spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر

أنا أحب إذن أنا موجود هو كوجيتو إيروسي، سمته غرائزية بامتياز، وبالتالي هو كوجيتو لا- ديكارتي، اخترناه كعنوان لهذا المقال الذي نريد أن نعبّر فيه عن رغبة ما لدينا في الكتابة في الرغبة والشهوة وهما مفهومان ليسا غريبَين عن الطبيعة البشرية. أما “الفائض من الغرائز” فأعني به ما صدر من الغرائز وما فاض عنها. وما نقصده هنا بالعبارة “ما فاض عن الغرائز” هو تحديدا الإغراء والغواية. مفهوم الغريزة مرجعه الطبيعة أما مفهوم الإغراء فمرجعه الرمزُ الميتا- طبيعي. الرموز صناعة بشرية وفن إنساني، هي ابتكار وإبداع يميّز بهما الإنسان نفسه عن الطبيعة رغم انطلاقه منها. فنحن نوجد مع الإغراء، في عالم ما فوق الطبيعة وداخل علم السيميولوجيا بما هي هيرمينوطيقا العلامات الرمزية. “أنا أحبك” معناها أنا ألقي إليك برمز، النظرةُ مثلا، وأنتظر أن تتلقاه وأن تعيده إليّ ليس “كرؤية طبيعية” بل “كنظرة اصطناعية وفنية” مليئة بالدلالات. السيميولوجيا هي علم تأويل الدلالات. النظرة ههنا هي فائض الرؤية الطبيعية، أي ما زاد عنها دلاليا.

ركزت الماركسية في عمومها على الفائض من القيمة الاقتصادية لتفسير واقع البشر، ليس ذلك خاطئا أبدا ولكنه ليس كافيا لوحده إن لم نضف إليه الفائض من الغريزة في فهمنا للكينونة الآدمية المعقدة. ثمّة تدقيق مفهومي آخر يتعلّق “بالإغراء.” إنّ ما أعنيه في هذا المقال بمفهوم الإغراء هو دلالة “الغواية”. يبدو لي أنّ الإغراء هو مفهوم أعمّ من مفهوم الغواية، فإذا كانت الغواية تقتصر على الحب والجنسانية أساسا فإنّ الإغراء يشمل ما ليس جنسانية بالضرورة كقولنا مثلا فلان أغراه المال أو أغرته السلطة. الإغراء يعوّم الجنسانية إذن، لكننا سنستعمله في هذا المقال كمرادف للإغواء نظرا لاستئناسنا به وتعوّدنا على المراوحة الدلالية السلسة بينهما.

وفي الحقيقة، لا تسعفنا المعاجم اللغوية والموسوعات الفلسفية الكلاسيكية بما يثلج صدورنا حول الإغراء أو الغواية لأنهما فيض من الغريزة. لا شكّ أنّ اللاهوت والميتافيزيقا كان لهما الأثر المُهين للوجود الايروسي للإنسان مقابل إعلائهما المفتعل والمزعوم للنفس والفكر. كان الإغراء دائما المطرود من اللغة والميتافيزيقا والأديان، لكنه لم يندثر أبدا، كانوا يكرهونه ويحقدون عليه لأنه الأقرب منهم كلهم إلى حميمية الإنسان، وحميميته هي حقيقته التي لا يظهرها إلا قليلا للآخرين ، فهي من جنس المتحجّب، وإنّنا نعرف أهمية التحجب البالغة لدى فرويد، فهو كالنسيان، أزلي في الإنسان. إنه يخبّئ داخله كلّ شيء. هذا “الكلّ شيء” هو جميع المعاني الملثمة والفارّة بنفسها داخل الرموز والإشارات. كانت الميتافيزيقا الافلاطونية تخشى خطاب الإغراء كما هو حاصل في الشعر والسياسة، وكانت تكره نزوات الغرائز وشبقيتها رغم كونها غرائز لا تقول شيئا آخر غير حقيقة الإنسان. أما عن الأديان فحدّث ولا حرج، لقد ارتبط داخلها الإغراء بالغواية الحوّائية التي أوقعت الذكر والأنثى في الخطيئة والضلال، فطردا من الجنة ومعهما الشيطان. ورد في سفر التكوين بالانجيل ما يلي: «وَكَانَتِ الْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلهُ، فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ: «أَحَقًّا قَالَ اللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأْكُلُ، وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا. فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: لَنْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ». فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ. فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ. وَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلهِ مَاشِيًا فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ، فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإِلهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ. فَنَادَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَقَالَ لَهُ: «أَيْنَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ فَقَالَ: مَنْ أَعْلَمَكَ أَنَّكَ عُرْيَانٌ؟ هَلْ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ أَنْ لاَ تَأْكُلَ مِنْهَا؟ فَقَالَ آدَمُ: الْمَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ. فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْمَرْأَةِ: مَا هذَا الَّذِي فَعَلْتِ؟ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: الْحَيَّةُ غَرَّتْنِي فَأَكَلْتُ، فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْحَيَّةِ: لأَنَّكِ فَعَلْتِ هذَا، مَلْعُونَةٌ أَنْتِ مِنْ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ وَمِنْ جَمِيعِ وُحُوشِ الْبَرِّيَّةِ. عَلَى بَطْنِكِ تَسْعَيْنَ وَتُرَابًا تَأْكُلِينَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكِ وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ  « .(انتهى سفر التكوين).

تلك قصة الدين حول حوّاء وآدم اللّذين خسرا الجنة بسبب الإغراء والغواية. ولكن للميتافيزيقا قصص أيضا في ذات الموضوع، فما كان أفلاطون مطمئنّا أبدا للخطاب المغري في كتاب “الجمهورية”، وما كان يثق أبدا في خطاب الإله إيروس في حوار “المأدبة”.

ومن حسن حظ تاريخ البشر أن وُجد داخله الأدباء والشعراء، فهم وحدهم، دون فلاسفة الميتافيزيقا والمتدينين، قد أحبوا الإغراء فجعلوا خطاب الحب أرقى أشكال الخطابات وأفضلها، كما جعلوا طريق الغواية ممرّا إلى الصواب وليس معبَرا إلى الضلال. أشهر الكُتَّاب في فنون الإغراء هو دون شك “أوفيد” الروماني (43 ق. م- 17 م). لا أرغب في القول أنّ أوفيد هو “مُنظِّر” الإغراء بسبب أنّ الإغراء هو في اعتقادنا ليس نظرية بل فنّ العيش داخل جمال الشهوة، كما إنه شاعر لم يقترح تحديدا نظرية مُثُلية حول ما يجب أن يكونه العيش الجميل لأنّ “ما يجب أن يكون” هو عادة ما ليس كائنا حاليا وقد لا يكون كائنا أبدا. وفي اعتقادنا، كانت البشرية على عجلة من أمرها لحبك أسرار الإغراء وأيضا لفكّ شفرات نفس تلك الأسرار، إذ أنها، أي البشرية، لم تنتظر “فرويد” في القرن العشرين حتى تفهم أنّ الإيروس الآدمي يعبّر عن وجوده داخل الرموز. كان لدى الإنسانية الشاعرَ الأصيل “أوفيد” الذي ألّف كتابه الأكثر شهرة في تاريخ الإغراء عنوانه اللاّتيني Ars amatoria والذي ترجمه الفرنسيون ب L’art d’aimer وترجمه العرب المحدثون ب ” فنّ الهوى” علما أنّنا نفهم لفظ “الهوى” هنا أوفيديا أي شهويا وخال في حدّه الأدنى من أيّة طهورية. الكتاب هو أبيات من الشعر الديداكتيكي، أي التعليمي فهو يقدم دروسا يحتاجهما الجنسان لإغراء بعضهما البعض وإيقاع بعضهما البعض في الحب والهوى. اللفظ اللاتيني amatoria ترجمَتُه “الحب والهوى”، أما اللفظ Ars فهو يحمل معنى l’artificeأي “الفن والتقنية والصناعة”، ويحمل أيضا معنى La manière أي الكيفية أو الأسلوب أو الطريقة. هكذا فإنّ عنوان الكتاب Ars amatoria يعني كيفية الإغراء أو أسلوب الإغراء في الحب، وأن يكون الأمر متعلقا بالكيفية فمعناه أنّ الإغراء هو فنّ صناعة الرمز بما هو دال غني بالمدلولات المتنوعة. يبدأ كتاب “أوفيد” بعرض موضوعه التربوي:

إن كان بينكم أحد، أيها الرومان، من يجهل فنّ الحب، فليقرأ أبياتي،

ولْيتعلم دروسا من قراءتها، ولْيحب…

يجب على الفن أيضًا أن يرشد الحب

مثلما أرشد المركبَ الرشيقَ في إبحاره

لقد نصّبتني “فينوس” سيّدا لابنها الصغير.”

فنّ الإغراء لدى أوفيد هو العيش بل قل هو حقيقة العيش التي ستبطل إن تحولت إلى فلسفة للعيش.

كان يمكن أن نذكر الشاعر “بودلير” إلى جانب “أوفيد”، فهو الذي أدلى بدلوه في عمق الأنوثة ليستخرج منها فنّ الإغواء بواسطة الرموز، أي فنّ استعمالات الأنثى للعلامات الشهوية الفائضة من الغرائز الطبيعية. الإغواء صناعة إذن art- ifice ، وكما قلنا، إنه ليس الطبيعة لأنه أكثر منها رغم كونه منغرس في كمونية اللحم. الإغراء هو “واجب ايروسي قطعي” وحيّ، منفصل تماما عن “الواجب الأخلاقي القطعي” الميّت، أي لا علاقة ممكنة له مع ذاك الواجب الميتافيزيقي العقلاني (إشارة إلى كانط)، وهو منقطع أيضا عن الواجب اللاهوتي الغيبي الكاره لمجون الذات وشهواتها الحرّة. لذلك فإنّ فنّ الإغراء هو صناعة ذاتية، حرّة بإطلاق، حريته تهدّد حتى النظام الالهي الصارم للكون، ولإنّه حرّ بإطلاق فإنه، أي الإغراء، يربك أيضا نظام الميتافيزيقا ونظام الفيزيقا (الطبيعة). إنه لا يَخضع لقهر اللاّهوت أبدا ولا إلى “أورغانون “الفلاسفة، أي إلى المنطق عندهم. وقد تكون الميثولوجيا فقط هي المنظومة الوحيدة التي تستوعبه، قد تكون كذلك لأنها كلام انسيابي لا عقل له، ولا حاجة للكلام إلى عقل يخنقه. الإغراء هو كالأسطورة: فنّ الخيال، وسحر الكلام، ومخزن الرموز.

بقي أن نشير بعجالة إلى أنّ الفلسفة حين تخلّت عن مسألة الإغراء فإنها قد تركت المجال فسيحا في عصرنا للرأسمالية لتستولي عليه وتطوّعه لمراكمة الأرباح، إذ رأس المال البورجوازي المعاصر قد تفطّن إلى أهمية صناعة الرموز في المراكمة الريعية، فأذلّها كصناعة لقيم الحب والجمال، إذ لم تعد رموز الإغراء فائضا من حميمية غرائز الإنسان الحرّ، بل فائضا في القيمة الاستهلاكية للإنسان المقهور.

تلك محنة الإنسان المعاصر: فقدان القدرة على الإغراء داخل عوالم الحب والجمال، أي داخل عوالم غير عالم الاستهلاك الاقتصادي. لقد غدا الإنسان المعاصر مخصيا ايروسيا، وما عاد قادرا على صناعة الصور والرموز، ما عاد قادرا على الإغراء.

لكن مهما يكن من أمر، ومهما تنوعت أدوات القهر الرأسمالي لرموز الإنسان الفائضة من غرائزه، ومهما غُلبت علاماته السيميولوجية الدالة عن حبّه للحب، فإنّ غريزتين تظلاّن ساكنتين لديه أبد الدهر: غريزة الحب وغريزة الحرية !

spot_imgspot_img