب ونثار عتبات لسيرة قديمة…”

وبذلك تتحول كتابة الشاعر لقريته نوعا من كتابة الأطلال والتعبير عن ألم فقد المكان، ولكن الألم الذي رافق كتابته لقريته لم يغادره وهو يكتب أغلب المدن الأخرى…

مدن النكبات:

يعود جلال باباي بذاكرته إلى النكبات العربية القديمة والمعاصرة، فإذا به يتذكر المدن السليبة التي تم افتكاكها أو زالت من الخريطة العربية، وما زالت قابعة تحت الاحتلال

في هذا المجال يستعيد الشاعر وهج فرطبة العلمي، ذاكرا رموزها العلمية والمعرفية والإبداعية.

” هذا ابن رشد في عزلته

يحرس بوابة المدينة المنهكة

يقيم خارج محرابه حزينا

لم يحتمل جحيم الحدث

كان هنا بين الحنايا

يجلس القاضي خلف

حدائق وقباب مسجدها …”

ولعل هذا المقطع يشير بوضوح إلى حالة الحزن والقتامة. فما زالت قرطبة حزينة على أمسها وعلى ما وقع لها:

“هي قرطبة تبكي أندلسها”

ولعل نفس هذا الحزن يلف في نص آخر صقلية، ففيها “تبكي حديقة النخيل أحفادها / تحت الصخر ترسو / سفن بورجو وبين القباب الحمراء / ثمة حكايةأندلسية تأسرنا بدهشتها المعتقة. “

ولا يقتصر الشاعر على نكبات الأمس البعيد، بل يأخذنا إلى الذاكرة القريبة، ونكبات المدن المعاصرة التي اجتاحتها الحرب في العقود الأخيرة وارتسمت أحزانها في الذاكرة الإنسانية على غرار سراييقو وبيروت وبغداد والبوسنة، فالشاعر يقحم مشاهد الحرب الدمار التي شاهدها العالم في تصويره لهذه المدن، ففي سراييغو” وحدها تتساقط أطياف الأطفال في الملاجئ / تحترق كتاتيب المدينة وكنائسها ويطال السماء دخان ذاكرة…”وفي خريف البوسنة “ذا رماد يشوه حيطان المساجد وتلك أرصفة تنزف بالدماء…”. ولعل الصورة الشعرية تبدو في هذا المجال كتابة لصور الإعلام المرئي ومحاولة تجسيدها بالكلمات.

وهكذا تبدو مدن جلال باباي في هذا العمل حزينة، منكسرة، بل هي مدن مخربة لم تبق منها غير أشلاء صور تحفظها الذاكرة، وإذا نصوص هذا العمل مراثي متجولة تجول في الخريطة العربية والإسلامية بكل حزن وألم.

spot_imgspot_img