المصدر: الموسوعة أو المعجم العقلاني للعلوم والفنون والحرف (أو موسوعة ديدرو ودالمبير، باريس 1765م)
ترجمة: الأسعد الواعر
الحرية، (الأخلاق) تكمن الحرية في قدرة الكائن الذكي على فعل ما يريده وفقًا لتصميمه. لا يمكننا إلاّ أن نقول في معنى غير دقيق تمامًا أنّ هذه القدرة تقع في الأحكام التي نُصدرها حول الحقائق، مقارنة بتلك البديهية، إنها تستلزم موافقتنا، ولا تترك لنا أيّ حرية. كلّ ما يلزمنا هو أن نعرف ما إذا كنا نحشر أذهاننا فيها أم نُبعده عنها. لكن ما إن تتضاءل البداهة حتى تعود الحرية إلى حقوقها التي تتفاوت وتنتظم بحسب درجات الوضوح أو الغموض: فالخيرات والشرور هي العناصر الرئيسية. ومع ذلك، فهي لا تمتدُ إلى المفاهيم العامة للخير والشر. لقد خلقتنا الطبيعةُ بشكل لا يمكننا معه التوجه سوى نحو الخير، والخوف من الشرّ بشكل عام، ولكن عندما يتعلق الأمر بالتفاصيل، فإنّ نطاق حريتنا سيكون شاسعا، إذ ستحدّدنا هذه الطبيعةُ بعدّة طرق مختلفة وفقًا للظروف والدواعي. نستخدم عددا كبيرا من البراهين لإثبات أنّ الحرية هي امتياز حقيقي للإنسان، لكن تلك البراهين ليست متساويةَ في القوة. يعرض السيد “توريتين” في قائمة اثني عشر برهان:
1- شعورنا الخاص هو الذي يزودنا بالاقتناع بالحرية.
2- سيكون الناس بدون الحرية مجرّد آلات محضة، تتّبع وقْع الأسباب عليها كما تتبعُ الساعةُ وقع الحركات التي شاءها لها صانعُها وتخضع لها.
3- إنّ أفكار الفضيلة والرذيلة، والثناء واللّوم، التي تعتبر طبيعية بالنسبة لنا، لن تعني لنا شيئا في مثل تلك الحالة.
4- لن تكون نعمة جديرة بالاعتراف أكثر من جدارة الاعتراف بالنار التي تدفئنا.
5- كل شيء يصبح ضروريا أو مستحيلا. ما لم يحدث لا يمكنه أن يحدث، لذا فإن كلّ المشاريع لا لزوم لها، وجميع قواعد التحوّط خاطئة، لأن الغاية والوسيلة قد تحددتا بالضرورة في كل شيء.
6- من أين سيصدر ندم الضمير، وما الذي يجب أن ألوم نفسي عليه إذا فعلتُ ما لا أستطيع تجنب فعله؟ 7- من هو الشاعر والمؤرخ والفاتح والمشرع الحكيم؟ إنهم أشخاص لم يكن بإمكانهم التصرف بطريقة مختلفة عمّا تصرّفوا به.
8- إذا لم تكن الحرية موجودة أبدا، فلماذا معاقبة المجرمين ومكافأة الطيبين؟ فأغلب الأشرار هم الضحايا الأبرياء الذين قُدِّموا قرابين.
9- لمن يمكن أن ننسب سبب الخطيئة، أليس لله؟ وماذا سيكون الدين حينها ومعه جميع واجباته؟
10- لمن يشرع اللهُ القوانينَ، ويقطع الوعود والتهديدات، ويعدّ العقوبات والمكافآت؟ أيقوم بذلك لآلات بحتة غير قادرة على الاختيار؟
11- إن لم تكن ثمّة حرية، فمن أين إذن أتتنا الفكرة عنها؟ ومن الغريب أنّ أسبابا ضرورية هي التي جعلتنا نشكّك في ضرورتها.
12 وأخيرًا، لا يمكن للقَدَريين أن يستقبحوا أيّ شيء يقال لهم، أو يحدث لهم.
ولمعالجة هذا الموضوع بدقة لا بدّ من إعطاء فكرة عن الأنساق الرئيسية التي تهمّه. النسق الأول للحرية هو نسق القَدَرية. إنّ أولئك الذين يقرّون بذلك لا ينسبون أفعالنا إلى أفكارنا، التي يكمن فيها الإقتناع فقط، بل ينسبونها إلى سبب ميكانيكي يجرّ معه التحكمَ في الإرادة، بشكل لم نعد فيه نتصرف لأننا نريد، بل إننا نريد لأننا نتصرف. ذاك هو الفرق الحقيقي بين الحرية والقدر. وهذا بالضبط ما اعترف به الرواقيون في الماضي، وما زال المسلمون يعترفون به حتى اليوم. لذلك اعتقد الرواقيون أنّ كل شيء يحدث بالقدر الأعمى، وأنّ الأحداث تتابع بعضها البعض دون أن يتمكن أي شيء من تغيير السلسلة الضيقة التي المتشكلة فيما بينها، وأنّ الإنسان ليس حرا أخيرا. لقد قالوا إنّ الحرية وهم، يغري جدّا كبرياء الذات ويفسح له المجال بالكامل. تتمثل الحرية في نقطة حساسة نسبيا إلى حد ما، وهي أن يكون الإنسان شاهدا بنفسه على أفعاله، وأن يتجاهل الدوافع التي دفعته إلى القيام بها: وينجرّ عن ذلك أنّ تجاهل الإنسان لتلك الدواعي، وعجزه على استجماع الظروف التي حتّمت عليه التصرف بطريقة معينة، يجعلانه يهنئ نفسه على أفعاله، وينسبها إلى ذاته.
ومردّ مصير الأتراك الذين هم فيه هو اعتقادهم بأنّ كل شيء غارق في التأثيرات السماوية، وأنها هي التي تنظم المجرى المستقبلي للأحداث.
كانت لدى “الإسينيين” فكرة عالية وحاسمة عن العناية الإلهية، لدرجة أنهم اعتقدوا أن كل شيء يحدث بقدر لا مفر منه، وبحسب الترتيب الذي وضعته هذه العناية الإلهية، والذي لا يتغير أبدًا. ليس ثمة أبدا اختيار في منظومتهم، وليس فيها الحرية. تشكل جميع الأحداث سلسلة ضيقة وغير قابلة للتغيير: إذا أزلنا واحدًا من هذه الأحداث، فستنكسر السلسلة، ويضطرب اقتصاد الكون بأكمله. ومما لا بد من الإشارة إليه هنا هو أنّ العقيدة التي تقضي على الحرية تؤدي بطبيعة الحال إلى الشهوة، ومن لا يستشير إلا ذوقه وكبرياءه ونوازعه فسيجد ما يكفي من الأسباب لإتباعها والمصادقة عليها: رغم ذلك فإنّ أعراف الأسينيين والرواقيين لم تشعر أبدا باضطراب في أذهانهم.
لقد اعترف سبينوزا وهوبز وآخرون اليوم بقدَرية مماثلة.
فلقد أشاع سبينوزا هذا الخطأ في عدة مواضع من أعماله، والمثال الذي يستخدمه لتوضيح مسألة الحرية يكون كافيا لإقناعنا. قال: «تصور أنّ الحجر، وهو يواصل حركته، يفكر ويعرف أنه يسعى لمواصلة حركته قدر استطاعته. هذا الحجر، يعتقد، أثناء حركته، أنّ جهده هو الذي جعله يتحرك، إذ ليس لديه وعي إلاّ بجهده هو، في حين أنه يجهل الأسباب الخارجية التي تحكمت في حركته، وهكذا يتصوّر نفسه حُرّا، وأنه لا يستمرّ في الحركة إلا لأنه يريد ذلك. تلك هي الحرية التي يتبجحون بها كثيرًا، والتي لا تتمثل إلا في ما للناس من شعور بشهواتهم، نظرا لجهلهم بأسباب قراراتهم.” لا يجرّد سبينوزا المخلوقات من الحرية فحسب، بل يُخضع إلهه أيضًا لضرورة وحشية ومميتة: وهذا هو الأساس الكبير الذي يقوم نسقه. ويترتب على هذا المبدأ أنه من المستحيل أن يوجد أيّ شيء غير موجود حاليًا، وأنّ كلّ ما هو موجود هو موجود بالضرورة بحيث لا يمكنه الاّ أن يوجد. وأخيرًا، لا توجد حتى طرق للوجود ولا توجد ظروف لوجود الأشياء، بأيّ شكل كان، سوى ما هي موجودة عليه اليوم. يعترف سبينوزا بعبارات صريحة بهذه الاستتباعات، ولا يجد حرجا في الاعتراف بأنها نتائج طبيعية لمبادئه.
كل الحجج التي استخدمها سبينوزا وأتباعه لدعم هذه الفرضية السخيفة يمكننا اختزالها في أمرَين: يقولون أوّلا: بما أنّ كل نتيجة تقتضي وجود سبب، وبما أنّ كل حركة تحدث في جسم تحصل بدفع جسم آخر، وحركة هذا الجسم الثاني تحصل بدفع جسم ثالث، فإنّ كلّ فعل إرادي وكلّ تحديد لإرادة الإنسان، يجب أن ينتجا بالضرورة عن سبب خارجي، ليكون لهذا السبب الخارجي سبب ثالث، فاستنتجوا من ذلك أنّ حرية الإرادة ليست سوى وهم.
ويقولون ثانياً: إنّ الفكر بكل صوره ما هو إلا صفات للمادة، وبالتالي لا توجد حرية الإرادة، إذ من الواضح أنّ المادة ليس لها في ذاتها القدرة على تحريك الحركة، أو إعطاء نفسها أدنى قدر من التحديد.
يضيفون ثالثًا: إنّ ما نحن عليه في هذه اللحظة التي ستلي يقوم بالضرورة على ما نحن عليه في اللحظة الآنية، وأنه من المستحيل ميتافيزيقيًا أن نكون غير ما نحن عليه. فلفترض، حسب قولهم، امرأة قادها هواها إلى إلقاء نفسها بنفسها في أحضان عشيقها، ولنتخيّل مائة ألف امرأة متشابهات تمامًا مع الأولى في العمر والمزاج والتعليم والتنظيم والأفكار، بحيث لا يوجد فرق بين هن وبين الأولى. سنرى حينها أنهن خضعن جميعا إلى هيمنة الشهوة، وألقين بأنفسهن في أحضان عشاقهن، دون أن نتمكن من تصور أي سبب يمنع إحداهنّ من القيام بما ستفعله الأخريات.
نحن لا نفعل أيّ شيء يمكن أن نسميه صوابا أو خطأ دون دافع. لكن لا يوجد أيّ دافع يعتمد علينا، لا فيما يتعلق بتوليده ولا فيما يتعلق بنشاطه. إنّ الادّعاء بأنّ في النفس نشاط خاص بها هو قول لا يُفهم ولا يفضّ أيّ مشكل، إذ يجب أن يوجد سبب مستقل عن النفس يحدد هذا النشاط لهذا الشيء بالذات دون غيره من الأشياء الأخرى. فإذا استعدنا الجزء الأول من الاستدلال، فسنرى أنّ ما نحن عليه في اللحظة التي ستأتي، مرتهن بشكل مطلق على ما نحن عليه في اللحظة الحالية وبالتالي فإن ما نحن عليه في اللحظة الحالية يعتمد على ما كنا عليه في اللحظة السابقة، وهكذا دواليك، نعود إلى اللحظة الأولى لوجودنا، إن وجدت. وبالتالي فإنّ حياتنا ليست سوى سلسلة من لحظات الوجود والأفعال الضرورية، وإرادتنا، والإذعان عن مضض لما نكونه ضرورة في كل لحظة من هذه اللحظات، وحريتنا، هي كلها مجرد وهم. إما أنه لا شيء مبرهن عليه بأي شكل من الأشكال، وإما أنّ كل الأشياء مبرهن عليها بجميع الأشكال. لكن ما يؤكد عليه هذه النسق بشكل خاص هو لحظة التروّي في اتخاذ القرار، في حالة التردد. ماذا نفعل في التردد؟ نحن نتأرجح بين دافعين أو أكثر، يسحباننا بالتناوب في اتجاهين متعاكسين. إنّ إدراكنا إذن هو بمثابة الخالق والمتفرج في ضرورة تأرجحاتنا. أزلْ كل الدوافع التي تستثيرك، ستجد عطالة والسكون الضروريين. لكن افترض دافعًا واحدًا، فستجد أنّ القيام بفعل ما سيكون ضروريا. لتفترض وجود دافعَين أو أكثر متعاضدين، ستحصل على نفس الضرورة، وعلى سرعة أكبر في الفعل. ولتفترض وجود دافعَين أو أكثر متعارضين ومتساويين تقريبًا في القوة، فستوجد اهتزازات، وهي اهتزازات مماثلة لتلك التي تتحرك بها أذرع الميزان، فستتواصل حتى يقوم الدافع الأقوى بإصلاح وضع الميزان ووضع النفس. وكيف للدافع الأضعف أن يكون الدافعَ المحدّد؟ إن حصل ذلك فمعناه أنه الأضعف والأقوى في نفس الوقت. لا يوجد فرق بين الإنسان الآلي الذي يأتي أفعالا في النوم، والإنسان الذكي الذي يفعل ويسهر، سوى الإدراك الحاضر في الشيء، أما الضرورة فهي دائما نفسها.
ولكن قد يُقال، ما هذا الشعور الداخلي بحريتنا؟ أليس هو وهم الطفل الذي لا يفكر في أي شيء. فالإنسان لا يختلف عن الرجل الآلي؟ لا يختلف عن الإنسان الآلي الذي يستشعر، هل هو آلة أكثر تعقيدا؟ إذن لن يوجد حينها أناس أشرار وآخرون فاضلون؟ أليس كذلك، إن شئت. ولكن هناك كائنات سعيدة أو غير سعيدة، وخيرة وشريرة. وماذا عن الثواب والعقاب؟ يجب حظر هذه الكلمات من سجلّ الأخلاق، نحن لا نكافئ أبدا، بل نحث على فعل الخير، ولا نعاقب أبدا بل نضيق الأنفس ونخيف؟ وما فائدة القوانين والقدوات الصالحة والمواعظ؟ ستكون أكثر نفعا حين تكون ذات نتائج بالضرورة. ولكن، لماذا تُفرد الرجل الذي يسيء إليك بسخطك وغضبك، عن حجر القرميد الذي يجرحك؟ أليس لأنني أخرق الصواب، فأنا مثل الكلب الذي يعض الحجر الذي أصابه. لكن من أين جاءت فكرة الحرية هذه التي لدينا؟ ألم تأتي من نفس المصدر الذي مدنا بعدد لا يحصى من المفاهيم الخاطئة؟ لقد لخص هؤلاء ما يلي في كلمة واحدة: لا تنزعج في غير محلّ الانزعاج. هذا النسق الذي يبدو لك خطير جدًا ليس كذلك أبدا في حقيقته، إنه لا يغير شيئًا في النظام المرتب للمجتمع. ستُمنع دائمًا الأشياء التي تفسد البشر، أما الأشياء التي تعمل على تحسينهم فستتضاعف وتتعزّز. هو نزاع بين أناس خاملين، لا يستحق أدنى اعتبار من جانب المشرع. إلا أنّ نظام الضرورة عندنا يضمن لكل سبب جيد، أو قضية تتوافق مع النظام القائم، تأثيره الجيد، ويضمن لكلّ سبب سيء أو مخالف للنظام القائم، تأثيره السيئ، وإنّ الدعوة بالمغفرة للذين وُلدوا لسوء الحظ، والإشفاق عليهم، يمنعاننا من أن نكون عديمي الفائدة إن لم نشبههم. إنها سعادة غير متوقفة علينا بأيّ شكل من الأشكال.
رابعاً، يتساءلون ما إذا كان الإنسان كائناً بسيطاً وروحياً تماما، أم هو جسدي تماما، أم إنه كائن مركب من ذاك وهذا. لا يجدون في الحالتين الأوليتين صعوبة في إثبات الضرورة في أفعاله. أما إذا أجبناهم بأنّ الإنسان كائن مكوَّن من أصلَين أحدهما مادي والآخر غير مادي، فانظر كيف يبنون استدلالاتهم. فإما أنّ المبدأ الروحي هو دومًا تابع للمبدأ غير المادي، أو إنه مستقلً عنه دومًا. فإذا كان تابعا له دوما فستوجد الضرورة المطلقة كما لو كان الكائن واحدا وبسيطا وكله مادي دومًا، وهذا صحيح. لكن إذا قلنا إنّها تابعة له تارة، ومستقلة تارة أخرى، إذا قلنا لهم أنّ أفكار المصابين بالحمى الساخنة وأفكار المجانين ليست حرة، في حين أنها حرة لدى الأصحاء، فسيجيبون بأنه ليس هناك تجانس ولا اتصال في نسقنا، وأننا نجعل المبدأين مستقلان بحسب حاجتنا إلى الدفاع عن أنفسنا وليس بحسب حقيقة الشيء. إذا لم يكن المعتوه حرّا فليس معناه أنّ الحكيم أكثر حرية منه، وإذا دافعنا على عكس ذلك فمعناه الادّعاء بأن وزن خمسة أرطال لا يمكن حمله بوزن ستة أرطال، ولا يمكن أيضًا حمله بوزن ألف رطل لأنه سيصمد بواسطة مبدأ مستقل عن ثقالته أمام وزن قدره ستة أرطال.
تلك بالتأكيد أقوى الحجج التي يمكن تقديمها ضدّ مشاعرنا. لإبطالها، سأعارضهم بالمقترحات الثلاث التالية: الأول هو أنه من الخطأ أن تكون كل نتيجة هي وليدة سبب خارجي ما، بل بالعكس من ذلك، من الضروري للغاية الاعتراف ببداية للفعل، أي الاعتراف بوجود القدرة على التصرف بشكل مستقل عن أيّ فعل سابق، وأنّ هذه القدرة يمكن أن تكون موجودة في الإنسان، وهي بالفعل كذلك. اقتراحي الثاني هو أنّ الفكر والإرادة ليسا من صفات المادة ولا يمكن أن يكونا كذلك. أخيرا، إنّ المقترح الثالث هو التالي: حتى إن لم تكن النفس جوهرا متميزا عن الجسد، وحتى إن نفترض أن الفكر والإرادة ليسا سوى صفات للمادة، فإنّ لا شيء يثبت أنّ حرية الإرادة أمر مستحيل.
أقول أولا، إنّ كل نتيجة لا يمكن أن تنتج عن أسباب خارجية، فمن الضروري الاعتراف ببداية الفعل، أي الاعتراف بالقدرة على التصرف بشكل مستقل عن أيّ فعل سابق، وأن هذه القدرة موجودة حاليًا في الإنسان (…).
وأقول ثانيًا، إن الفكر والإرادة ليسا من صفات المادة، وبالتالي لا يمكن أن يخضعا لقوانينها، لأن كل ما نشأ من شيء وتكوّن منه، فسيكون دائمًا نفس الشيء الذي تكون منه. على سبيل المثال، كل التغييرات وكل التركيبات وكل التقسيمات الممكنة للشكل ليست سوى الشكل، وكل التركيبات وكل التأثيرات المحتملة للحركة لن تكون أبدًا سوى الحركة. فلو كان هناك زمن لم يكن فيه شيء في الكون سوى المادة والحركة، لكان من الضروري القول إنه من المستحيل أن يكون هناك أي شيء في الكون غير المادة وتلك الحركة. وعلى هذا الافتراض، من المستحيل أيضًا أن يكون الذكاء والتفكير وجميع الأحاسيس المختلفة قد بدأت في الوجود، وأنه من المستحيل الآن أن تصبح الحركة زرقاء أو حمراء، وأن يتحول المثلث إلى صوت (…).
لكن، حتى لو سلمت لسبينوزا وهوبز بأنّ الفكر والإرادة يمكن أن يكونا بالفعل صفات للمادة، فإنّ كل ذلك لن يحسم لصالحهما السؤال المطروح حول الحرية، ولن يثبت أنّ الإرادة الحرة هي أمر مستحيل. فبما أننا قد أثبتنا أن الفكر والإرادة لا يمكن أن يكونا نتاجًا للشكل والحركة، فمن الواضح أنّ كل إنسان يفترض أنّ الفكر والإرادة هما من صفات المادة، يجب عليه أيضًا أن يفترض أنّ المادة قادرة على امتلاك خصائص معينة تختلف تمامًا عن الشكل والحركة. لكن إذا كانت المادة قادرة على امتلاك مثل هذه الخصائص، فكيف يمكننا إثبات أنّ تأثيرات الشكل والحركة، بسبب كونها ضرورية كلها، وتأثيرات خصائص أخرى للمادة تختلف تمامًا عن تلك، يجب أن تكون ضرورية أيضا بنفس القدر؟ لذلك يبدو أنّ الحجة التي يستخدمها هوبز وأتباعه كدرع كبير لهم ليست سوى سفسطة محضة، إذ هم يفترضون من جهة أن المادة قادرة على التفكر والإرادة ليستنتجوا من ذلك أنّ النفس ليست إلا مادة خالصة. وهم يعلمون من جهة أخرى بأنّ تأثيرات الشكل والحركة يجب أن تكون كلها ضرورية ليستنتجوا أنّ كلّ عمليات النفس ضرورية، وهذا يعني أنه عندما يتعلق الأمر بإثبات أنّ النفس ليست سوى مادة خالصة، فإنهم يفترضون أن المادة قادرة ليس فقط على امتلاك الشكل والحركة، ولكن أيضًا على امتلاك خصائص أخرى غير معروفة. على العكس من ذلك، إذا كان الأمر يتعلق بإثبات أنّ الإرادة وعمليات النفس الأخرى هي أشياء ضرورية، فإنهم يجردون المادة من هذه الخصائص المزعومة، ويجعلونها مجرد مادة صلبة خالصة، مكوّنة من شكل حركة.
(…) بعد أن استوفينا بعض الاعتراضات الموجّهة ضدّ الحرية، دعونا بدورنا نهاجم أنصار القدر الأعمى. فالحرية تلمع بكامل ألقها، سواء نظرنا إليها في العقل أو فحصناها في علاقة بالسلطة التي تمارسها على الجسد. فأولا، عندما أريد أن أفكر في شيء ما، مثل التفكير في قوة المغناطيس في جذب الحديد، أليس من المؤكد أنني أوجه نفسي للتأمل في هذا السؤال متى شئت وأن أصرفه عنه متى شئت؟ إن شككتَ في ذلك فمعناه أنك ترواغ بشكل مخجل. إذن لا يتعلق الأمر هنا سوى باكتشاف السبب. نرى أنّ الشيء ليس أمام ناظريَّ، فليس لدي حديد ولا مغناطيس وهو ما يعني أنْ ليس الشيء هو الذي دفعني إلى التفكير في الأمر. أعلم جيدًا أننا عندما نرى شيئًا ما تبقى في الدماغ بعض الآثار التي تسهّل تحديد الأفكار. ومن ذلك، يمكن أن تتسرب هذه الأفكار أحيانًا من تلقاء نفسها إلى هذه الآثار، دون أن نعرف السبب، بل يمكن حتى لموضوع له علاقة ما بمن يمثلونه، قد يكون استثارهم وأيقظهم للقيام بفعل، ثم يأتي الموضوع من تلقاء نفسه ليحضر في خيالنا. وبالمثل، عندما تحرك العاطفة القوية الأرواحَ الحيوانية فإنّ الموضوع يُتمثَّل على الرغم منّا، ومهما فعلنا فإنه سيشغل أفكارنا. كل هذا وارد وليس لنا أن نختلف فيه. لكن الأمر ليس ذاك: فبالإضافة إلى كل تلك الأسباب التي يمكن أن تستثير في ذهني مثل هذه الفكرة، أشعر أن لديّ القدرة على خلق هذه الفكرة متى أردت ذلك. أفكر في هذه اللحظة لماذا يجذب المغناطيس الحديد، وفي لحظة ما، إذا أردتُ، فلن أفكر في ذاك الأمر بعد الآن، وسوف أشغل ذهني بالتأمل في مدّ البحر وجزره. ومن ثمة سأنتقل، إذا أردتُ، إلى البحث عن سبب الجاذبية، ثم سأتذكر، إذا أردتُ، فكرة المغناطيس، وسأحتفظ بها بقدر ما أريد. أتوجد حرية في التصرف أكثر من هذا. ليس لدي هذه القوة فحسب، بل أشعر وأعلم أنني أملكها. وبما أنها حقيقة تجربة ومعرفة وشعور، فيجب علينا أن نعتبرها حقيقة لا جدال فيها بدلاً من اعتبارها مسألة نتجادل حولها. لذلك، يوجد بلا شك، في داخلي أنا، مبدأ، أي يوجد سبب أسمى يحكم أفكاري، ويولدها، ويطردها بعيدًا، ويذكرها في لحظة ويأمرها، وتبعا لذلك يوجد في الإنسان روح حر، يعمل في ذاته كما يشاء.
وفيما يتعلق بعمليات الجسم، فإنّ السلطة المطلقة للإرادة مهمة جدا، فإذا أردتُ أن أحرك ذراعي، فسأحركه على الفور، وإذا أردتُ أن أتحدث، فسأتحدث الآن، وما إلى ذلك من الأفعال. نحن مقتنعون داخليًا بكل هذه الحقائق، ولا أحد ينكرها: لا شيء في العالم قادر على حجبها. في هذا الصدد، لا يمكن أن نعطي ونشكل فكرة عن الحرية دون أن أشعر بها ودون أن أعترف بها في نفسي مهما كانت عظيمة ومهما كانت مستقلة. من السخافة القول إنني أعتقد أنني حرّ وذلك لأنني مُتقبّل ومُعرَّض لعدّة محددات ناجمة عن حركات مختلفة لا أعرفها: فأنا أعرف وأفهم وأشعر أنّ المحددات التي تجعلني أتكلم، أو تجعلني أصمت، هي معتمدة على إرادتي، لذلك، نحن لسنا أحرارًا فقط بهذا المعنى، وهو أن لدينا معرفة بحركاتنا، وأننا لا نشعر بقوة ولا بإكراه، ولكن على العكس من ذلك، نشعر أنّنا نمتلك في بيتنا سيّدُ الآلة الذي يوجه لوالبها كما يشاء. فرغم وجود كل الأسباب وكل المحددات الذي تحملني على التجوّل وتدفعني إليه، إلا أنني شاعر ومقتنع بأنّ إرادتي يمكنها متى شاءت أن تعلّق وتوقِف في أيّ لحظة تأثير كلّ هذه اللوالب المخفية على أفعالي. فلو كنت آتي أفعالي فقط بموجب هذه اللوالب المخفية، من خلال انطباعات الأشياء، فسيتعين عليّ بالضرورة ساعتها إكمال إنجاز جميع الحركات التي تقدر تلك اللوالب أن تنتجها، تمامًا كما تُكمل الكرة كامل الحركة التي دفعتها على طاولة البليار.
ويمكننا أن نستشهد بعدة مناسبات في حياة الإنسان مورست فيها سلطةُ هذه الحرية بقوة لدرجة أنها روّضت الأجساد وقمعت كل الحركات بعنف. في ممارسة الفضيلة، حيث يتعلق الأمر فيها بمقاومة عاطفة شديدة، فإنّ كلّ حركات الجسد قد حدّدتها العاطفة، لكن الإرادة تقف ضدّ تلك الحركات وتقمعها لسبب وحيد، هو الواجب. ومن ناحية أخرى، عندما نتأمل في الكثير من الأشخاص الذين حرموا أنفسهم من الحياة، دون أن يُضطروا إلى ذلك بسبب الجنون أو الغضب، إلخ. ولكن اضطرتهم فقط رغبتهم المغرورة في جعل الناس يتحدثون عنهم، أو رغبتهم في إظهار قوة ذهنهم، إلخ. عندما نتأمل فيهم علينا بالضرورة أن نعترف بقوة الحرية، فهي أقوى من جميع حركات الطبيعة. ما هي السلطة التي لا ينبغي أن نمارسها على هذا الجسد لإرغام اليد، بدم بارد، على أخذ خنجر وغرسه في القلب.
أراد أحد أنبغ العقول في قرننا أن يختبر إلى أي مدى يمكننا أن ندعم مفارقة. لقد تجرأ خياله المتحرر على التلاعب بموضوع محترم مثل موضوع الحرية. انظروا في المأخذ بكامل قوته. ما هو تابع لشيء له نِسب ما معه، أي أنه يتلقى تغيرات عندما يتلقاها الآخر بحسب طبيعة النسبة. أما ما هو مستقل عن الشيء فلا يتناسب معه، بحيث يبقى مساويا عندما يتلقى زيادات وأحجاما. ويضيف هذا النابغة أنه يفترض مع كل الميتافيزيقيين ما يلي:
1- إنّ النفس تفكر بحسب استعدادات الدماغ، وإنّ بعض أفكار النفس هي إجابة لبعض الاستعدادات المادية للدماغ، ولحركات معينة تجري داخله.
2- إنّ جميع الأشياء التي نفكر فيها، بما فيها الأشياء الروحية، تترك استعدادات مادية في الدماغ، أي تترك آثارًا فيه.
3- أفترض أيضًا أنه يوجد في الدماغ في نفس الوقت نوعان من الاستعدادات المادية المتعارضة ذات قوة متساوية، بعضها يقود الروح إلى التفكير بشكل فاضل في موضوع ما، والبعض الآخر يقودها إلى التفكير بشكل رذيل. لا يمكن رفض هذا الافتراض، ويمكن بسهولة العثور على استعدادات مادية متضادة ومتواجدة معًا في الدماغ بنفس الدرجة، إذ يحدث أن تتواجد هناك معًا في كل مرة تفكر فيها النفسُ ولا تعرف إلى أي جانب تنحاز. وهذا يفترض، كما أقلت، إما أنّ النفس تستطيع أن تحدد نفسها بشكل مطلق في هذا التوازن داخل استعدادات الدماغ للاختيار بين الأفكار الفاضلة والأفكار الرذيلة، أو إنها لا تستطيع أن تحدد نفسها بشكل مطلق في هذا التوازن. إذا كانت قادرة على تحديد ذاتها فمعناه أنها تمتلك في داخلها القدرة على تحديد ذاتها، فرغم أنّ كل شيء في دماغها يميل فقط نحو عدم التحدّد فإنها قد حدّدت ذاتها. من ثمّة فإنّ هذه القدرة التي لها على تحديد ذاتها، هي مستقلة عن استعدادات الدماغ، إذ لا يوجد أيّ تناسب معها، ولذلك تظلّ تلك القدرة هي نفسها مهما تغيرت تلك الاستعدادات. وبالتالي، إذا ظلّ توازن الدماغ موجودا، وقرّرت النفس أن تفكر بشكل فاضل، فلن يكون لديها القدرة على تحديد ذلك، عندما يكون الميل المادي للتفكير بشكل رذيل هو الذي يسود على الميل الآخر، لذلك، مهما كانت درجة ارتفاع هذا الميل المادي للأفكار الشريرة، فإنّ النفس ستمتلك مع ذلك القدرة على تحديد ذاتها لاختيار الأفكار الفاضلة، وهذا يعني أنّ النفس تمتلك في ذاتها القدرة على تحديد ذاتها بالرغم من كل الاستعدادات المتضاربة للروح، وبالتالي فإنّ أفكار النفس هي حرة دائما.
دعونا نأتي إلى الحالة الثانية.
إذا كانت النفس لا تستطيع أن تحدد نفسها بشكل مطلق، فليس مصر هذا سوى التوازن المفترض في الدماغ، وإنّنا لندرك أنها لن تتحدد أبدًا إذا لم يتغلب أحد الاستعدادَين على الآخر، وأنها بالضرورة ستتحدد وفقا للاستعداد الذي يغلب. وبالتالي، فإنّ القوة التي تمتلكها النفس لتحديد اختيار الأفكار الفاضلة أو الرذيلة تعتمد بشكل مطلق على استعدادات الدماغ. لذلك، نقول بعبارة أدق، ليس للنفس في حد ذاتها القدرة على تحديد ذاتها، بل إنّ ميول الدماغ هي التي تحددها إما للرذيلة أو الفضيلة وبالتالي فإنّ أفكار الروح ليست أبدًا حرة. إذا جمعنا الحالتين فسيتبيّن إما أنّ أفكار النفس هي حرة دائمًا، أو أنها لا تكون حرة أبدًا. لكن في الحقيقة وفي ما هو معترف به لدى الجميع فإنّ أفكار الأطفال، وأفكار أولئك الذين يحلمون، وأولئك الذين يعانون من الحمى الساخنة، والمجانين، ليست أفكارا حرة أبدًا.
من السهل التعرف على قلب الرحى لهذا الاستدلال، فهو يقيم مبدأً موحداً في النفس، بحيث يكون المبدأ دائمًا إما مستقلاً عن استعدادات الدماغ، أو تابع لها باستمرار، بينما يُفترض في الرأي العام، أحيانًا أنه تابع لها، وفي أحيان أخرى مستقل عنها.
ويقال إنّ أفكار المصابين بالحمى والمجانين ليست حرة، لأن الاستعدادات المادية للدماغ تضعف وترتفع إلى درجة لا تستطيع النفس مقاومتها، بينما تكون استعدادات الدماغ معتدلة لدى الأصحاء، ولا تؤثر على النفس بالضرورة. لكن:
1- المبدأ داخل هذا النظام، غير موحَّد، وبالتالي يجب التخلي عنه، إذا كنت قادرا على أن أفسر الكل بواحد يكون موحِّدا.
2- كما قلنا سابقًا، إذا كان من غير الممكن لثِقل وزنه خمسة أرطال أن يُغلب بثقل وزنه ستة أرطال، فلن يُغلب بثقل وزنه ألف رطل أيضًا، لأنه قاوم وزنًا قدره ستة أرطال بمبدأ مستقل عن الثقالة: هذا المبدأ، أيّا كان، هو ذا طبيعة مختلفة تمامًا عن طبيعة الأوزان، وليس له تناسب مع ثقل وزنه ألف رطل أكثر من تناسب له مع ثقل وزنه ستة أرطال. وهكذا، إذا كانت النفس قد قاومت استعدادًا ماديًا للدماغ قد يقودها إلى اختيار الرذيلة، فلأنه قد كان استعدادا أقوى من الاستعداد المادي لاختيار الفضيلة. يجب على النفس أن تقاوم هذا الاستعداد المادي للرذيلة حين تكون فوق الآخر، فما كان لها أن تقاومه في البداية إلا لوجود مبدأ كان مستقلا عن استعدادات الدماغ، وهو مبدأ لا يجب أن تغيره استعدادات الدماغ.
3- فإذا استطاعت النفس أن ترى بوضوح شديد، على الرغم من استعداد العين لأن تُضعِف البصر، فسنستنتج أنها ستظل ترى على الرغم من استعداد العين الذي من المفروض أنه يمنع الرؤية تمامًا، لأنها عين مادية.
4- نحن متفقون على أنّ النفس تعتمد مطلقًا على استعدادات الدماغ في ما يهم العقل من قريب أو من بعيد. رغم ذلك وفيما يتعلق باختيار الفضيلة أو الرذيلة، فإنّ استعدادات الدماغ لا تحدد اختيار النفس إلا حين تكون الاستعدادات متطرفة، وحين تكون تلك الاستعدادات معتدلة فإنها تترك للنفس الحرية بحيث يمكن للإنسان أن يحصل على الكثير من الفضيلة، على الرغم من ميله القليل إلى الرذيلة: يجب أن يوجد أيضًا الكثير من الذكاء، على الرغم من الميل القليل إلى الغباء، وهو أمر لا يمكننا إلاّ أن نعترف به. صحيح أنّ العمل يضاعف العقل، أو بتعبير أدق، هو يقوي استعدادات الدماغ، “فيينمو” العقل بقدر ما يكتمل الدماغ.
خامسا، نعتقد، أنّ الفرق كله بين الدماغ اليقظ والدماغ النائم هو أن الدماغ النائم يكون أقل امتلاءً بالأفكار، وأنّ الأعصاب أقل توتراً، وذلك لكي لا تنتقل الحركات من عصب إلى آخر، والعقول التي تفتح أثراً ما لا تعيد فتح آخر مرتبط به. وهذا يفترض أنه إذا كانت النفس قادرة على مقاومة استعدادات الدماغ، عندما تكون ضعيفة، فهي دائماً حرة في الأحلام، حيث تكون استعدادات الدماغ التي تقودها إلى أشياء معينة ضعيفة جداً دائماً. وإذا قلنا ذلك فلأن ما يمثُل للنفس إلا نوع من الفكر الذي لا يقدم أي موضوع للمداولة، آخذ مثال الحلم الذي يتداول فيه المرء ما إذا كان سيقتل صديقه، أو ما إذا كان لن يقتله، وهو ما لا يمكن أن تنتجه إلا الاستعدادات المادية المتضاربة. وفي هذا، يبدو وفق مبادئ الرأي العام يجب أنّ النفس يجب أن تكون حرة.
أفترض أننا سنستفيق من النوم إن كنا مصمّمين أثناءه على قتل صديقنا، وأنه بمجرد أن نستفيق لم نعد نود قتله. كل تغيير يطرأ في الدماغ سببه امتلاؤه بالأفكار (1)، وتوتر الأعصاب: يجب أن نرى كيف ينتج كلُّ ذلك الحرية. إنّ الاستعداد المادي للدماغ الذي أخذني إلى الحلم بقتل صديقي كان أقوى من الاستعداد الآخر في اليقظة. أقول إما أنّ التغيير الذي يحدث لدماغي يعزّز الاستعدادَين بالتساوي، فيظلا على نفس الحالة التي كانا عليها، فإذا بقى أحدهما مثلا أقوى بثلاث مرات من الآخر، فلا يمكنك أن تفهم لماذا تكون النفس حرة، وعندما تكون لإحدى هذه الاستعدادات عشرَ درجات من القوة، والأخرى لها ثلاثون درجة، فلن تفهم لماذا لا تكون النفس حرة إذا كانت لإحدى هذه الاستعدادات درجة واحدة فقط من القوة، وللأخرى ثلاث درجات.
إذا كان هذا التغيير في الدماغ قد أدى فقط إلى تعزيز واحدة فحسب من هذه الاستعدادات، فعليّ، حتى أتمكن من إثبات الحرية، أن أقرّر ضدّها أي ضدّ تلك الاستعدادات التي قادتني إلى الرغبة في قتل صديقي وذلك لكن لن تكون حينها قادرًا على فهم السبب الذي جعل تلك القوة القائمة في ذاك الاستعداد الخبيث ضرورةً، وذلك حتى أتمكن من تحديد اختياري لصالح الاستعداد الفاضل التي يظل هو ذاته. يبدو هذا التغيير بالأحرى حاجزًا أمام الحرية. وأخيرًا، إذا كان هذا التغيير يعزز استعدادا ما أكثر من استعداد آخر، فلا بد أن يكون ذاك الاستعداد الخبيث، وحينها لن تستطيع أن تفهم أيضًا لماذا كانت القوة القائمة في ذاك الاستعداد ضرورةً حتى تمكّن أحد الاستعدادين من اكتناف الآخر الذي يكون دائمًا أضعف، رغم أنه أقوى من ذي قبل.
فإذا قيل إنّ ما يمنع حرية النفس أثناء النوم هو عدم حضور الأفكار فيها بما يكفي من الوضوح والتمييز، فسأجيب بأنّ عدم الوضوح والتمييز في الأفكار يستطيع أن يكون لها مانعا أن تحدد اختيارها بما يكفي من معرفة، لكنه لا يستطيع أن يمنعها من تحديد اختيارها بحرية، ويجب ألاّ يمنع عنها الحرية، بل يحرمها فقط من استحقاق أو عدم استحقاق القرار الذي تتخذه. إن ظلمة الأفكار واضطرابها يجعلان النفس لا تعرف جيدًا ما تفكر فيه، لكنهما لا يؤديا بالضرورة إلى تحيز النفس إلى طرف ما، فإذا كانت النفس مضطرة إلى التحيز لكان بلا شك بسبب أفكارها الغامضة والمضطربة وهو من أقل الأمور، وأود أن أسأل هنا لماذا يحدد المزيدُ من وضوح الأفكار وتميزها هذه النفسَ أثناء النوم وليس أثناء اليقظة، وسأستعيد حينها كل الحجج التي قدمتها بشأن الاستعدادات المادية.
دعونا الآن نتناول الاعتراض في أجزائه. أوافق أولاً على المبادئ الثلاثة التي يطرحها الاعتراض. ومع ذلك، فلننظر في الحجة التي يمكننا تقديمها ضد الحرية. يقال لنا إما أنّ النفس تستطيع تحديد الاختيار بشكل مطلق في توازن استعدادات الدماغ للاختيار بين الأفكار الفاضلة والأفكار الخبيثة (2)، أو إنها لا تستطيع تحديد الاختيار بشكل مطلق في هذا التوازن. إذا كانت قادرة على تحديد الاختيار فمعناه أنه لديها في ذاتها القدرة على تحديد ذاتها. لا توجد أمامنا صعوبة حتى الآن، غير أنّ الاستنتاج بأنّ قدرة النفس على تحديد اختيارها مستقلة عن أحوال الدماغ (3) ليس صحيحًا تمامًا. إن كنت تقصد بذلك ما نعنيه عادة، وهو أن الحرية لا تقيم في الجسد وأنّ الروح هي مقرها ومصدرها وأصلها، فلن يكون لي أيّ جدال معك، ولكن إذا أردتَ أن تستنتج من ذلك أنه كيفما كانت الأحوال المادية للدماغ، فإنّ الروح لها دائمًا القدرة على تحديد الاختيار الذي يرضيها فسأنكر عليك ذلك ساعتها. والسبب هو أنّ النفس، لكي تحدد اختيارها بحرية، يجب عليها أن تمارس بالضرورة جميع وظائفها، ولكي تمارسها، فإنها تحتاج إلى جسد مستعد لطاعة جميع أوامرها، تمامًا كعازف العود، الذي يجب أن يكون له عود مشدود الأوتار ومضبوط لتُعزف الألحان بدقة: ولكن قد يحدث تبعا لذلك أن تكون الاستعدادات المادية للدماغ في حالة لا تتمكن النفس فيها من أداء جميع وظائفها بما في ذلك ممارسة الحرية: ذلك أنّ الحرية تتمثل في قدرة الإنسان على تثبيت أفكاره، واستحضار أفكار أخرى لمقارنتها في ما بينها، وتوجيه الأفكار وتثبيتها في الحالة التي يجب أن تكون عليها لمنع الفكرة من الإفلات، ومعارضة سيل الأذهان الأخرى التي قد تطبع في النفس أفكارا أخرى رغما عنها. لكن يحدث أن يكون الدماغ في بعض الأحيان في حالة ما تجعل تلك القدرة مفقودة تمامًا في النفس، كما يظهر ذلك مثلا لدى الأطفال، ولدى أولئك الذين يحلمون، وما إلى ذلك. فلنُنزل في الماء سفينة سيئة الصنع، ودفة سيئة الصنع، فلن يتمكن الربّان بكل ما لديه من مهارة، من توجيهها كما يشاء: وبنفس الأمر، سينتج الجسم سيئ التكوين وفاسد المزاج أفعالا غير منظمة. ولن يتمكن الفكر البشري من توفير علاج لهذا الاضطراب لتصويبه كما لم يتمكن الربان من تقديم إصلاح لاضطراب حركة سفينته.
لكن أخيرًا، قد تقول لي، هل القدرة التي تمتلكها النفس لتحديد اختيارها تعتمد بشكل مطلق على استعدادات الدماغ أم لا؟ إذا قلتَ إنّ قوة الفكر هذه تعتمد بشكل مطلق على استعدادات الدماغ، فستقول أيضًا إنّ النفس لن تحدد اختيارها أبدًا إذا لم تتغلب إحدى استعدادات الدماغ على الأخرى، وأنها ستنتصر بالضرورة للاستعداد الذي غلب. لكن على العكس من ذلك، إذا كنت قد افترضت أنّ هذه القدرة مستقلة عن استعدادات الدماغ، فوجب عليك أن تعترف بأنّ أفكار الأطفال وأولئك الذين يحلمون وما إلى ذلك هي أفكار حرة. إن قلتَ ذلك فسأجيب بأنّ القدرة التي للنفس على تحديد اختيارها مرتهنة أحيانًا باستعدادات الدماغ وأحيانًا أخرى مستقلة عنها. هي مرتهنة بها عندما لا يكون الدماغُ، الذي يخدم النفس كعضو وكأداة لممارسة وظائفه، في وضع جيد. فعندما تكون نوابض الآلة مختلة، تُساق النفس دون أن تكون قادرة على ممارسة حريتها. لكن القدرة على الاختيار تكون مستقلة عن الاستعدادات الماديّة للدّماغ عندما تكون هذه الاستعدادات معدّلة، وعندما يكون الدماغ مليئا بالأفكار، وعندما تكون الأعصاب مشدودة. تكون الحرية أكثر اكتمالا كلما كان عضو الدماغ أفضل تكوينا، وكلما كانت أحواله أكثر توازنا. لا أستطيع أن أرسم لك الحدودَ التي تتلاشى الحريةُ بعدها. لكن كل ما أعرفه هو أنّ القدرة على الاختيار ستكون مستقلة تمامًا عن استعدادات الدماغ كلما كان الدماغ مليئًا بالأفكار، وكانت أليافه ثابتة وصلبة، وكانت نوابض الآلة عصية أبدا عن التفكيك سواء بالحوادث أو بالأمراض. قد تقول إنّ المبدأ ليس منسجما في النفس. سيكون أكثر اتساقًا مع الفلسفة أن تفترض أنّ النفس هي إما حرة دائمًا أو عبدة دائمًا. أما أنا فأقول إنّ التجربة هي الفيزياء الحقيقية الوحيدة. لكن ماذا تخبرنا هذه التجربة؟ تخبرنا أننا نكون أحيانًا مستسلمين رغمًا عنا، ومن هنا أستنتج أننا في بعض الأحيان نكون أسيادَ أنفسنا، المرض يدلّ على الصحة، والحرية هي صحة النفس، فانظر هنا في “الخطاب الثاني” حول الحرية، أي في هذا الاستدلال الذي طرّزه “السيد فولتير” بكل فضائل الشعر وزيّنه بها:
الحرية، كما يقال، تُؤخذ منك أحيانًا:
أرادها لك الله ثابتة ولامتناهية
ومساوية في كل الأحوال وفي كل الأزمنة، وفي كل الأمكنة؟
أقدارك هي أقدار إنسان، ونذورك هي نذور إله
ماذا! في هذا المحيط، هذه الذرّة التي تسبح
ستقول: لا بد أن تكون الضخامة من نصيبي
كلاّ، كل شيء ضعيف فيك، ومتغير، ومحدود
قوتك، روحك، أطرافك، جمالك.
للطبيعة في كلّ الاتجاهات حدود مقدّرة سلفا،
فهل ستكون القدرة الإنسانية وحدها بلا حدود؟
لكن قل لي: حين يكون قلبك المتشكل من الأهواء
مستسلما، رغماً عنه، لانطباعاتها
حين يشعر بحريته مهزومة في معاركه،
لقد كانت بداخلك إذن، بما أنك خسرتها
حمى مشتعلة تهاجم نوابضك،
تأتي بخطوات متفاوتة لتقويض جسدك الضعيف.
لكن ماذا! بهذا الخطر المنتشر على حياتك،
صحتك لن تُدمّر أبدا
نراك عائدا من أبواب الموت
أكثر حزما، وأكثر سرورا، وأكثر اعتدالا، وأقوى.
اِعرف جيدا الهدية السعيدة التي ناشدها حزنك،
الحرية في الإنسان هي صحة الروح.
نفقدها في بعض الأحيان. التعطش للعظمة،
الغضب والكبرياء والحب المرتَشى،
تنشأ المظاهر المظلِّلة من رغبة راكبة هواها
وحسرتاه! ما أكثر أمراض القلب! (4)
]…[ (أ) إنّ واحدة من أفظع الحجج التي تم طرحها ضد الحرية هي استحالة التوفيق بينها وبين المعرفة الغيبية الإلهية (1). وُجد فلاسفة متمسّكون جدّا بالقول إنّ الله يستطيع أن يتجاهل المستقبل، إن أمكن لنا التحدث بهذه الطريقة، تمامًا كما يمكن للملك أن يتجاهل ما يفعله القائدُ الذي أعطاه تفويضًا مطلقًا، إنه إحساس السوسينيين (2).
ويرى آخرون أنّ الحجة القائمة على الاعتقاد الراسخ في المعرفة الغيبية الالهية لا تمس بأي حال من الأحوال مسألة الحرية، لأنها، كما يقولون، معرفة لا تحتوي على يقين آخر غير ذلك الذي يمكن أن يوجد أيضًا في الأشياء، هذا حتى إن لم تكن تلك المعرفة موجودة أصلا. كل ما هو موجود اليوم موجود بالتأكيد، ولقد كان بالأمس ومنذ الأزل موجودا وحقيقيا بمثل حقيقة وجوده اليوم، كما هو الآن موجود على وجه اليقين. هذا اليقين بالحدث هو نفسه دائمًا، ولا تُغير المعرفة الغيبية شيئًا فيه. هو بالنسبة للأشياء المستقبلية بمثل المعرفة بالأشياء الحاضرة، وبمثل الذاكرة بالنسبة للأشياء الماضية: لكن، كلا هاتين المعرفتين لا تفترضان أية ضرورة لوجودها في الشيء، ولكنها فقط يقين بحدث لن يتوقف عن الوجود، حتى لو لم تكن هذه المعرفة موجودة. حتى الآن كل شيء واضح. لكن تكمن الصعوبة، وستظل دائمًا كذلك، في تفسير كيف يمكن لله أن يتنبأ بالأشياء المستقبلية، وهو ما لا يبدو ممكنًا اللهم إذا افترضنا وجود سلسلة من الأسباب الضرورية. رغم ذلك، نستطيع أن نكوّن فكرة عامة عن الأمر. يستطيع إنسان فطن التنبؤ بالحل الذي سيتجه إليه شخص يعرف تصرفاته في وضعية ما. فمن باب أولى يمكن لله، ذي الطبيعة الأكثر كمالًا من الإنسان، أن تكون لديه عبر التنبّؤ معرفة أكثر يقينًا بالأحداث الحرة. أعترف أنّ كل هذا قد بدا لي مخاطرة كبيرة، وأنه إقرار وليس حلاً للصعوبة. أعترف، أخيرًا، أنّ هناك اعتراضات ممتازة ضد الحرية، غير أننا نصنع بنفس القيمة اعتراضات ضد وجود الله وضد الخلق وضد العناية الإلهية. فعلى الرغم من الصعوبات الشديدة التي تواجهني فإنني أؤمن بالعناية الإلهية والخلق. لذلك أعتقد أنني حرّ، على الرغم من الاعتراضات القوية التي سيتم تقديمها دائمًا ضد هذه الحرية الحزينة. وكيف لا أؤمن بها؟ فهي تمتلك كل خصائص الحقيقة الأولى. لم يسبق أن كان الرأي كونيا بمثل هذا الحدّ داخل الجنس البشري. إنها حقيقة لا يحتاج توضيحها إلى تعميق استدلالات الكتب: إنها ما تصرخ به الطبيعة، وهي ما يتغنى به الرعاة على الجبال والشعراء على المسارح وما يعلّمه الدكاترة على كراسي العلم، وهي ما يتكرر في كل مناحي الحياة وما يُفترض وجودها فيها. إنّ القلّة القليلة من الذين أرادوا، بتأثير التفرد، أو بالتأملات الشنيعة، أن يقولوا أو يتخيلوا العكس، ألاّ يُظهرون هم أنفسهم بسلوكهم زيفَ أقوالهم؟ يقول “فينيلون” اللامع، اعرض أمامي إنسانا يلعب دور الفيلسوف العميق وينكر الإرادة الحرة: لن أجادله، ولكنني سأختبره داخل أكثر مناسبات الحياة شيوعًا لإرباكه بنفسه. سأفترض أنّ زوجته تخونه وأنّ ابنه يعصيه ويحتقره، وأنّ صديقه يغدر به، وأنّ خادمه يسرقه. عندما يشتكي منهم سأقول له: ألا تعلمْ أنْ لا أحد منهم مخطئ، وأنهم ليسوا أحراراً في فعل غير ما فعلوه؟ إنهم، باعترافك، مضطرون بشكل لا يُقاوم إلى إرادة ما يريدون بنفس شاكلة الحجر المضطر إلى السقوط عندما لا ندعمه. أليس من المؤكد إذًا أنّ هذا الفيلسوف الغريب الذي تجرّأ على إنكار حرية الإرادة في المدرسة قد افترض أنها يقينية في منزله، وأنه لن يكون أقل عنادًا ضد هؤلاء الأشخاص مما لو كان قد أيّد طوال حياته عقيدة الحرية العظمى؟
شاهد من زاوية الحرية هذا العدو المتمرد،
هذا النصير الأعمى لقدَر أعمى.
اسمع كيف يتشاور، أو يوافق أو يتداول،
اسمعوا ما هو اللوم الذي يغطي به الخصم.
انظر كيف يسعى للانتقام من منافسه،
وكيف يعاقب ابنه وكيف يريد تصويبه.
هو يظن أنّ ابنه حرّ؟ ربما نعم، ويظنّ أنه هو نفسه حرّ
يُكذّب في كل خطوة له نظامه الكارثي
لقد كذب على قلبه حين أراد يشرح
العقيدة السخيفة في الإيمان بها وفي ممارستها.
هو يعترف في نفسه بالشعور الذي يتحداه
هو يتصرف كالحٌرّ ويتحدث كالعبد.
(فولتير، الخطاب الثاني حول الحرية.)
ركز السيد بايل (3) بشكل خاص على إفساد الحجة القائمة على الشعور القوي الذي لدينا تجاه حريتنا. وإليكم تعليلاته: «دعونا نقول أيضًا إنّ الشعور الواضح والصريح الذي لدينا بأفعال إرادتنا لا يمكنه أن يجعلنا نميز ما إن كنّا نعطيها لأنفسنا أو ما إذا كنا نتلقاها من نفس السبب الذي يمنحنا الوجود: يجب علينا أن نلجأ إلى التفكير للقيام بهذا التمييز. لكن أنا أعلم أنه من خلال التأملات الفلسفية البحتة لا يمكننا أبدًا التوصل إلى يقين راسخ بأننا العلة الفعّالة لإرادتنا، لأنّ أيّ شخص يفحص الأشياء بعناية سيعرف بوضوح أننا لو كنا مجرد فاعلين سلبيين تمامًا فيما يتعلق بالإرادة، لكانت لدينا نفس مشاعر التجربة التي لدينا عندما نعتقد أننا أحرار. لنفترض، من أجل المتعة فقط، أنّ الله قد نظم قوانين اتحاد النفس والجسد بطريقة ما بحيث كانت جميع أحكام النفس مترابطة ضرورة فيما بينها مع توسط أحكام الدماغ، فسوف تفهم حينها أنّ ما سيصلك هو فقط ما نحس به إذ سيكون في ذاتنا نفس سلسلة الأفكار منذ إدراك مواضيع الحواس، وهي الخطوة الأولى، إلى الإرادة الأكثر ثباتا، وهي الخطوة الأخيرة. سيوجد داخل هذه السلسلة الشعور بالأفكار والشعور بالتأكيدات والشعور بالتردد والشعور بالنوازع والشعور بالإرادة: لأنه سواء كان فعل الإرادة قد طُبع فينا بسبب خارجي أو أنّنا قد أنشأناه بأنفسنا فسيكون صحيحًا أيضًا أننا نريد وأننا نشعر بما نريد، وبما أنه بإمكان هذا السبب الخارجي أن يدخل كل ما أمكنه من متعة داخل الإرادة التي يطبعها، فإنّنا نشعر أحيانًا أنّ أفعال إرادتنا تسعدنا إلى ما لا نهاية… ألا تفهموا بوضوح أنّ دوّارة الرياح التي نطبع عليها دائما وفي نفس الوقت الحركةَ المتجهة نحو نقطة معينة من الأفق ونطبع عليها كذلك الرغبةَ في الانعطاف في ذلك الاتجاه، ستتصور أنها تتحرك من تلقاء نفسها لتنفيذ الرغبات التي كوّنتها؟ أفترض أنها لم تكن تعلم أنّ هناك رياحًا وأنّ هناك سببًا خارجيًا أدى في نفس الوقت إلى تغيير وضعها وتغيير رغباتها. فها نحن طبيعيا في هذه الحالة، إلخ. “
كل هاته البراهين التي قدمها السيد “بايل” جميلة جدًا، ولكن من المؤسف أنها ليست مقنعة: فهي تربك منطقنا، لا أعرف رغم ذلك كيف لا تؤثر فينا. حسنًا، هل يمكنني أن أقول للسيد “بايل” إنك تقول إنني لست حرًا: فشعورك الخاص لم يتمكن من انتزاع هذا الاعتراف منك. حسب رأيك، ليس من الواضح ما إذا كان الأمر يتعلق فقط باختياري وإرادتي في تحريك يدي أو عدم تحريكها: إذا كان الأمر كذلك، فسيكون من المحتم ضرورة أنه من هنا إلى ربع الساعة سأرفع يدي ثلاث مرات متتالية أو إنني لا أرفعها هكذا ثلاث مرات. إذن لا أستطيع تغيير أي شيء بشأن هذا االمخطط المتسم بالضرورة؟ هذا سأفترض أنني إذا راهنت على طرف دون الآخر فلن أتمكن من الفوز إلا بطرف واحد. إذا كنتَ تزعم جديًا أنني لست حرًا، فلا يمكنك أبدًا رفض العرض الذي سأقدمه لك: وهو أن أراهن، فيما يتعلق بموضوع حركة يدي، بألف “بيستول” (4) ضدك مقابل نقد واحد، وسأقوم بتقديم نقيضَ ما ستراهن عليه تمامًا، وسأسمح لك باختيار هذا الجانب أو ذاك كما يحلو لك. هل هناك عرض أكثر نفعا؟ لماذا إذن لن تقبل التحدي أبدًا دون أن تبدو مجنونًا ودون أن تكون كذلك بالفعل؟ إذا كنت لا تحكم على ذلك بأنه نافع، فمن أين يمكن أن يأتي هذا الحكم، إن لم يكن من الحكم الذي تؤكده بالضرورة وبلا إكراه أنني حر، لذلك سيكون الأمر متروكًا لي لأجعلك تخسر في هذه اللعبة، ليس فقط ألف “بيستول” في المرة الأولى التي نراهن فيها بها، ولكن أيضًا ستخسر خلال عدد المرات التي نكرر فيها الرهان.
يمكننا أن نضيف إلى أدلة العقل والشعور تلك الأدلة التي توفرها لنا الأخلاق والدين. اسلبوا الحرية وسترون أنّ الطبيعة الإنسانية قد انقلبت كلها رأسا على عقب ولم يعد هناك أيّ أثر للنظام في المجتمع. إذا لم يكن الناس أحرارًا في ما يفعلونه من خير وشر، فلن يكون الخير خيرًا ولا الشر شرًا. إذا كانت الضرورة المحتمة والتي لا تقهر هي التي تجعلنا نريد كل ما نريده، فإنّ إرادتنا ليست مسؤولة عمّا تريده أكثر من أن يكون النابض في الآلة مسؤولا عن الحركة التي طُبعت فيه: من السخافة في هذه الحالة، أن نهاجم الإرادة ونستهدفها، بل يجب أن نعود مباشرة إلى ذاك السبب كما لو أنني أعود إلى تلك اليد التي تحرّك العصا بغير أن أتوقف عند العصا التي لا تضربني إلا بقدر ما تدفعها هذه اليد إلى الضرب. أقول مرة أخرى، اسلبوا الحرية، فلن تتركوا على الأرض لا رذيلة ولا فضيلة ولا جدارة، فالمكافآت سخيفة والعقوبات جائرة: كل إنسان لا يفعل إلا ما يجب عليه فعله لأنه يتصرف وفق الضرورة، ولا يجب عليه أن يتجنب ما لا يمكن تجنبه ولا أن يقهر ما لا يمكن قهره. كل شيء على ما يرام بنظام، لأن النظام هو أن كل شيء يخضع للضرورة. إنّ تدمير الحرية يطيح معه بكل نظام وكل تحضّر، ويخلط بين الرذيلة والفضيلة، ويبيح كل عمل شائن ووحشي، ويطفئ كل استحياء وكل إحساس بالندم، ويحط من قدر الجنس البشري بأكمله ويشوهّه عبثا. لا يجب أن يُعلَّم في المدرسة أبدا هذا الاعتقاد االرهيب، بل يجب أن يعاقب عليه القانون.
آه، بدون الحرية، ماذا ستكون نفوسنا!
مجرّد بواعثَ تحرّكها نيران لا تُغلَب،
أمانينا، أفعالنا، مُتَعنا، اشمئزازاتنا،
في كلمة واحدة، لا شيء من كينونتنا سيكون لنا
من صانع أعلى الآلات العاجزة التي لا حول لها ولا قوة،
إنسان آلي مفكر، تحركه الأيدي الإلهية،
سنكون مشغولين إلى الأبد بالكذب،
أدواتا خسيسة لإله خدعنا.
فكيف، بدون الحرية، سنكون صُوَره؟
ماذا سيعود إليه من خام أعماله؟
لذلك، لا يمكننا أن نرضيه، ولا يمكننا أن نسيء إليه،
ليس لديه ما يعاقبه، ولا شيء يكافئه.
في السماء، على الأرض، لم يعد هناك عدل:
وكان كاتون (5) بلا فضيلة، وكاتلين (6) بلا رذيلة.
القدر يقودنا إلى نوازعنا الفظيعة،
وفوضى العالم هذه، مصنوعة للأشرار.
للمعتدي الوقح الغاصب الجشع،
كارتوش (7)، ميفيفيس، أو أيّ متوحش آخر
ومعهم أخيرا المفتري وهو أكثر منهم إثما
سيقول كل واحد منهم أنا لم أفعل شيئًا، الله وحده هو الفاعل،
لست أنا، بل هو من ناقض كلمتي،
هو من يضرب بيديّ وينهب ويحرق ويغتصب.
وهكذا فإنّ إله العدل والسلام
هو الذي يقوم بالقلاقل، فهو إله الكبائر.
فهل إنّ الأنصار التعساء لهذه العقيدة المروعة،
سيقولون شيئًا أكثر من ذاك إن كانوا يعبدون الشيطان؟ (8)
(يتبع)
المصدر: الموسوعة أو المعجم العقلاني للعلوم والفنون والحرف
( المجلد رقم 9، الطبعة الأولى، باريس 1765)
مقال شارك في تأليفه أو مراجعته: دنيس ديدرو، جاك أندري نيجون، القس كلود إيفون.
*********************
الموسوعيان جان لورون دالمبير (1717- 1783) و دنيس ديدرو (1713- 1784)
*******************************
هوامش المترجم:
أ- حذفنا من النص الأصلي ثلاث فقرات وردت بين الجزء الثالث والجزء الرابع من ترجمتنا له لأنها لا تضيف شيئا ذا قيمة كبرى إلى فهم نص المقال برمته. ضيق مساحات النشر حتمت علينا الاستغناء عنها.
1- المعرفة الغيبية الإلهية هي الترجمة التي نقترحها للمفهوم المسيحي La prescience المستعمل في هذا المقال للحرية. يحتوي ذاك المفهوم على دلالة معرفة الله المسبقة بكل ما جرى من أحداث في الماضي و ما يجري منها في الحاضر وما سيجري منها في المستقبل. ويحتوي أيضا على دلالة الجبرية والقدرية أي الحتميات الربانية الدينية التي تثير الكثير من الاحرجات إزاء مسألة الحرية والإرادة الإنسانية.
2- السوسينيون: Les Sociniens، هم فرقة من الإخوان المسيحيين التي ظهرت بأوروبا منذ القرن السادس عشر وفي ساعة مبكرة جدّا من الإصلاح الديني اللوثري. كانوا ينقدون الفساد المالي للكنيسة الكاثوليكية، يؤمنون بالتسامح الديني ويرفضون تدخل الدولة في الدين.
3- واضح جدّا هنا أنّ نص “موسوعة ديدرو” يستحضر مباشرة مسألة الحرية والضرورة كما تشكلت في فلسفة سبينوزا وبيار بايل (1706 1647-:P. Bayle) الذي يُعدّ من أبرز الذين عرّفوا بسبينوزا في الفلسفة الفرنسية الحديثة. من أهم مؤلفات “بايل” المعجم التاريخي والنقدي الذي نشر في أول طبعة عام 1697، والذي خص فيه بايل سبينوزا بمقال رائع جدّا يتجاوز حجمه الخمسين صفحة. ستحتضر بقية المقال أيضا تصورات ليبنيتز وهوبز للحرية والحتمية.
4- بيستول : (Pistole) عملة من الذهب، اسبانية، كانت متداولة في أوروبا من القرن 16 إلى القرن 18 تقريبا.
5- كاتون: (Caton) هو ماركوس بوريسيوس المعروف بالكنية كاتون ( 234ق. م. – 149ق. م.)، روماني، كان أوّل من كتب باللاتينية تاريخ ايطاليا. من كتبه الشهيرة “الأصول” و “تاريخ ايطاليا” و “في الفلاحة”. شارك في الحرب البونية الثانية. عُرف بمقولته الشهيرة “يجب تدمير قرطاج” التي كان يبدأ بها ويختم بها جميع خطاباته في مجلس الشعب الروماني. (Delenda est Carthago)
6- كاتلين: (Catilina) هو لوسيوس سارجيوس كاتيلينا (108ق. م. – 62ق. م.)، قاضي وسياسي روماني معاصر لسيسرون، كان بروقنصل في افريقية مدة سنتين، شارك في محاولتين انقلابيتين على مجلس الشعب في الجمهورية الرومانية.
7- كارتوش: (Cartouche) هو لوي دومينك قارتهوسان المعروف بالكنية كارتوش (فرنسي 1693- 1721). أشهر زعيم عصابات اللصوص وقطاع الطرق بباريس. حُكم بالاعدام وجرّ معه مئات أفراد عصابته إلى نفس الحكم. حاز على مكانة هامة جدّا في مخيال الأساطير الشعبية ومخيال الأدباء مثل ألكسندر دوما، كما كان موضوعا لعدة أفلام سينمائية.
8- هذه المقاطع الشعرية هي من قصيد فولتير، الخطاب الثاني، حول الحرية.
*******************************
هوامش الترجمة:
1- الأفكار: ترجمنا بها هنا اللفظ الفرنسي Les esprits.
2- الأفكار: ترجمنا بها هنا اللفظ الفرنسي Les pensées.
3- استعدادات الدماغ: ترجمنا بها اللفظ الفرنسي Les dispositions du cerveau الذي يحصل أن نترجمه أيضا أحوال الدماغ.
4- هذا جزء من قصيد فواتير الشهير “الخطاب الثاني” حول الحرية الذي نشره عام 1734.